عندما ينطق من بلغ في الجهل غايته ومنتهاه!!
كتبهــــا د. عارف عوض الركابي
نشر بجريدة الرأي العام السودانية العدد 42300 والصادر يوم السبت الماضي 26ربيع الثاني 1431هـ الموافق 10 أبريل 2010مقال بعنوان “جعفر شيخ إدريس ليس تحت القبة فكي ” لكاتب يسمى بابكر فيصل بابكر، وقد أورد مسوِّد تلك الأسطر السوداء جملة من الجهالات والضلالات ودعا إلى تقديم العقل على نصوص الشريعة ، بل وجهَّل سلف الأمة ، كما دعا إلى إحياء منهجية الثورة على الأحكام الشرعية التي استقرت عليها الشريعة وأجمعت عليها الأمة ، وادعى أن الأمة الإسلامية منذ عهد المأمون وإلى يومنا في غيبوبة ، وتباكى على فرقة المعتزلة الضالة المنحرفة ، كما تباكى على المرتد محمود محمد طه ، إلى غير ذلك من الجهالات والترهات التي اشتمل عليها ذلك المقال الآثم .
وقد رأيت أن من الواجب بيان كذب هذا المفتري ، وكشف تلبيساته ، وإثبات أنه غارق في الجهل غايته ومنتهاه ، أداءً لواجب النصيحة ، ودفاعاً عن القرآن والسنة ومنهج الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، ولا ينبغي أن يفهم أحد أن مقالي دافعه الانتصار لشخص بعينه ، وإنما المقصود هو الدفاع عن الإسلام والشريعة ، ولذلك فإني لن أتناول الجزئيات التي كانت خاصة بمن قصد الكاتب الرد عليه ، فإن من قصده الكاتب بمقاله باستطاعته الرد على كاتب المقال.
والمقال بحاجة إلى تفنيد ورد لأكثر جزئياته ، بدءاً من عنوانه الذي يخالف الكتاب والسنة مخالفة واضحة ، إلا أني أكتفي بالرد على نقاط محددة منه ، وذلك لقلة المساحة التي يسمح بها المقال الصحفي.
وأسوق تعقيبي ــ المختصر ــ على شطحات الكاتب في هذه الوقفات :
الوقفة الأولى : إثبات أن الكاتب من أجهل الناس :
أراد الكاتب أن يوهم من يقرأ مقاله بأن لديه معلومات بعلم أصول الفقه ، وبنى كثيراً من انتقاداته وتجهيله لعلماء الإسلام بما ردده عن علم أصول الفقه ، ومن يقرأ مقاله يدرك بوضوح وجلاء أن الكاتب من أجهل الناس بهذا العلم ، وذلك مما اتضح من جهله لما يدرسه الطالب المبتدئ في الصف الأول لعلم أصول الفقه، ولإثبات ذلك أكتفي بالنماذج التالية :
ــ قال :”والاهتمام بالواقع هو مجال أصول الفقه « وهو العلم الذي أسسه الإمام الشافعي والذي على الرغم من الجمود الذى وسمه لقرون متطاولة إلاَّ أنه كان محاولة للتماس مع الواقع وإعمال« العقل»لاستنباط الأحكام”.
إن قوله إن علم أصول الفقه قد (أسسه) الإمام الشافعي هو قول يحكي جهل الكاتب العميق ، وهو جناية على هذا العلم وعلى الصحابة والتابعين والأئمة الذين سبقوا الإمام الشافعي في وضع قواعد هذا العلم ، والعمل بها ، لقد كان الإمام الشافعي هو أول من (دوّن) هذا العلم ، لكنه لم يكن هو الذي أسسه ، وفرق عظيم بين الأمرين ، والطالب المبتدئ يدرس في أول محاضرات ودروس هذا العلم أنه وجد في زمن الصحابة وقد نقلت قواعد أصولية عن عبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود وعن غيرهما رضي الله عنهم ، ثم يدرس الطالب المبتدئ جهود التابعين ثم تابع التابعين ودور أبي حنيفة وتلاميذه (وقد مات أبو حنيفة في السنة التي ولد فيها الشافعي) ويدرس الطلاب جهود الإمام مالك في هذا العلم ، وهو شيخ الإمام الشافعي ، بل بعض العلماء يذكر أن أبا يوسف تلميذ أبي حنيفة ألف كتاباً في علم الأصول قبل الشافعي إلا أنه لم يوجد ، وعلى كلّ فلم يقل أحد في تاريخ المسلمين أن الشافعي قد (أسس) علم أصول الفقه كما ادعى هذا الكاتب!!!.
