كبائر مهلكات وبين الناس شائعات


الخطبة الأولى:

الحمدُ للهِ الذي أَوْضَحَ لِعِبادِهِ طُرُقَ الهِدَايَةِ، ويَسَّرَ لَهُمْ أسبابَ النَّجَاةِ والوِقَايَةِ، وأنْزَلَ كِتَابًا يشتَمِلُ على العِلْمِ والدِّرَايَةِ، وأشهَدُ أنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَريكَ لَهُ في العبادَةِ والوِلَايَةِ، وأشهَدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ الذي أيَّدَ اللهُ بِهِ الدِّينَ ونصَرَهُ بالحِمَايَةِ، صَلَّى اللهُ عليهِ وعَلَى آلِهِ وأصحابِهِ والتَّابعينَ لَهُمْ بإحسانٍ إلى يومِ القِيَامَةِ، وسَلَّمَ تسليمًا.

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي ‌خَلَقَكُمْ ‌مِنْ ‌نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1].

أما بعدُ:

فإنَّ شُؤمَ الذنوبِ عظيمٌ على الفردِ والأُسَرِ والمجتمعاتِ والدُّولِ، بل إنَّ سببَ البلاءِ والامتحانِ في هذه الدُّنيا بسَبَبِ الذُّنُوبِ لَمَّا أغوَى الشيطانُ الرجيمُ أبانا آدمَ -عليهِ السلامُ- قالَ سبحانهُ: ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾ [البقرة: 36].

بَلْ إنَّ إبليسَ نفسَهُ أُخرِجَ مِن الجَنَّةِ بِذَنْبٍ واحدٍ وهو أنهُ لَمْ يسجُدْ إِبَاءً واسْتِكبارًا، ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 34] وقالَ سبحانهُ: ﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ ‌إِذْ ‌أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [الأعراف: 12].

فبِهذا أُخْرِجَ الشيطانُ الرجيمُ مِن الجَنَّةِ وبَقِيَ يغْوِي بني آدمَ في الدُّنيا، ثُمَّ في الآخرةِ لَهُ نارٌ تلظَّى لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الأَشْقَى.

وإِنَّ خَطَرَ الذُّنُوبِ عظيمٌ، وضَرَرَهُ جَسِيمٌ، ويُقابِلُ ذلكَ الطاعةُ، فإنَّ نَفْعَهَا كَبِيرٌ في الدُّنْيَا والآخِرَةِ، عَلَى الفَرْدِ والأُسَرِ والمُجتَمَعاتِ والدُّوَلِ، قالَ سبحانه: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ‌يَعْبُدُونَنِي ‌لَا ‌يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ [النور: 55].

وهذا وَعْدٌ مِن اللهِ، واللهُ يقولُ: ﴿‌وَعْدَ ‌اللَّهِ ‌لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم: 6].

وإنَّ مِن الذُّنُوبِ كَبَائِرَ لا تُكفِّرُهَا إلا التَّوبَةُ، لا يُكفِّرُهَا إلا النَّدَمُ، لَا يُكفِّرُهَا إلا العَزْمُ على عَدَمِ العَوْدِ، لا يُكفِّرُهَا إلا الإقْلَاعُ عَنْهَا، قالَ سُبحانَهُ: ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ ‌إِلَّا ‌اللَّمَمَ﴾ [النجم: 32] وقالَ سُبْحَانهُ: ﴿‌إِنْ ‌تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا﴾ [النساء: 31].

وَإِلَيْكُمْ شَيْئًا مِن هذهِ الكَبَائِرِ المُهْلِكَةِ، التي أضَرَّتْ كثيرًا مِن الأفرادِ والأُسَرِ والمجتمعاتِ والدُّوَلِ، أسْأَلُ اللهَ بأسمائِهِ الحُسنَى وصِفَاتِهِ العُلَى أنْ يُعيذَنَا مِنْهَا وأنْ يَعْصِمَنَا وهوَ أرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.

