الخطبة الأولى
الحمد لله الذي سهّل لعباده المتقين إلى مرضاته سبيلًا، وأوضح لهم طرقَ الهداية وجعل اتباعَ الرسولِ عليها دليلًا، واتخذهم عبيدًا له فأقروا له بالعبودية ولم يتخذوا من دونه وكيلًا، وكتب في قلوبهم الإيمانَ وأيدهم بروحٍ منه لما رضوا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمدٍ رسولًا، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين صلاةً دائمةً بدوام السماوات والأرضين مقيمةً عليهم أبدًا لا ترومُ انتقالًا عنهم ولا تحويلًا. أما بعد:
فإنّ أعظمَ نعمة يمنّ الله بها على العبد هي نعمة الهداية، قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} أَيْ: بِهَذَا الَّذِي جَاءَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنَ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ فَلْيَفْرَحُوا، فَإِنَّهُ أَوْلَى مَا يَفْرَحُونَ بِهِ مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا مِنَ الزَّهْرَةِ الْفَانِيَةِ الذَّاهِبَةِ لَا مَحَالَةَ، كَمَا قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ.
وقال الله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فعَمَّ بالدعوة خلقَه، وخَصَّ بالهداية من شاء منهم.
وإذا كانت الهداية أعظم نعمة؛ فإنه ينبغي على العبد أن يسأل الله أن يوفقه لها، وأن ييسر له أسبابها، وأن يصرف عنه موانعها.
وإنّ من نعمة الله على خلقه أن جعل طرَق الهداية وأسبابَها متنوعةً؛ رحمةً من الله بعباده ولطفًا بهم.
وأولُ طرقِ الهداية وأعظمها: توحيد الله وعدم الشرك به، فقد قال سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}، قال عبد الله بن مسعودٍ – رضي الله عنه -: لما نزلت هذه الآيةُ شقّ ذلك على أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “ليس كما تظنون، إنما هو كما قال لقمان لابنه: {يا بني لا تشرك بالله إن الشرك} لظلم عظيم” رواه البخاري ومسلم.
فوعد سبحانه الذين آمنوا ولم يخلطوا إيمانهم بشركٍ بأنّ لهم الأمنُ من المخاوفِ والعذابِ والشقاء، والهدايةُ إلى الصراط المستقيم، فإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بظلم مطلقًا لا بشركٍ ولا بمعاصٍ حصل لهم الأمنُ التام والهدايةُ التامة، وإن كانوا لم يلبسوا إيمانَهم بالشركِ وحده ولكنهم يعملون السيئاتِ حصل لهم أصلُ الهداية وأصل الأمن وإن لم يحصل لهم كمالُها. ومفهوم الآية الكريمة: أنّ الذين لم يحصل لهم الأمران لم يحصل لهم هدايةٌ ولا أمن، بل حظهم الضلال والشقاء.
ومن طرق الهداية – معاشر المؤمنين -: الإيمانُ بالله تعالى، والقيامُ بموجَبِه ومقتضاهُ من الأعمال الصالحةِ المشتملةِ على أعمالِ القلوبِ وأعمالِ الجوارح على وجهِ الإخلاصِ والمتابعة، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ}.
ومن طرق الهداية: حسن القصد مع الاجتهاد في طلب الهداية والإنابة إلى الله تعالى والإقبال عليه، فقد قال تعالى: {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ}، وقال تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإنّ الله لمع المحسنين}.
ومن طرق الهداية: العناية بكتاب الله تعالى؛ فإنّ إنزال القرآن الكريم على هذه الأمة لمِنّةٌ عظمى؛ لأنه سبيل الهداية وطريق السلامة من الضلال والغواية، {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}، وَقَال الله – عز وجل -: {إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ* لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} قال ابن كثير رحمه الله: “أَيْ: هَذَا الْقُرْآنُ ذِكْرٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ، يَتَذَكَّرُونَ بِهِ وَيَتَّعِظُونَ، {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} أَيْ: مَنْ أَرَادَ الْهِدَايَةَ فَعَلَيْهِ بِهَذَا الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ منجاةٌ لَهُ وَهِدَايَةٌ، وَلَا هِدَايَةَ فِيمَا سِوَاهُ”.
وقال الله – عز وجل -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}، وقال تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ, هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}، وقال تعالى: {تلك آيات الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ, هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} أَيْ: إِنَّمَا تَحْصُلُ الْهِدَايَةُ وَالْبِشَارَةُ مِنَ الْقُرْآنِ لِمَنْ آمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ وَصَدَّقَهُ، وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ، كَمَا قَالَ تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}، وقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} ثم ذكر سبحانه مَنْ الذي يهتدي بهذا القرآن، فقال تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ}.
ومن طرق الهداية – معاشرَ المؤمنين -: طلبُ العلمِ الشرعيِّ من أهله المحققين؛ لأنّ الهدايةَ كما يفسرها العلماء – رحمهم اللهُ – هي العلمُ بالحقِّ مع قصده وإيثاره على غيره، فالمهتدي هو العالِمُ بالحقِّ المريدُ له.
ومن طرق الهداية: الوسطية والاعتدال في جميع الأمور والأحوال، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} قال السَّعديُّ – رحمه الله -: “ذكر في هذه الآيةِ السببَ الموجبَ لهدايةِ هذهِ الأمةِ مطلقًا بجميع أنواع الهداية ومنةَ الله عليها فقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} أي: عدلًا خيارًا، وما عدا الوسط فأطراف داخلة تحت الخطر، فجعل الله هذه الأمةَ وسطًا في كل أمور الدين”.
ومن طرق الهداية: الاستفادة من المواعظ؛ فقد قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}، فرتّب سبحانه على فعل ما يوعظون به أربعةَ أمور، وهي الخيريةُ، وحصولُ التثبيتِ والثباتِ وزيادته، كما رتّب سبحانه على فعل ما يوعظون به الأجرَ العظيم، والهدايةَ إلى صراطٍ مستقيم. وهذا عموم بعد خصوص؛ لشرف الهداية إلى الصراط المستقيم من كونها متضمنةٌ للعلم بالحق ومحبته وإيثاره والعمل به وتوقُّف السعادة والفلاح على ذلك، فمن هُدِيَ إلى صراط مستقيم فقد وُفِّقَ لكل خيرٍ واندفع عنه كلُّ شرٍّ وضير.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني الله وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة. أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فإنّ من أعظم طرق الهداية: الدعاء؛ ولهذا أمرنا سبحانه أن نسأله هدايةَ الصِّراطِ المستقيمِ كلَّ يومٍ وليلةٍ في صلواتنا الخمس، وثبت في صحيح مسلمٍ عن أبي ذر – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: (يا عبادي كلكم ضال إلا من هديتُه، فاستهدوني أَهدِكُم)، وعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: كان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا قام من الليل افتتح صلاته بـهذا الدعاء: (اللهم رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) رواه مسلم.
فاللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
وصلوا وسلموا – رحمكم اللهُ – على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال عزّ من قائلٍ: {إنّ الله وملائكته يصلّون على النبيّ, يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا}، فاللهم صلِّ وسلم عليه يا رب العالمين، وارضَ اللهم عن صحابة نبينا أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وارضَ اللهم عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
الله أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين.
وانصر عبادك الموحدين، ودمّر أعداءك أعداء الدين.
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لكل خير.
اللهم هيّء لهم البطانة الصالحة الناصحة التي تدلهم على الخير وتعينهم عليه يا رب العالمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار.
ربنا تقبّل منّا إنك أنت السميع العليم وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم.
أعدّ الخطبة/ بدر بن خضير الشمري