الحمدُ للهِ الذي مَنَّ على أُمَّةِ محمدٍ ﷺ بمواسِمِ الخيراتِ وفضيلِ الأعمالِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رسولِ اللهِ الذي بَلَّغَ الدِّينَ أكملَ بلاغٍ، وبيَّنهُ أتمَّ بيانٍ، وأشهدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولهُ.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.
أمَّا بعدُ:
فإنَّنَا نَستقبِلُ أيَّامًا عظيمةً مِن أفضلِ أيَّامِ السنةِ، بَلْ قالَ بعضُ العلماءِ: إِنَّها أفضلُ أيَّامِ السنةِ على الإطلاقِ حَتَّى إِنَّها أفضلُ مِن العشرِ الأواخِرِ مِنْ رمضانَ، إنَّها عشرُ ذِي الحِجَّةِ؛ هذهِ العشرُ التي أقسمَ اللهُ بلياليها، قالَ سبحانُهُ: ﴿وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾ قالَ إمامُ المفسرينَ ابنُ جريرٍ: أجمعَ العلماءُ على أنَّ المرادَ عشرُ ذي الحِجَّةِ.
وَقالَ اللهُ سبحانهُ: ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ﴾ قالَ ابنُ عباسٍ: إنَّها عشرُ ذِي الحِجَّةِ.
وأخرجَ البخاريُّ عن عبدِ اللهِ ابنِ عباسٍ أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «مَا العَمَلُ في أيَّامٍ أفضَلُ مِنْهَا في هذِهِ؟» قالَوا: وَلَا الجهادُ؟ قالَ: «وَلَا الجِهادُ، إِلَّا رجلٌ خَرَجَ يُخاطِرُ بنفسِهِ ومَالِهِ، فَلَمْ يرجِعْ بشيءٍ»، حَتَّى الجهادُ لا يَعدِلُ الأعمالَ الصالحةَ فيها إلَّا جهادًا خاصًّا وهو أنْ يخرُجَ المُجاهِدُ بمالِهِ ونفسِهِ، ثُمَّ يموتُ في سبيلِ اللهِ.
وَقَدْ أدرَكَ سلَفُنَا فضيلةَ عشرِ ذِي الحِجِّةِ، فكانُوا يستغِلُّونَهَا خيرَ استغلالٍ، فَقَدْ ثَبَتَ عِندَ الدَّارِمِيِّ: ” كانَ سعيدُ بنُ جبيرٍ إذا دَخَلَ أيَّامُ العشرِ اجتهَدَ اجتهادًا شديدًا حَتَّى مَا يكادُ يُقدَرُ عليهِ “.
وروى عبد الرزاق وابن جرير عن مَسْرُوق أنه قال فِي قَوْله: (وليال عشر) قَالَ: “هِيَ عشرُ الْأَضْحَى هِيَ أفضل أَيَّام السّنةِ”.
فيُستَحَبُّ صِيامُهَا، فَقَدْ ثَبَتَ عِندَ عبدِ الرَّزاقِ أنَّ أبا هريرةَ أقَرَّ صِيامَهَا وَأَنَّهُ كانَ معروفًا في زمانِهِم.
فيتعينُ الاجتهادُ فِيها بإتقانِ وإتمامِ الفرائِضِ وكثرَةِ صلاةِ النَّوافِلِ والمُداومَةِ على قراءَةِ القرآنِ وأذكارِ الصباحِ والمساءِ وعمومِ الأذكارِ، وأنْ يُجتَهَدَ فيها بالصَّدَقَةِ وغيرِ ذلكَ مِن أعمالِ البِرِّ اليوميَّةِ.
وَقَدْ شُرِعَ في هذهِ العشرِ أعمالٌ صالحةٌ لَمْ تجتمِعَ في غيرِها:
العملُ الأولُ: الحَجُّ، وهو رُكنٌ مِن أركانِ الإسلامِ، قالَ تعالَى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾.
وَثَبتَ عِندَ البيهقِيِّ عَن عُمَرَ -رضيَ اللهُ عنهُ- أنهُ قالَ: ” لِيَمُتْ يَهُوَدِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا -يَقُولُهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ- رَجُلٌ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ وَجَدَ لِذَلِكَ سَعَةً وَخُلِّيَتْ سَبِيلُهُ “.
فَدَلَّ هذا على خطورةِ تأخيرِ الحَجِّ لِمَنْ كانَ مُستطيعًا، وهُوَ واجِبٌ في العُمُرِ مَرَّةً واحدَةً.