الكبيرةُ الأولى: الشِّرْكُ، وهوَ أكبرُ الكبائِرِ على الإطلاقِ، وهو الذَّنْبُ الذي لا يُغْفَرُ، ومَنْ وَقَعَ فيهِ فإنَّ الجَنَّةَ عليهِ حَرَامٌ، وإِنَّهُ في النَّارِ مِن الخالِدِينَ، قالَ سبحانهُ: ﴿‌إِنَّ ‌اللَّهَ ‌لَا ‌يَغْفِرُ ‌أَنْ ‌يُشْرَكَ ‌بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 48] وقالَ سبحانهُ: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ ‌فَقَدْ ‌حَرَّمَ ‌اللَّهُ ‌عَلَيْهِ ‌الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ [المائدة: 72].

وروَى الإمامُ البخاريُّ ومسلمٌ عن أبي بكرةَ نُفيعِ بنِ الحارِثِ -رضيَ اللهُ عنهُ- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الكَبَائِرِ؟» -ثَلاَثًا- قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ …» الحديث.

والإشراكُ باللهِ لهُ صورٌ: كطَلَبِ المَدَدِ والتَّوفيقِ مِن الأولياءِ والصَّالحينَ، أو ادِّعاءِ عِلْمِ الغيبِ في رسولِ اللهِ ﷺ أو في غيرِهِ مِن الأولياءِ والصَّالحينَ، أَوْ طَلَبِ كَشْفِ المُدْلَهِمَّاتِ وتَفْرِيجِ الأُمُورِ العَظِيمَاتِ مِن الأَمْوَاتِ، فإنَّ كُلَّ هذا شِرْكٌ أَكْبَرُ لَا يَغْفِرُهُ اللهُ سبحانهُ وَتَعَالَى.

الكبيرةُ الثانيةُ: السِّحْرُ، وَمَا أدْرَاكَ مَا السِّحْرُ، قالَ اللهُ سبحانهُ: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ‌وَلَكِنَّ ‌الشَّيَاطِينَ ‌كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ [البقرة: 102] ثم قالَ في آخرِ الآيةِ: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ خَلَاقٌ: أَي نَصِيبٌ.

وَبَعْضُ النَّاسِ يَحْسُدُ رَجُلًا فَيَذْهَبُ إلى السَّحَرَةِ حَتَّى يَسْحَرُوهُ، أَو يُريدُ أَنْ يُفرِّقَ بينَ رَجُلٍ وامْرَأَتِهِ، أو يريدُ أَنْ يُحَبِّبَ زَوْجَتَهُ لَهُ فَيَذْهَبَ إلى أُولئِكَ السَّحَرَةِ، وَمَا يَدْرِي المِسْكِينُ أَنَّهُ أَضَاعَ دِينَهُ بِدُنْيَا سَرِيعَةِ الزَّوَالِ.

الكبيرةُ الثالثةُ: القَوْلُ عَلَى اللهِ بِغَيرِ عِلْمٍ، قالَ سبحانهُ: ﴿‌وَلَا ‌تَقْفُ ‌مَا ‌لَيْسَ ‌لَكَ ‌بِهِ ‌عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 36] وقالَ سبحانهُ: ﴿‌وَأَنْ ‌تَقُولُوا ‌عَلَى ‌اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 169].

وَمَا أَكْثَرَ المُتكَلِّمِينَ عَلَى اللهِ بغَيرِ عِلْمٍ، إِذَا طُرِحَتْ مَسْأَلَةٌ فِقْهِيَّةٌ أو شرعيَّةٌ تَكَلَّمَ فِيهَا الجاهِلُ والعَالِمُ، والصَّغيرُ والكَبِيرُ، بِرَأْيِهِ وَبِذَوْقِهِ لَا بِشَرِيعَةِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ ﷺ، أَمَّا إِذَا طُرِحَتْ مَسْأَلَةٌ هندَسِيَّةٌ أَوْ طِبِّيَّةٌ فَلَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا المُتَخَصِّصُونَ، وَلَو تَكَلَّمَ غيرُ المُتَخَصِّصِينَ لَمْ يَلْتَفِتِ النَّاسُ إِلِيهِم.

الكبيرةُ الرابعةُ: البِدَعُ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا البِدَعُ، وَهِيَ التَّعَبُّدُ للهِ عَلَى خِلَافِ طَرِيقَةِ رسولِ اللهِ ﷺ وَصَحَابَتِهِ الكِرَامِ، فَكُلُّ عِبَادَةٍ لَمْ يَفْعَلْهَا رسولُ اللهِ ﷺ ولا صحابَتُهُ الكِرامُ فَهِيَ مِن البِدَعِ المُسْخِطَةِ للهِ، وكُلُّ البِدَعِ ضَلَالَةٌ وكُلُّ البِدَعِ مُحَرَّمَةٌ.

