قوانين اللعبة تغيرت !
هذه آثار اللحى ما تزال على وجوههم بادية، إنّ بقاياها قارّة على أذقانهم، لعلّ الوقت لم يسعفهم بعدُ لإزالتها وإلغائها ومحوها بالكلية، أو أنّ لزوم الصّنعة، وفقه المرحلة، والحاجة إلى استبقاء الأتباع، يستوجب إعفاءها والتحلّي بها.
على أية حال ؛ فإنّ منهم من كان قبل برهة من الزمن يكفّر المجتمعات، ويتبرّأ من الحكومات، ويتّهم الحاكم والمحكوم على حدّ سواء بالردة عن الدين، والامتناع عن الإذعان لتحكيم الشّريعة.
ومنهم من لم يكن كذلك، بل كان ضررهٌ على نفسه، وحرابُه مسدّدةٌ إلى نحره، فيتخيّر الأنكى من الأقوال، والأعنت من الاختيارات، تشهّيا ليتديّن بها، ويدعو أتباعه ومن التفّ حوله إليها.
ومن هؤلاء من كان قبل هذا، قد نصب من نفسه قيّما على أهل البدع والمقالات المخالفة، فكان يظنّ أنّ في قلبه الإيمان الحقّ، واليقين الراسخ، وفي يده الآلة العلمية والعدّة الشّرعية الكافية لهتك بدع المبتدعين وإظهار عوار المضلّين، فغلا في هذا الباب وبدع أهل السنة بأهون الأسباب !
ومن المعلوم بداهة أنّ الحكم بالبدعة أمر ثقيل، يحتاج إلى أدلة وبراهين وعلم راسخ بعقيدة أهل السنّة والأثر، ودراية واسعة بالمقالات الحادثة.
ومنهم من كان يظنّ أنّ أمة محمد صلى الله عليه وسلم قد هلكت، أو أنها قد مرقت من دين الله وخرجت من أوسع أبوابه أفواجا، ولم يبق على الدين الحق والصراط المستقيم إلا نُزاع من الناس، وفئام ممن يوافقه على غلوه وتنطعه.
فإذا بالأيام تمشي مشيها، وتسير سيرها، وسنّةُ الله في أمثال هؤلاء لا تتحوّل ولا يمكن أن تتبدّل، فأصبحت حماستهم للدين أثرا بعد عين، وقومتهم لنُصرته جثّة باردة لا حياة فيها، وهذا عرَض لمرض، ونتيجة لسبب !!
فإن الله تعالى لا يظلم عباده ولا يجازيهم إلا بما صنعته أيديهم، ولا يؤاخذهم إلا بما تعمّدته قلوبهم، وبذلت أسبابه جوارحهم.
فآل بهم الحال إلى أن تشرّبت قلوبهم الفتن، ورتعت في مستنقعاتها، حين تركها أصحابها بغير حبل من الله وثيق، فغفلوا عن قلوبهم التي كانت تتقلّب بين الأهواء الهوجاء كالورقة تُقلّبها الريح ظهرا لبطن.
فلما أنكروا قلوبهم، وتبدّلت عليهم أحوالهم، وتكدّرت مشاربهم، لم يبادر كثير منهم بالرجوع إلى الله، ولم يجأروا بسؤاله التثبيت على الحقّ، والخلاص مما علق بقلوبهم من دخن الأهواء، ولم يستشعروا الضعف والافتقار إلى الغنيّ الحميد، بل سدروا في غيّهم، وتمادوا في طغيانهم.
فكرعوا من الأهواء وتضلّعوا من مشاربها الآسنة ومواردها النتنة حتى نبتت أجسامهم من سُحت البدع، عند ذلك نشزت عظامهم، وفتقت أمعاؤهم على تلك الشّبهات التي ارتضعوها، واستمرأوا الإقامة في معاطنها، والمخادنة لدعاتها، والمتولين كبرها.
فكان عاقبتهم أن دمّر الله عليهم بنيان الريبة في قلوبهم، فخرّ على رؤوسهم سقف الضّلالات من فوقهم، فأعطب قُواهم وأوهن عزائمهم، وفت في أعضادهم.
لأنّ من وثق بغير الله فهو مخذول، ومن تعلق بسواه فلا يبالي به الله في أيّ أودية الدنيا تكون نهايته.
فهاهم اليوم بين قتيل للأهواء، وشريد هائم على وجهه لا يدري قِبلته، فلا يثبُت على وُجهةٍ، ولا يستقرُّ على رأي ومبدأ، كلّما سمع هيعةَ فتنةٍ طار إليها، فصار من دعاتها ومنظّريها وأصحاب السّبق والشّأن فيها.
فإذا تبيّن له بعد حينٍ عوارها، وتكشّف له خزيها وبوارها، قال: لقد تغيرت قوانين اللعبة !
فما كنت أقوله بالأمس غير ما صرت إليه اليوم، وما سأقوله غدا سينسخ ما كنت أعتقده سابقا ودعوت المريدين إليه، فقد كان ديني حينذاك تجربة استحسنتُها، ومرحلة عمرية اجتزتها، وتجربة رائعة استفدت منها !!
فغرهم الشيطان وأدلاهم بغروره، فلما وقعوا في شباكه، وحاقت بهم أسباب الهلاك، خطبهم بأعلى صوته متبرءا منهم، هازئا بهم، ساخرا مما صارت إليه أحوالهم.
فاحذر أخي رعاك الله آراء الرجال ومقاييسهم ومعقولاتهم، والزم السنّة والأثر، فعما قليل ستتكشف الحقائق وتنجلي لطلابها، وتعلم حينذاك أن من استقام على الطريق وثبت على الجادة هو الأحق بكل كمال، والأسبق إلى كلّ غاية منشودة.
كتبه محمد بن علي الجوني