طالب علم أم فارس قبيلة .. ؟
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد
المقصود من طلب العلم هو مرضاة الله سبحانه وتعالى بالتعرف على سبيل الحق، وطريق الهدى، واتباعه، والثبات عليه، ودعوة الناس إليه، والمنافحة دونه.
فلا يترك متقفر العلم الحق الذي استبان له من أجل سلطان الهوى أو رضوخا لسطوة الأشياخ أو تهيبا للمجتمع الذي نشأ وترعرع فيه.
بل إذا ظهرت لطالب العلم معالم الحق، وتبينت حقائقه، واستبانت أنواره، فإنه لا يدعه لتقليد ألفه، أو لتعاليم كان يلقنها، أو لعواقب يخوفه أشياخه بها، مهما كان الثمن الذي سيبذله في سبيل اتباع الحق، والاعتصام به باهظا وغاليا ومكلفا.
ومن سبر تراجم أهل العلم، ونظر في سيرهم، لحظ أن طائفة منهم كانت نشأتها، ومبادئ طلبها للعلم الشرعي في مجتمعات بدعية، يدين أهلها بضلالات وانحرافات، نشأ عليها صغيرهم وشاخ على التعبد بها كبيرهم، لكن هؤلاء العلماء الصادقين الذين تبين لهم الحق، وظهرت لهم أعلامه، لم يقنعوا بما كانوا عليه، ولم يهادنوا الجمود والتقليد في مجتمعاتهم، ولم يتصالحوا مع رموزه وسدنته، بل أعلنوا نبذهم لما كانوا عليه من اعوجاج في الفهم، وانحراف عن الجادة، وضلال عن سواء السبيل، فصاحوا بقومهم أنا قد هدينا إلى الجادة، فهلموا إليها ولا تعوجوا عنها يمينا أو شمالا.
وفي زماننا يلحظ الناظر في كثير من البلدان والأقاليم التي باضت وفرخت فيها البدع، أنه يتخرج من مدارسها وعلى أيدي شيوخها بعض طلبة العلم الأقوياء الذين تضلعوا من العلم، واتسعت علومهم، وتنوعت معارفهم، فيلحظ الناظر تعصبهم لبيئاتهم ومشايخهم، واستمساكهم بما ألفوه من رسوم وأحوال، فيجتهدون في الحماسة لها والدعوة لهذه الانحرافات والأباطيل، ويبحثون عن مخارج وتأويلات وحيل لتسويغها والاستدلال لها.
فبدلا من أن يكون الواحد من هؤلاء طالبا للعلم، باحثا عن الهدى، متجردا للحق، تراه كشاعر القبيلة في الجاهلية أو كفارسها المغوار الذي كان لا يهمه الحق من عدمه، ولا يعنيه أعشيرته ظالمة أم مظلومة، فلا يريد إلا نصرة قومه ورفعة شأنهم، والدفاع عنهم، والنيل من خصومهم بحق أو بباطل.
إن المسألة دين وقربة وطاعة لله، وليست خصومات وعنتريات يتعلم طالب علم الشريعة العلم من أجلها، ويتسلح بأصول العلم وقواعده وقوانينه من أجل نصرة قومه، وتحقيق الغلبة لهم، والمجادلة دونهم، والوقيعة في خصومهم، فالشريعة أجل وأسمى من أن تتخذ غرضا للهوى، بل الواجب في حق كل مكلف الخضوع لها والقبول والانقياد لما جاء فيها.
وإذا كان هذا مفهوما في شأن العرب قبل الإسلام عندما كان منطقهم منطق الثارات والغارات والمغالبة، فلا يمكن فهم هذا ولا استيعابه في حق من طلب علم الشريعة وسلك طريقها، وتقفر مواردها، واجتنى ثمارها، وتليت عليه الآيات البينة، والأحاديث الثابتة التي يجب عليه الإيمان بها والاستسلام لما جاء فيها، وأمر بأن لا يقدم بين يدي أحكامها ومطالبها محبة ونصرة قومه وفئته وطائفته، فيتدين بباطل أو يشاقق حقا بعدما تبينت له أعلام الهدى واتضحت دلائله.
كتبه محمد بن علي الجوني