رَوَى الإمامُ مسلمٌ عَن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ -رضيَ اللهُ عنهُ- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» وَرَوَى الخَمْسَةُ إِلَّا النَّسَائِيُّ عَن العِرْبَاضِ بنِ سارِيةِ -رضيَ اللهُ عنهُ- أنهُ قالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ذَاتَ يَوْمٍ، فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، وَذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَعَظْتَنَا مَوْعِظَةَ مُوَدِّعٍ، فَاعْهَدْ إِلَيْنَا بِعَهْدٍ، فَقَالَ: «عَلَيْكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا، وَسَتَرَوْنَ مِنْ بَعْدِي اخْتِلَافًا شَدِيدًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْأُمُورَ الْمُحْدَثَاتِ، فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ».

كُلُّ عِبَادَةٍ لَمْ يَفْعَلْهَا رسولُ اللهِ ﷺ فهيَ بِدعةٌ مُحرَّمةٌ، كالذِّكْرِ الجَمَاعِيِّ بعدَ الصَّلَواتِ، وكالدُّعَاءِ الجَمَاعِيِّ، وكَعَشَاءِ الوالِدَيْنِ في رَمَضَانَ، أَوْ كَقَولِ: ” جُمْعَةٌ مُبَارَكَةٌ “يَوْمَ الجُمُعَةِ، أَوْ يُصافِحُ بعضُهُم بَعْضًا بَعْدَ صَلَاةِ الفَرِيضَةِ بقولِ: ” تقبَّلَ اللهُ “، أو يقولُ: ” حرَمًا ” ويقولُ الثاني: ” جَمْعًا ” … إلى غيرِ ذلكَ مِن البِدَعِ، فكُلُّهَا مُسْخِطَةٌ للهِ لأنَّهَا عِبَادَاتٌ لَمْ يَفْعَلْهَا رسولُ اللهِ ﷺ وَلَا صَحَابَتُهُ الكِرامُ.

الكبيرةُ الخامِسَةُ: تأخيرُ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا، لَيْسَ الكَلَامُ عَلَى تَرْكِ الصَّلاةِ، فَإِنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ كُفْرٌ!!

رَوَى الإمامُ مسلمٌ عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ -رضيَ اللهُ عنهُ- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «إِنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلَاةِ»، فَتَرْكُ الصَّلَاةِ كُفْرٌ مُخْرِجٌ مِن الدِّينِ، وَإِنَّمَا الكَلَامُ عَلَى تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ عَن وَقْتِهَا تَعَمُّدًا بِتَكَاسُلٍ في نَوْمٍ أَو قِيْلٍ أَو قَالٍ أو غيرِ ذلكَ.

قالَ اللهُ سبحانهُ: ﴿‌فَخَلَفَ ‌مِنْ ‌بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾ [مريم: 59] ثَبَتَ عِنْدَ ابنِ جريرٍ وَغَيْرِهِ عَن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ -رضيَ اللهُ عنهُ- أَنَّهُ قِيْلَ لَهُ: أَكَانُوا تَارِكِيْنَ لِلصَّلَاةِ؟ قَالَ: “ لَوْ تَرَكُوهَا لَكَفَرُوا، وَإِنَّمَا كَانُوا يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا “.

إِنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ عَن وَقْتِهَا كَبِيرَةٌ مِن كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، بَلْ أَفْتَى شَيْخُنَا العَلَّامَةُ عبدُ العزيزِ ابنُ بازٍ -رحمهُ اللهُ تعالَى- أنَّ تَعَمُّدَ وَضْعِ المُنَبِّهِ عَلَى وَقْتِ الدَّوَامِ والعَمَلِ السَّاعَةَ السَّابِعَةَ فَيَتْرُكُ الصَّلَاةَ كُفْرٌ مُخْرِجٌ مِن الدِّينِ!