ــ وقال: “وهناك قاعدة أصولية فقهية أخرى تقول إنّ “العلة تدور مع المعلول وجوداً أو عدماً، فإذا زالت العلّة دار معها المعلول”انتهى
وقول الكاتب هنا يثبت لنا ــ أيضاً ـ مدى جهله الكبير بأساسيات علم أصول الفقه وما يدرسه الطالب المبتدئ لهذا العلم!! إذ يدرس المبتدئ الفروق بين القاعدة (الفقهية) و(الأصولية) ، فالقاعدة الفقهية تختلف عن القاعدة الأصولية ولكن الكاتب قال “قاعدة أصولية فقهية” في ابتداع جديد وجناية على علميْ الفقه وأصول الفقه.
وأكتفي بهذين النموذجين لإثبات جهل الكاتب بأبجديات وأساسيات لموضوعات خاض فيها بغير بينة وإنما بمجرد (التقليد) لمن سبقه فيما ادعاه ودعا إليه ، وإذا كان هذا حاله فيما ذكر فغير ذلك من باب أولى.
الوقفة الثانية : دعا الكاتب لتقديم العقل على نصوص الكتاب والسنة وأثنى على المعتزلة ، ومما قال : “وبعيداً عن المدرسة السلفية ومنهج أصول الفقه يعتبر المعتزلة فرسان « التفكير» الإسلامي الذين أعلوا من شأن «العقل» ورجحوا أحكامه ولو تعارضت مع « النقل» . وقد بلغت الدولة الإسلامية أوج تفوقها العلمي والفني والحضاري في عهد الخليفة المأمون الذي تبنى الاعتزال وصيرّه الفكر الرسمي لدولته…”انتهى.
قلت : حرص الكاتب على تقرير مذهب المعتزلة والدعاية له ، وشحن مقاله بما يؤيد هذه الدعوى الباطلة ، وإن إعلاء شأن النصوص الشرعية وهي الكتاب والسنة وهي وحي الله تعالى لخاتم أنبيائه ورسله شأن المؤمن الموفق ، وهي صفة من أراد الله تعالى له التوفيق والنجاة والسعادة في الدارين، ولا يقلل من شأن نصوص الوحي إلا غارق في الجهل أو منافق ، قال الله تعالى : ” يا أيها الذين آمنوا اطيعوا الله وأطيعوا الرسول …” وقال الله تعالى :”فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً ) وقال تعالى : “أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون” وقال تعالى : “اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء ” ، وإن حفظ النصوص الشرعية والعناية بها وتردادها منقبة عظيمة أثنى الله تعالى على من هدي إليها، ومن حُرِمَ ذلك ابتلي بزبالات الأفكار ، وإن الله تعالى قد أوجب على عباده الاستجابة لأمره وأمر رسوله قال الله تعالى :”يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم..” وإن من يدعو الناس للتحاكم للعقول وتقديمها على النصوص الشرعية فإنما يدعوهم لاتباع الهوى قال الله تعالى : “فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ..”.
إن علماء الإسلام بينوا أن العقل السليم الصريح لا يخالف النقل الصحيح ،وإن العقل تابع للنصوص الشرعية ، ونتحدى الكاتب ومن قلدهم فيما ادعاه أن يوردوا لنا أمثلة لتعارض العقل مع الشرع ، فإن الشريعة جاءت بما تحتار وتندهش وتنبهر له العقول ، ولم وتأت بما تحيله العقول وتراه مستحيلاً ، ثم عقل من الذي يقدم على النصوص ؟! أيا ترى هو عقل الجهمية شيوخ المعتزلة وأساتذتهم ؟! أم عقول المعتزلة الذين تمجدهم؟! وقد اختلف المعتزلة فيما بينهم إلى فرق وطوائف عديدة!! فهل نأخذ بعقول المعتزلة البغداديين؟! أم المعتزلة البصريين؟!
