الخطبة الأولى
الحمد لله الذي من على عباده بمواسم الخيرات، ووفق من شاء منهم لاغتنام هذه المواسم بفعل الطاعات، وخذل من شاء منهم، فكان حظه التفريط والخسران والندامات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب الأرض والسماوات وواسع الكرم والجود والهبات، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله أفضل المخلوقات، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما تعاقبت الأزمان والأوقات، وسلم تسليمًا. أما بعد؛
أيها المؤمنون: روى الترمذي عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: (أعمار أمتي بين الستينَ إلى السبعين وأقلهم من يجوز ذلك)، وروي أيضًا عنه – صلى الله عليه وسلم- : “معترك المنايا ما بين الستين إلى السبعين” حسنه الألباني. وفي هذا المعترك قبض النبي – صلى الله عليه وسلم -، قال سفيان الثوري: (من بلغ سن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليتخذ لنفسه كفنًا).
وهذه الأعمار – أيها المؤمنون – بالنسبة إلى أعمار كثير من الأمم السالفة قصيرةٌ، فهذا نوح – عليه السلام – لبث في دعوته فقط ألف سنة إلا خمسين عامًا، كما قال الله عز وجل: (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا).
ولكنّ الله عز وجل بفضله ورحمته سبحانه قد عوّض هذه الأمةَ خيرًا، وذلك أنّه رتب على الأعمال القليلة في الأوقات القصيرة الأجور العظيمة.
قال الإمام مالك – رحمه الله -: “بلغني أنّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رأى أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل الذي بلغه غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر خيرًا من ألف شهر”.
فبادروا – رحمكم الله – فرص هذا الشهر قبل فواتها، واحفظوا نفوسكم عما فيه شقاؤها وهلاكها، ألا وإنّ شهركم الكريم قد أخذ بالنقص والاضمحلال، وشارفت لياليه، وأيامه الثمينة على الانتهاء والزوال، فتداركوا أيها المسلمون ما بقي منه بصالح الأعمال، وبادروا بالتوبة من ذنوبكم لذي العظمة والجلال، واعلموا أن الأعمال بالخواتيم، فأحسنوا الختام.
عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: ” كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره” رواه مسلم.
وعنها – رضي الله عنها – قالت: “كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا الليل، وأيقظ أهله، وجدّ وشدّ المئزر” متفق عليه.
اللهم أعنا على الصيام والقيام واغتنام ما تبقى من الأعمار والآجال بصالح الأعمال. بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة. أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛
أيها المؤمنون: ثبت عن رسولنا – صلى الله عليه وسلم – أنه قال عن رمضان (فيه ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم) صححه الألباني.
وقال – صلى الله عليه وسلم -: (تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان) رواه البخاري.
وجمهور العلماء عَلَى أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ وَأَنَّهَا تَخْتَصُّ بِالأَفْرَادِ وَاخْتَلَفُوا فِي الأَخَصِّ بِهَا، فقيل: هي ليلة إحدى وعشرين، وقيل ليلة ثلاث وعشرين، وقيل: ليلة خمس وعشرين، وقيل ليلةُ سبع وعشرين، وقيل غيرُ ذلك، وهي محتملة لئن تكون في أي ليلة من هذه العشر، فينبغي على المسلم أن يجتهد في جميعها.
والْحِكْمَةُ فِي إِخْفَائِهَا – والله أعلم – أَنْ يَتَحَقَّقَ اجْتِهَادُ الطَّالِبِ كَمَا أُخْفِيَتْ سَاعَةُ اللَّيْلِ وَسَاعَةُ الْجُمُعَةِ.
ومما ورد في فضل هذه الليلة: قوله – صلى الله عليه وسلم -: (من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه) رواه البخاري ومسلم.
ولعظم هذه الليلة فقد أنزل الله فيها قرآنًا وسورةً تتلى إلى قيام الساعة، وهي سورة القدر، وهذه وقفة قصيرة مع آياتها:
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}. الهاء في {أنزلناه} كِنَايَةٌ عَنِ الْقُرْآنِ، كما قال تعالى: (حم# والكتاب المبين# إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنّا كنّا منذرين).
وقَوْلُهُ تَعَالَى: {وما أدراك ما ليلة القدر} هَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ لَهَا وَالتَّشْوِيقِ إلى خبرها.
وفي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شهر} قَالَ مُجَاهِدٌ وقتادة: قِيَامُهَا وَالْعَمَلُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ أَلْفِ شَهْرٍ مِنْ هَذَا الزَّمَانِ وَصِيَامِهَا لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ.
وأما قوله تَعَالَى: {تَنَزَّلُ الملائكة والروح فيها} فقد روي عن بعض الصحابة: أنّ الْمَلائِكَةَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الأَرْضِ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ الْحَصَى. والروح هو جبريل -عليه السلام -.
وقوله تعالى : (بإذن ربهم من كل أمر) قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: يَنْزِلُونَ بِكُلِّ أَمْرٍ قَضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي تِلْكَ السَّنَةِ إِلَى قَابِلُ.
وفي قَوْلُهُ تَعَالَى: {سلام هي} قال قتادة: السَّلامُ الْخَيْرُ وَالْبَرَكَةُ.
أيها المسلمون: الْأَيَّام صَحَائِف الْأَعْمَار فخلدوها أحسن الْأَعْمَال، والفرص تمر مر السَّحَاب، والتواني من أَخْلَاق الْخَوَالِف، فانتهزوا – رحمكم الله – فرصة بلوغكم هذه العشر، التي فيها ليلة هي خير من ألف شهر.
وصلوا وسلموا على نبينا محمد، فقد أمركم الله بذلك، فقال سبحانه: (إنّ الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا) اللهم صل وسلم على يا رب العالمين، وارض اللهم عن صحابة نبيك أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واخذل من خذل الدين.
اللهم احفظ ولاة أمرنا، ووفقهم بتوفيقك وأيدهم بتأييدك واجعل عملهم صالحًا في رضاك، اللهم هيء لهم البطانة الصالحة الناصحة التي تدلهم على الخير وتعينهم عليه يا رب العالمين. اللهم انصر جنودنا المرابطين على الحدود والثغور وفي الداخل يا قوي يا عزيز.
ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا؛ إنك أنت التواب الرحيم، والحمد لله رب العالمين.
أعدها: بدر بن خضير الشمري، للملاحظات التواصل عبر الرقم:0533646769.