وَمَعْنَى أَنَّهُ كُفْرٌ وَمُخْرِجٌ مِن الدِّينِ أنَّ صاحِبَهُ إِذَا مَاتَ لَا يُتَرَحَّمُ عَلَيهِ، وَلَا يُسْتَغْفَرُ لَهُ، وَلَا يُغَسَّلُ، وَلَا يُكَفَّنُ، وَلَا يُقَدَّمُ لِلْمُسْلِمِينَ لِيُصَلُّوا عَلَيهِ، وَلَو فَعَلَ ذَلِكَ وَلِيِّهُ أَصْبَحَ غَاشًّا لِلمُسْلِمِينَ، وَلَا يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ المُسْلِمِينَ، وَبَقَاؤُهُ مَعَ زَوْجَتِهِ بَقَاءٌ غَيرُ شَرْعِيٍّ، وَأَوْلَادُهُ غَيرُ شَرْعِيينَ، إِلَى غيرِ ذلكَ مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى الكُفْرِ -عَافَانِي اللهُ وإيَّاكُم-.

فَاحْذَرُوا تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ عَن وَقْتِهَا، اِحْذَرُوا تَقْدِيمَ الدُّنْيَا مِن الدَّوَامَاتِ والأَعْمَالِ وغيرِ ذلكَ عَلَى الصَّلَوَاتِ والعِبَادَاتِ، فَمَا أَكْثَرَ المُتَسَاهِلِينَ والمُؤَخِّرِينَ لِلصَّلَاةِ عَن وَقْتِهَا مِن النِّسَاءِ فِي البُيوتِ، أَو الشَّبَابِ فِي الاجْتِمَاعَاتِ والقِيْلِ والقَالِ واللَّعِبِ وغيرِ ذلكَ، فإنَّ الأَمْرَ جِدُّ خطيرٍ، فاتَّقُوا اللهَ فَإِنَّكُمْ عَمَّا قَرِيبٍ بَيْنَ يَدَي اللهِ مَوْقُوفُونَ.

الكبيرةُ السادسةُ: عُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا عُقوقُ الوَالِدَيْنِ، قَالَ سُبْحَانهُ: ﴿‌وَقَضَى ‌رَبُّكَ ‌أَلَّا ‌تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الإسراء: 23] قَرَنَ الإِحْسَانَ لِلوَالِدَيْنِ بِتَوْحِيدِهِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ حَقٍّ للهِ، فَدَلَّ عَلَى عَظِيمِ حَقِّهِمَا وَأَنَّ عُقُوقَهُمَا مِن أَعْظَمِ الكَبَائِرِ.

رَوَى البخاريُّ ومسلمٌ عن أَبِي بَكْرَةَ أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الكَبَائِرِ؟» -ثَلاَثًا- قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ …».

مَا أَكْثَرَ العَاقِّينَ بِالآبَاءِ والأُمَّهَاتِ، مَا أَكْثَرَ المُقَدِّمِينَ لِشَهَوَاتِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ وَأَصْدِقَائِهِمْ وَأَصْحَابِهِمْ عَلَى الوَالِدَيْنِ مِن الآبَاءِ والأُمَّهَاتِ، لَاسِيَّمَا بَعْدَ كِبَرِ أَعْمَارِهِمْ وَتَقَدُّمِ السِّنِّ بِهِمْ، فَإِنَّ الأَمْرَ خَطِيرٌ غَايَةَ الخُطُورَةِ، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَدْخِلُوا السُّرُورَ فِي نُفُوسِ الآبَاءِ والأُمَّهَاتِ وكُونُوا لَهُمْ مُعينِينَ عَلَى كُلِّ خَيْرٍ فِي أُمُورِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَاتَّقُوا اللهَ في أَلْفَاظِكُمْ وَتَذَكَّرُوا قَولَهُ تَعَالَى: ﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ﴾ [الإسراء: 23] فَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِن بابِ أَوْلَى.

الكبيرةُ السابِعَةُ: قَطِيعَةُ الأَرْحَامِ، قالَ تعالى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ ‌وَتُقَطِّعُوا ‌أَرْحَامَكُمْ﴾ [محمد: 22] قَطِيعَةُ الرَّحِمِ لِلأَعْمَامِ وَالعَمَّاتِ وَأَبْنَاءِ العَمِّ وَلِلإِخْوَانِ والأَخَوَاتِ، والأَخْوَالِ والخَالَاتِ كَبِيرَةٌ مِن كَبَائِرِ الذُّنُوبِ.