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه “درء تعارض العقل والنقل” (1/126) :”النصوص الثابتة في الكتاب والسنة لا يعارضها معقول بيِّن قط، ولا يعارضها إلا ما فيه اشتباه واضطراب، وما عُلم أنه حق لا يعارضه إلا ما فيه اضطراب واشتباه، ولم يُعلم أنه حق، بل نقول قولاً عاماً كلياً، إن النصوص الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعارضها قط صريح معقول فضلاً على أن يكون مقدماً عليها، وإنما الذي يعارضها شبه وخيالات مبناها على معاني متشابهة، وألفاظ مجملة، فمتى وقع الاستفسار والبيان ظهر أن ما عارضها شبه سفسطائية لا براهين عقلية”.
وقال ابن قيم الجوزية في كتابه أعلام الموقعين”(1/68): “وكل من له مسكة من عقل يعلم أن فساد العالم و خرابه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي، والهوى على العقل وما استحكم هذا الأصلان الفاسدان في قلب إلا استحكم هلاكه وفي أمة إلا فسد أمرها أتم فساد فلا إله إلا الله كم نفي بهذه الآراء من حق وأثبت لها من باطل وأميت بها من هدى وأحيي بها من ضلالة وكم هدم بها من معقل الإيمان وعمر بها من دين الشيطان”.
وقال ـ أيضاً ـ كما في “مختصر الصواعق” ص82ــ83 :” إذا تعارض النقل وهذه العقول أُخذ بالنقل الصحيح ورُمي بهذه العقول تحت الأقدام وحطت حيث حطها الله وأصحابها”.
وقد حكم الإمام الشافعي ــ الذي ذكرته في مقدمة مقالك ــ وحكم غيره من علماء المسلمين على المعتزلة ــ وقد سموهم أهل الكلام ــ في دعواهم تقديم العقل على النقل :
قال الشافعي كما في كتاب”مناقب الشافعي (1/453ـ454) :”حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في القبائل والعشائر ويقال : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام.
وقال : لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننت مسلماً يقوله ، ولأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه ــ ما خلا الشرك بالله ــ خير من أن يبتلى بالكلام” انتهى.
وقال الشاطبي المالكي في كتابه “الاعتصام” (2/845) : “لا ينبغي للعقل أن يتقدم بين يدي الشرع فإنه من التقدم بين يدي الله ورسوله ، وهذا هو ـ يعني عدم تقدم العقل بين يدي الشرع ــ مذهب الصحابة وعليه دأبوا وإليه اتخذوا طريقاً إلى الجنة فوصلوا”.
والنقول في هذا عن علماء الإسلام على مر العصور كثيرة جداً ، وذلك لإدراكهم لخطورة هذا المذهب الذي يؤدي إلى التخلي عن الشريعة وتركها ، ونفي ما دلت عليه النصوص تحت شعار:”مخالفتها العقل” ، وقد كان تقديم العقول على النصوص في الأمم السابقة سبباً جليّاً في معاندة الكثيرين لرسل الله عليهم الصلاة والسلام كما قص الله تبارك وتعالى علينا ذلك في كتابه الكريم.
الوقفة الثالثة : لقد حكى الكاتب جهله بمنهج السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان ، كما وقد جهل بتعاملهم مع النصوص الشرعية وتسليمهم لها ، واتباعهم للنبي عليه الصلاة والسلام ، ولم يكن ليدخل نفسه في هذا النفق المظلم لو أنه وُفِّقَ للوقوف ــ ولو على شيء يسيرــ عن طريقة السلف الصالح ، وقد مدحها الله تبارك وتعالى كما في قوله تعالى : “ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً). وأما كونه قد ادخل نفسه في نفق مظلم فأوضحه بأن يرجع الكاتب إلى قراءة ما سطره العلماء في كتبهم عن نهايات “شيوخ المعتزلة” وما قالوه وكتبوه في آخر حياتهم مما يحكي ندمهم والحيرة التي وجدوها ، وشهاداتهم على أنفسهم بأنهم قد أضاعوا أعمارهم في (علم الكلام) الذي لم يكن لهم منه طائل سوى الشكوك والحيرة وقسوة القلوب وضياع الأعمار.
