الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله الطيبين ورضي الله عن صحابته أجمعين.
أما بعد
مما ينبغي تقديمهُ والتّوطئة له، لفهم الفلسفات والأفكار، والشخصيات والرموز التي لها شأن وتأثير في العقيدة والتاريخ، أن نعرف مصادرها وجذروها، قبل الانشغال بتتبّع جزئيّاتها، أو الاستغراق في النظر في تفاصيلها، وما يترتّب عليها من لوازم ومآلات.
فإنّ هذا من أعظم ما يُعيننا بالضرورة على فهمها، ويُمكّننا من الحكم العادل عليها، وبغير هذه الخُطّة الحكيمة، والطريقة القويمة، سوف يَتيهُ الباحث الجادّ في معرفة السبب الموجب لهذه المقالات، والنصّ المؤسس لهذه الشطحات والأفكار.
والمقصود أن تنظر للصورة الكليّة، والمنظومة الفكريّة من لحظة انبثاقها ثم تسلسلها وتطورها في عقول ومصنفات دعاتها والمُنظّرين لها.
وذلك بأن تُردّ هذه الجزئيات والتفاصيل والمقالات المتناثرة إلى أصولها، وأن تُعاد الفروع والأغصان المبعثرة إلى شجرتها، حتى تُفهم على حقيقتها، وتُقرأ على الوجه الذي قرره أصحابها.
أقولُ هذا، لأنّنا رأينا بعض المعاصرين يصفون أولئك الفلاسفة والنُظّار الذين تخبّطوا في فهم خطاب الشريعة، وسلكوا طرائق مُحدثة في فهمها وتفسيرها أو الاعتراض عليها، بأنّهم من المفكّرين الأحرار، والعقلانيين المستنيرين الذين خرجوا عن عباءة التقليد، وتمردوا على الأفكار والقيم والأنماط السائدة، وخالفوا المنظومة الفكرية والاجتماعية التي كانت مهيمنةً في عصرهم.
وهذا لا يُسلّم لهؤلاء المزيّفين للحقائق، بل النّاظر في مقالات ومذاهب أولئك الفلاسفة، والدارس لأصولها، ومصادر انبثاقها، يجدُها متأثرة بديانات قديمة كالمانوية والمندائية، وفلسفات هرمسيّة وغنوصية، كانت مُعاصرة لهؤلاء، وسائدةً في بيئاتهم، فلم يكونوا هم المنتجين لها، ولم تكن عقولهم هي العقول التي تخلّقت فيها هذه الأفكار، بل هم من المتأثرين بها، المترجمين لمتونها، الشارحين لمقاصدها.
والحاصل، أنّ هؤلاء الفلاسفة درسوا هذه الأفكار والمقولات التي كانت متداولةً في عصرهم، وآمنوا بحقائقها، واعتقدوا مقتضياتها، ثم حاولوا بضرب من التأويل وبشوب من التزييف إيجاد المشروعيّة الدينية لها، بادعاء أنّ باطن النصوص وحقائقها تدلّ عليها، فجاءوا بمُخّ تلك الفلسفات وألبسوه لحاء الشريعة، كما وصف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فلسفة الغزالي صاحب الإحياء بذلك.
من هنا يظهرُ للنّاظر قوّة طرح شيخ الإسلام رحمه الله في الردّ على مقالات الخصوم، ونقض اعتراضاتهم، وعدله في الحكم عليها، لعلمهِ بحقائقها، ومعرفته الواسعة بتفاصيلها، وإحاطته بأصولها، والبيئات التي نبتت فيها، واللوازم الشنيعة الناتجة والمترتبة على تبنّيها، والاعتقاد بمصاديقها.