ووجوبُهُ على الفَورِ، فمنْ بَلَغَ وكانَ مُستطيعًا فيجِبُ عليهِ أنْ يُبادِرَ بالحَجِّ، وإلَّا فإنَّ لَهُ نصيبًا مِن الوعيدِ الذي ذَكَرَهُ الفاروقُ عمرُ -رضيَ اللهُ عنهُ-.
العملُ الثاني: الأُضْحِيَةُ، ثَبَتَ في الصحيحينِ عن أَنَسٍ-رضيَ اللهُ عنهُ- قالَ: ” ضَحَّى النَّبِيُّ ﷺ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ، فَرَأَيْتُهُ وَاضِعًا قَدَمَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا، يُسَمِّي وَيُكَبِّرُ، فَذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ “.
فَيُستحَبُّ الاجتهادُ على تحصيلِ الأضحيةِ، وَمَن كانَ ذا سَعَةٍ فليُبادِرْ للأُضحيَةِ الَّتي مَا تَرَكَها نَبيُّنَا ﷺ.
والأَفضَلُ ذبحُ الأُضحيَةِ في البيتِ عِندَ الأهْلِ، حَتَّى تَظهَرَ هذهِ الشَّعيرَةُ فينشَأَ عَلَيها الصَّغيرُ، وَيَهرَمَ عَلَيْهَا الكَبِيرُ.
العملُ الثالثُ: عَدَمُ أَخْذِ شيءٍ مِن الشَّعْرِ والظُّفرِ والبَشَرِ، إِذَا دَخَلَت العَشْرُ فَلَا يَصِحُّ لِمَنْ أرادَ أنْ يُضَحِّي أنْ يأخُذَ شيئًا مِن هذِهِ، رَوَى مسلمٌ عَن أُمِّ سَلَمَةَ أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «إِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ، وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا».
وَاستَحَبَّ العلماءُ لِمَنْ أرادَ أنْ يُضَحَّى عَنْهُ أنْ يُمسِكَ عَن الشَّعْرِ والظُّفرِ والبَشَرِ وَلَوْ كَانَ صغيرًا فيُستحَبُّ أنْ يُؤْمَرَ بالإمساكِ عَن هذِهِ، وكانَ التابعِيُّ الجليلُ ابنُ سيرينَ يكرَهُ إذا دَخَلَ العَشْرُ أنْ يأخُذَ الرَّجُلُ مِن شَعرِهِ، حَتَّى يكرَهُ أنْ يُحْلَقَ الصُّبيانُ في العَشرِ. أخرَجَهُ ابنُ حزمٍ في المُحَلَّى.
العملُ الرابعُ: صِيامُ يومِ عَرَفَةَ لغَيرِ الحاجِّ، رَوَى مسلمٌ عَن أبي قتادَةَ -رضيَ اللهُ عنهُ- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ».
فَصَومُ يومٍ واحِدٍ يُكَفِّرُ ذُنُوبَ وَخَطايا عامَيْنِ اثنينِ، فاللهَ اللهَ أنْ نَهْتَبِلَ هذِهِ الفُرَصَ وَلَا نُفَوِّتْهَا.
العملُ الخامسُ: صَلَاةُ العيدِ، حَثَّ النبيُّ ﷺ على صلاةِ العيدِ، وَعَلى شُهُودِ الخَيرِ حَتَّى لِلحِيَّضِ، فَفِي الصحيحينِ عَن أُمِّ عَطِيَّةَ أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قالَ: «يَخْرُجُ العَوَاتِقُ وَذَوَاتُ الخُدُورِ، أَوِ العَوَاتِقُ ذَوَاتُ الخُدُورِ، وَالحُيَّضُ، وَلْيَشْهَدْنَ الخَيْرَ، وَدَعْوَةَ المُؤْمِنِينَ، وَيَعْتَزِلُ الحُيَّضُ المُصَلَّى».
فَإِذَا كانَتْ الحائِضُ مأمُورَةً بالحُضُورِ مَعَ المسلمينَ فكيفَ بغيرِهَا؟ فاجتماعُ المسلمينَ لِصلاةِ العيدِ فيهِ إظهارٌ لهذِهِ الشعيرةِ العظيمةِ.
العملُ السادسُ: التَّكْبِيرُ وَرَفْعُ الأصواتِ بِهِ، وهذِه سُنَّةٌ مهجورَةٌ، قالَ البخارِيُّ: كانَ ابنُ عُمَرَ، وأبو هُرَيرةَ يخرُجَانِ إلى السُّوقِ في أيامِ العَشْرِ يُكبِّرانِ، وَيُكبِّرُ الناسُ بتكبيرِهِمَا.