الوقفة الرابعة : أشاد الكاتب ببعض العقلانيين المعاصرين أمثال جمال البنا وبين أنهم تبنوا منهجاً يراعي تغير الواقع في (قضية الميراث) وأشار إلى رأي الصادق المهدي في هذا الحكم ، ثم ذكر الكاتب المراحل التي مرّ بها تشريع المواريث ثم دعا دعوة واضحة إلى (تغيير هذا التشريع) بناء على تغير الواقع !! وأن الحكم يدور مع علته … وقال إن هذا الاجتهاد يتعلق بمعاشنا المتغير…الخ . وهي جرأة واضحة للدعوة إلى تغيير تشريع الإسلام ، بالتلبيس بمراحل الحكم والنسخ ، والمسلمون قد أجمعوا على أن النسخ لا يكون بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام وانقطاع الوحي ، ومثل هذه الأحكام قد استقرت عليها الشريعة ، وبهذا النهج سيأتي الكاتب أو آخر شبيه له بعد أيام ويقول إن الخمر قد مر تحريمها في عهد النبي بعدة مراحل ولعل واقعنا يناسبه كذا ، إن هذه دعوة صريحة للزندقة والتخلي عن الإسلام، وهي دعوة خطيرة ، لا أدري كيف سطرت عبر صحيفة ونشرت لعشرات الآلاف؟! ولا أدري ما دور المجمع الفقهي والمؤسسات الدينية والجامعات الإسلامية في البلاد من هذا الطرح وما يشبهه مما يسود في صفحات كثير من الصحف؟!.
الوقفة الخامسة: قال الكاتب : “فيا ليت صاحبنا كان في جسارة محمود وهو يخاطب جلاديه ويسمو بكلماته التي يشرف بها كل داعية ومفكّر ومنظّر حقيقي”انتهى.
قلت : سعى الكاتب بشحن مقاله بالإشادة بمن قدموا أهواءهم وأمزجتهم وأفكارهم الخربة على النصوص الشرعية ، فأثنى على المعتزلة ، ومجّد من نصر مذهب المعتزلة ترجم كتب الفلاسفة وهو الخليفة المأمون ، وأثنى على حسن حنفي وأركون وخليل عبد الكريم وجمال البنا ..وغيرهم ، إلى أن ختم تلك القائمة السوداء بالزنديق المرتد الذي استتيب في كفره وردته ثلاثة أيام ، ولم يتب ، الهالك محمود محمد طه ، الذي أوصله تقديمه لعقله على الشرع أن ادعى أن العبد يصل بالرياضيات الروحية والخلوات إلى درجة الربوبية والألوهية ويسوغ له آنذاك أن يقول أنا الله ، وهذه النقطة كانت من مهمات دعوته وأسسها، وأدى به عقله الخرب ومنطقه وفكره المنكوس إلى القول بسقوط الصلاة ، وإنكار الزكاة وقال نفس الذي قاله بابكر فيصل صاحب المقال في قضية التوريث ، إذ إن المرتد محمود محمد طه يرى أن الزكاة ذات المقادير تشريع مؤقت ملائم للعصور الأولى القاصرة.ولا يخفى على (عاقل) أن هذه دعوة يراد بها هدم الإسلام ولذلك فلا غرابة أن يكون الشيوعيون هم أكثر من يهتم بقضية محمود محمد طه ، ويحيون في يناير من كل عام ذكراه ويشيدون به وبفكره ، وكما يقال : إذا عرف السبب ذهب العجب!!!
الوقفة الأخيرة : وفي المقابل نجد أن الكاتب عاب السلف الصالح وأثنى على الخليفة المأمون وشنع على فترة المتوكل (الذي جاء بعد المأمون) وشنع على العهود التي جاءت بعده بل ادعى أن الحضارة الإسلامية في غيبوبة منذ ذلك الوقت لم تفق منها حتى الآن حيث قال:”ثم جاء من بعده الخليفة المتوكل الذي تبنى التيار النقيض لفكر المعتزلة وهو التيار السلفي ، ومنذ ذلك الحين دخلت الحضارة الإسلامية في غيبوبة لم تفق منها حتى يومنا هذا” انتهى ، وما قاله الكاتب هو جناية بالغة وخنجر مسموم يطعن به جهود مئات الألوف من علماء المسلمين عبر مسيرة حافلة بالعلم والتأليف والبحث والحفاظ على الدين والشريعة كما أنها جناية على التاريخ الإسلامي ، وأختم مقالي المختصر في الرد على هذا الكاتب بهذا التساؤل الذي أترك الجواب عنه للقارئ الكريم : إذا كان الكاتب قد بين أن خصومته مع من!!وان ثناءه لمن!! فلمصلحة من ولأي مذهب أو فرقة سود الكاتب تلك الكلمات المظلمة الظالمة؟!