فهذا ذو النون المصري ت245، الذي هام به طوائف، وأنزلوه منزلة العصمة والقداسة، افتتانا بما يُظهره من زهد، ويدّعية من تنسّك، يقول عنه القفطي في أخبار الحكماء: ” ذو النون إبراهيم الأخميمي من طبقة جابر بن حيان في انتحال صناعة الكيمياء، وتقلد علم الباطن، والإشراف على كثير من علوم الفلسفة، وكان كثير الملازمة لبربا بلدة اخميم، فإنها بيت من بيوت الحكمة (الفلسفة) القديمة”.
وكذلك أبو بكر الرازي ت311 صاحب حيل المتنبئين ومخاريق الأنبياء، يقول عنه صاعد الأندلسي في طبقات الأمم: ” وكتابه في الطب الروحاني وغير ذلك من كتبه الدالة على استحسانه لمذهب الثنويّة في الإشراك، ولآراء البراهمة في إبطال النبوة، ولاعتقاد عوام الصابئة في التناسخ “.
ويقول عنه المسعودي في التنبيه والإشراف: ” وقد صُنّف على مذاهب الفيثاغوريين والانتصار لهم، وكان آخر من صنّف في ذلك أبو بكر محمد بن زكريا الرازي “.
يذكر أبو الريحان البيروني أنه طالع كتاب العلم الإلهي للرازي فوجده ” يبادي بالدلالة على كتب ماني، وخاصة كتابه الموسوم سفر الأسفار” بواسطة الجابري في تكوين العقل العربي.
أما إخوان الصفا وخلان الوفا، فلم يكونوا مبدعين ولا مستنيرين ولا دعاة للنهضة والحضارة، كما ينعتهم بعض المعاصرين، بل رسائلهم حُشيت بعلوم السحر والتنجيم، وكانوا ينقلون معارفهم من فلسفات هرمسية ومذاهب غنوصية، تأثّروا بها، وتشبّعوا بأفكارها، فهي تُحيل إلى هرمس مثلث الحكمة وإلى اغاثاديمون وفيثاغورس، فضلا عن تركيزها على النّفس وأنها جوهر خالد، والحثّ على تطهيرها وتزكيتها لتسترجع طبيعتها الروحانية الإلهية، وقد ظهرت آثار فلسفتهم جليّة في تطهير النّفس عند الغزالي في كيمياء السعادة ومشكاة الأنوار ومعارج القدس، وعلى الشيخ الرئيس ابن سينا في الرسالة الأضحوية، في إنكاره للمعاد الجسماني.
وكذلك الحلاج الحسين بن منصور ت309 صاحب الطواسين، له ديوانٌ يعتقد فيه أنّه الحقّ، وأنّ الله تعالى وتقدس، حلّ في صورته، مستدلا بحديث إنّ الله خلق آدم على صورته، بإرجاع الضمير إلى الله سبحانه .. !
وليس في الحديث دلالة على ما قصد إليه، إنّما هو -في حقيقة أمره- متأثّر بالغنوصية الهرمسية التي تقول بالأصل الإلهي للنّفس البشرية، فالنفوس البشرية في هذه الفلسفة كانت تعيش في الأصل في العالم الإلهي، ثم ارتكبت ذنبا، فكان عقابها هبوطها وسجنها في الأبدان، ولا يمكن نجاتها وخلاصها إلا بالتخلّص من هذا القميص (الجسد) بالفناء في الله.
والمقصود أنّ هذه كلها ثقافات دخيلة، وفلسفات وافدة من خارج دائرة الإسلام، تأثر بها من تأثر من هؤلاء، فكتموا أسرارها، وغيّبوا حقائقها، وألبسوها لباس الإسلام، وتأولوا الآيات والأحاديث لتشهد لها، وتُسبغ المشروعية الداعمة لها.
لكنّ العلماء الراسخين والأئمة المهديين رحمهم الله، كشفوا حقائقها، وأبانوا عن مصادرها، وزيّفوا مقالاتها، فحفظ الله دينه، وصان شريعته، وتركنا على محجّة بيضاء لا يزيغ عنها ولا يتنكّب طريقها إلا هالك.