فيُستَحَبُّ أنْ تُرفَعَ الأصواتُ بالتكبيرِ في العَشْرِ كلِها منذُ أن يُهلَ هلالُ العشرِ في الطُّرُقاتِ وفي البيوتِ، وفي الذَّهابِ والإِيَابِ حَتَّى يَظهَرَ التَّكبيرُ الذي فَرَّطَ فيهِ كثيرٌ مِن المسلمينَ، وصيغَتُهُ: اللهُ أكْبَرُ، اللهُ أكْبَرُ، لَا إلهَ إلَّا اللهُ، اللهُ أكْبَرُ، اللهُ أكْبَرُ، وللهِ الحمدُ.
أسأَلُ اللهَ الكريمَ أنْ يَمُنَّ عَلَينا بإدْرَاكِ هذِهِ العشرِ، وَأَنْ يَجعَلَنَا فِيهَا مِن المُجتهدينَ والمُسَارِعِينَ في إدْرَاكِ الخَيْراتِ والعَمَلِ بالطَّاعَاتِ لِنَفوزَ بِرِضَاهُ، إنَّهُ هُوَ الرَّحمنُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحَمْدُ للهِ حمْدَ المُتعَبدينَ، وفي مَواسِمِ الخَيرَاتِ منَ المُسارِعِينَ، والصّلاةُ والسّلامُ على الرّسُولِ الأمينِ سيّدِ الأنْبيَاءِ والمُرسلينَ، أمَّا بعدُ:
فَيُخطِئُ بعضُ النَّاسِ وَيَظُنُّ أنهُ إِذَا أرادَ أنْ يُضَحِّيَ فأخَذَ مِن شَعْرِهِ أو ظُفُرِهِ أَوْ بَشَرِهِ، فإنَّهُ لَا يَصِحُّ أنْ يُضَحِّيَ، وَهَذا ظَنٌّ خَطَأٌ، بَلْ إِنَّهُ لَمَّا أَخَذَ مِن شَعْرِهِ أَوْ ظُفُرِهِ أَوْ بَشَرِهِ أَخْطَأَ لَكنهُ لَا يَمْنَعُ التَّعَبُّدَ للهِ بالأُضْحِيَةِ، بَلْ يَرْجِعُ وَيُمْسِكُ عَن أظْفَارِهِ وَبَشَرِهِ وَشَعرِهِ وَيُضَحِّي.
أيّها المسلمونَ إنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْوِ أَحَدٌ أنْ يُضَحِّيَ إِلَّا في اليومِ الخامِسِ مِن ذِي الحِجَّةِ فَلْيَبدَأْ في اليومِ الخامِسِ بِالإمساكِ عَن شَعرِهِ وَظُفُرِهِ أوبَشَرِهِ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَنْوِ إِلَّا في هَذا اليومِ.
أَيُّهَا المسلمونَ: إنَّ كَثِيرًا مِن النَّاسِ يَجتَهِدُ في عِبادَةِ العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِن رمضانَ، فَيَجْتَهِدُ في القِيامِ والصلاةِ والصدقةِ، وَهَذا خيرٌ عظيمٌ، لكن مِن التَّقصيرِ أنْ يَفْتُرَ وَيُضيعَ على نفْسهِ الاجتهادَ في عشرِ ذِي الحِجِّةِ التي هِيَ أفضلُ أيامِ السنةِ حَتَّى إِنَّها أفضَلُ مِن العشرِ الأواخِرِ مِن رمضانَ كَمَا ذَكَرَ هذا الحافِظُ ابنُ رَجَبٍ.
فَلْنَتَّقِ اللهَ وَلْنُذكِّر أنفُسَنَا وإخوانَنَا وأبناءَنَا وأزواجَنَا بفَضلِهَا حَتَّى لا تذهَبَ عَلَينا كَمَا ذَهَبَتْ عَلَينا عَشْرٌ كثيرَةٌ قبلهَا في سنينَ ماضيَةٍ، وَلْنَهْتَبِلِ الفُرْصَةَ وَلْنَحمَدِ اللهِ أنْ مَدَّ في أعمارِنَا حَتَّى أدْرَكْنَاهَا.
اللهُمَّ يا مَن لَا إلهَ إلَّا أنتَ يا حَيُّ يا قَيُّومُ يا رَحمنُ يا ذَا الجَلَالِ والإكرامِ مُنَّ عَلَينا في هذِهِ العشرِ بالإقبالِ عَلَى طاعَتِكَ والمُسارَعَةِ في مَرَاضِيكَ وَتَقبَّلْ مِنَّا يا رَبَّ العالمينَ
اللهُمَّ إيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعينُ.