بسم الله الرحمن الرحيم
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أما بعد:
فقد حصل خطأ في فهم مسألة عصمة الأنبياء لدى بعض أهل الفضل فأردت أن أبين ما كان عليه الأولون من سلف هذه الأمة في هذه المسألة بالنقل الموثق، ثم أتبعه بفائدة تتعلق بموقف السلف من قصة الغرانيق – بإذن الله -.
وخلاصة الكلام في مسألة عصمة الأنبياء ما يلي:
الأمر الأول / أ نهم معصومون فيما يبلغون عن الله بالإجماع.
قال ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (5 / 257): ” وهذه العصمة الثابتة للأنبياء هي التي يحصل بها مقصود النبوة والرسالة؛ فإن ” النبي ” هو المنبئ عن الله، ” والرسول ” هو الذي أرسله الله تعالى، وكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا، والعصمة فيما يبلغونه عن الله ثابتة فلا يستقر في ذلك خطأ باتفاق المسلمين “.
وقال في الفتاوى الكبرى (5 / 261): ” ثم إن العصمة المعلومة بدليل الشرع والعقل والإجماع، وهي ” العصمة في التبليغ ” لم ينتفعوا بها إذ كانوا لا يقرون بموجب ما بلغته الأنبياء ”
وقال في جامع المسائل – المجموعة الرابعة (ص: 40): ” ولهذا اتفقت الأمةُ على أنه معصوم فيما يُبلِّغُه عن ربه تبارك وتعالى، فإن مقصودَ الرسالة لا يَتِمُ إلاّ بذلك، وكلُّ ما دل على أنه رسولُ اللهِ من معجزة وغيرِ معجزةٍ فهو يدلُّ على ما قال – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ” فإنّي لَنْ أكذِبَ على الله”. وقد اتفقوا أنه لا يُقَرُّ على خَطَأٍ في ذلك، وكذلك لا يُقَرُّ على الذنوب لا صغائرِها ولا كبائرِها “.
الأمر الثاني / أنهم معصومون عن الكبائر.
قال ابن تيمية في المسودة (ص70): “الأنبياء معصومون من الكبائر بإجماع الأمة إلا قوماً لا يعتد بخلافهم “.
وقال في مجموع الفتاوى (4 / 319): ” فإن القول بأن الأنبياء معصومون عن الكبائر دون الصغائر هو قول أكثر علماء الإسلام وجميع الطوائف؛ حتى إنه قول أكثر أهل الكلام كما ذكر أبو الحسن الآمدي أن هذا قول أكثر الأشعرية، وهو أيضاً قول أكثر أهل التفسير والحديث والفقهاء، بل هو لم ينقل عن السلف والأئمة والصحابة والتابعين وتابعيهم إلا ما يوافق هذا القول.”.
الأمر الثالث / أنهم (قد) يقعون في الصغائر لكنهم يتوبون.
قال ابن تيمية في جامع المسائل – المجموعة الرابعة (ص: 40): “ولكن تنازعوا: هل يقع منهم بعض الصغائر مع التوبة منها أو لا يقع بحال؟ فقال كثير من المتكلمين من الشيعة والمعتزلين وبعض متكلمي أهل الحديث: لا يقع منهم الصغيرة بحال، وزادت الشيعة حتى قالوا: لا يقع منهم لا خطأ ولا غير خطأ.
وأما السلف وجمهور أهل الفقه والحديث والتفسير وجمهور متكلمي أهل الحديث من أصحاب الأشعري وغيرهم فلم يمنعوا الوقوع إذا كان مع التوبة، كما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين “.
وقال في مجموع الفتاوى (20 / 88): ” وهذا القول يقوله طوائف من أهل البدع والكلام والشيعة وكثير من المعتزلة وبعض الأشعرية وغيرهم ممن يوجب عصمة الأنبياء من الصغائر، وهؤلاء فروا من شيء ووقعوا فيما هو أعظم منه في تحريف كلام الله عن مواضعه.
وأما السلف قاطبة من القرون الثلاثة الذين هم خير قرون الأمة وأهل الحديث والتفسير وأهل كتب قصص الأنبياء والمبتدأ وجمهور الفقهاء والصوفية وكثير من أهل الكلام كجمهور الأشعرية وغيرهم وعموم المؤمنين، فعلى ما دل عليه الكتاب والسنة مثل قوله تعالى (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) وقوله (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) بعد أن قال لهما (أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ) وقوله تعالى (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) مع أنه عوقب بإخراجه من الجنة.
وهذه نصوص لا ترد إلا بنوع من تحريف الكلم عن مواضعه والمخطئ والناسي إذا كانا مكلفين في تلك الشريعة فلا فرق وإن لم يكونا مكلفين امتنعت العقوبة ووصف العصيان والأخبار بظلم النفس وطلب المغفرة والرحمة وقوله تعالى (أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ)، وإنما ابتلى الله الأنبياء بالذنوب رفعاً لدرجاتهم بالتوبة وتبليغاً لهم إلى محبته وفرحه بهم، ف (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)، ويفرح بتوبة التائب أشد فرح، فالمقصود كمال الغاية لا نقص البداية فان العبد تكون له الدرجة لا ينالها إلا بما قدره الله له من العمل أو البلاء.”.
فإذن السلف مجمعون على أن الأنبياء ليسوا معصومين من الصغائر، وهذا مع كون السلف مجمعين عليه هو ظاهر القرآن لقوله تعالى: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى)، وقوله تعالى: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)، وأمثال هذه الآيات، ولا يُمكن أن يُترك هذا الظاهر إلا بتأويل مردود أو تحريف ممجوج.
الأمر الرابع / أنهم لا يقرون على ذنب.
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (11 / 415): ” ولهذا كان الذي عليه سلف الأمة وأئمتها أن الأنبياء إنما هم معصومون من الإقرار على الذنوب وأن الله يستدركهم بالتوبة التي يحبها الله (يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) وإن كانت حسنات الأبرار سيئات المقربين. وأن ما صدر منهم من ذلك إنما كان لكمال النهاية بالتوبة لا لنقص البداية بالذنب. وأما غيرهم فلا تجب له العصمة وإنما يدعي العصمة المطلقة لغير الأنبياء الجهال من الرافضة وغالية النساك وهذا مبسوط في موضعه “.
وفي ختام مسألة العصمة فإن مذهب أهل السنة وسط في هذا الباب قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (15 / 150): ” واعلم أن المنحرفين في مسألة العصمة على طرفي نقيض كلاهما مخالف لكتاب الله من بعض الوجوه: قوم أفرطوا في دعوى امتناع الذنوب حتى حرفوا نصوص القرآن المخبرة بما وقع منهم من التوبة من الذنوب ومغفرة الله لهم ورفع درجاتهم بذلك. وقوم أفرطوا في أن ذكروا عنهم ما دل القرآن على براءتهم منه وأضافوا إليهم ذنوباً وعيوباً نزههم الله عنها. وهؤلاء مخالفون للقرآن.”.
فائدة / قصة الغرانيق جاءت مرسلة من رواية عدة من التابعين كسعيد بن جبير وأبي العالية وأبي بكر بن عبد الرحمن وقتادة، خرجها كلها ابن جرير في تفسيره بأسانيد صحيحة، صححها العلامة الألباني في كتابه (نصب المنجنيق)، ولفظ مرسل سعيد بن جبير ” لما نزلت هذه الآية: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترجى» فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال المشركون: إنه لم يذكر آلهتهم قبل اليوم بخير فسجد المشركون معه فأنزل الله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ) إلى قوله: (عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) وهذه وإن كانت مراسيل إلا أنها حجة، لأنها موافقة لما عليه السلف دون الخلف وقد بين الشافعي أنه المرسل إذا وافق فتاوى كثير من أهل العلم تقوى، فكيف إذا كان هو قول السلف دون غيره فهو يتقوى من باب أولى، بل يكفي أن يكون ما دل عليه حجة لأن السلف عليه.
قال ابن عبد الهادي في الصارم المنكي (ص 108): ” هذا كله كلام الشافعي وقد تضمن أموراً:
أحدها: أن المرسل إذا أسند من وجه آخر دل ذلك على صحة المرسل.
الثاني: أنه إذا لم يسند من وجهة آخر نظر هل يوافقه مرسل آخر أم لا، فإن وافقه مرسل آخر قوي، لكنه يكون أنقص درجة من المرسل الذي أسند من وجه آخر.
الثالث: أنه إذا لم يوافقه مرسل آخر ولا أسند من وجه، لكنه وجد عن بعض الصحابة قول له يوافق هذا المرسل عن النبي- صلى الله عليه وسلم – دل على أن له أصلاً ولا يطرح.
الرابع: أنه إذا وجد خلق كثير من أهل العلم يفتون بما يوافق المرسل دل على أن له أصلاً.
الخامس: أن ينظر في حال المرسل، فإن كان إذا سمي شيخه سمي ثقة وغير ثقة لم يحتج بمرسله، وإن كان إذا سمى لم يسم إلا ثقة لم يسم مجهولاً، ولا ضعيفاً مرغوباً الرواية عنه كان ذلك دليلاً على صحة المرسل”.
وإليك ما يدل من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم أن السلف على القول بقصة الغرانيق:
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (10 / 291): ” ولكن هل يصدر ما يستدركه الله فينسخ ما يلقي الشيطان ويحكم الله آياته؟ هذا فيه قولان: والمأثور عن السلف يوافق القرآن بذلك. والذين منعوا ذلك من المتأخرين طعنوا فيما ينقل من الزيادة في سورة النجم بقوله: (تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى)، وقالوا: إن هذا لم يثبت، ومن علم أنه ثبت: قال هذا ألقاه الشيطان في مسامعهم ولم يلفظ به الرسول -صلى الله عليه وسلم-. ولكن السؤال وارد على هذا التقدير أيضاً. وقالوا في قوله: (إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) هو حديث النفس. وأما الذين قرروا ما نقل عن السلف فقالوا هذا منقول نقلاً ثابتاً لا يمكن القدح فيه والقرآن يدل عليه بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ. وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
فقالوا: الآثار في تفسير هذه الآية معروفة ثابتة في كتب التفسير، والحديث، والقرآن يوافق ذلك، فإن نسخ الله لما يلقي الشيطان وإحكامه آياته إنما يكون لرفع ما وقع في آياته، وتمييز الحق من الباطل حتى لا تختلط آياته بغيرها. وجعل ما ألقى الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض، والقاسية قلوبهم إنما يكون إذا كان ذلك ظاهراً يسمعه الناس لا باطناً في النفس، والفتنة التي تحصل بهذا النوع من النسخ من جنس الفتنة التي تحصل بالنوع الآخر من النسخ. وهذا النوع أدل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وبعده عن الهوى من ذلك النوع، فإنه إذا كان يأمر بأمر ثم يأمر بخلافه وكلاهما من عند الله وهو مصدق في ذلك، فإذا قال عن نفسه: إن الثاني هو الذي من عند الله وهو الناسخ، وإن ذلك المرفوع الذي نسخه الله ليس كذلك كان أدل على اعتماده للصدق وقوله الحق، وهذا كما قالت عائشة رضي الله عنها: لو كان محمد كاتماً شيئاً من الوحي لكتم هذه الآية: (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) ألا ترى أن الذي يعظم نفسه بالباطل يريد أن ينصر كل ما قاله ولو كان خطأ، فبيان الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله أحكم آياته ونسخ ما ألقاه الشيطان هو أدل على تحريه للصدق وبراءته من الكذب، وهذا هو المقصود بالرسالة فإنه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم تسليماً، ولهذا كان تكذيبه كفراً محضاً بلا ريب ا؟ “.
قال ابن القيم في إغاثة اللهفان (1 / 93): ” والسلف كلهم على أن المعنى إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته “.
تنبيه/ إذا ذكر العلماء كابن تيمية قول السلف وذكروا قول غيرهم من الأشاعرة أو بعض علماء المذاهب الأربعة، فإن هذا لا يخرج المسألة من كونها إجماعية؛ لأن المخالفين بعد السلف متأخرون عنهم فهم محجوجون بإجماع السلف قبلهم فتكون أقوالهم محدثة.
وأخيرًا،
هذا تلخيص موثق لمسألة عصمة الأنبياء التي زل فيها بعض الفضلاء-عفا الله عنا وعنهم- والله أعلم بالصواب.
أسأل الله عز وجل لنا جميعًا العلم النافع والعمل الصالح.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
د. عبد العزيز بن ريس الريس
@dr_alraies
المشرف على موقع الإسلام العتيق
16 / 7 / 1441هـ