مَا أَكْثَرَ قَطِيعَةَ الرَّحِمِ بِسَبَبِ دُنْيَا زَائِلَةٍ، أَو زَوْجَةٍ أَو وَلَدٍ أَو مَالٍ، إلى غيرِ ذلكَ، إنَّ الأَمْرَ خَطِيرٌ لِلْغَايَةِ، اتَّقُوا اللهَ وَصِلُوا أَرْحَامَكُمْ فإِنَّ مَن وَصَلَ رَحِمَهُ وَصَلَهُ اللهُ.

اللهُمَّ إنَّا نعوذُ بِكَ مِن كُلِّ ما يُسْخِطُكَ، اللهُمَّ إنَّا نعوذُ بِكَ مِن الذُّنُوبِ والمَعَاصِي، اللهُمَّ إنَّا نَسْأَلُكَ أنْ تأخُذَ بِنَوَاصِينَا إلى البِرِّ والتَّقْوَى، وأنْ تُعِينَنَا على ذِكْرِكَ وشُكْرِكَ وحُسْنِ عِبادَتِكَ.

أقولُ ما قُلْتُ، وأَسْتَغفِرُ اللهَ لي ولكُمْ فاستغفِروهُ، إنهُ هوَ الغفورُ الرَّحِيمُ.

 

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، أما بعدُ:

فإتمامًا لِمَا تَقَدَّمَ:

الكبيرةُ الثَّامِنَةُ: الزِّنَا، قَدْ حَرَّمَ اللهُ الزِّنَا في كِتَابِهِ تَحْرِيمًا شَدِيدًا وَحَذَّرَ مِن الاقْتِرَابِ مِنهُ فَضْلًا عَن فِعْلِهِ، قالَ سبحانهُ: ﴿‌وَلَا ‌تَقْرَبُوا ‌الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ [الإسراء: 32].

فَاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ، واعْلَمُوا أَنَّ ذَنْبَ الزِّنَا ذَنْبٌ عَظِيمٌ، فَاحْذَرُوهُ وَاحْذَرُوا كُلَّ وَسِيلَةٍ مُوصِلَةٍ إليهِ مِن الاخْتِلَاطِ المُحَرَّمِ مَعَ النِّسَاءِ في الوَظَائِفِ، وَمِن تَبَرُّجِ النِّسَاءِ وَتَجَمُّلِهِنَّ عِندَ الرِّجالِ، فإِنَّهُ وَسِيلَةٌ عَظِيمَةٌ مِن وَسَائِلِ الزِّنَا -عافانِي اللهُ وإياكُم-.

الكبيرةُ التاسِعَةُ: أَكْلُ الرِّبَا، قالَ سبحانهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ‌وَذَرُوا ‌مَا ‌بَقِيَ ‌مِنَ ‌الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [البقرة: 278-279].

فِي يَوْمِ القِيَامَةِ، يَوْمِ الحَاقَّةِ والقَارِعَةِ، يكونُ الناسُ في وَجَلٍ شَدِيدٍ، وَفِي حَالَةٍ صَعْبَةٍ وَكَرْبٍ عظيمٍ، وفي ذاكَ اليومِ الأُمُّ تَتَعَلَّقُ بِوَلَدِهَا وتقُولُ: حَسَنَةً حَسَنَةً، والوَلَدُ لَا يُعْطِي أُمَّهُ شَيْئًا وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا لِهَوْلِ المَوْقِفِ وعِظَمِهِ، في ذاكَ اليومِ العظيمِ يُعْطَى المُرَابيُ سِلَاحًا ويُقالُ لهُ: قُمْ حَارِبْ رَبَّكَ! فَإِنَّكَ كُنْتَ تُرَابِي فِي الدُّنيا.

إنَّ ذَنْبَ الرِّبَا عَظِيمٌ، وَمَا أَكْثَرَ انْتِشَارَهُ بينَ المسلمينَ، فاتَّقوا اللهَ في أَمْوَالِكُمْ، اتَّقوا اللهَ فيما تَأْكُلُونَ، اتَّقوا اللهَ فيما تُوكِّلونَ أَوْلَادَكُم وأزواجَكُم، إنَّ الجُرْمَ عظيمٌ والإثْمَ جَسِيمٌ -عافاني اللهُ وإياكُم-.

الكبيرةُ العاشرةُ: شَهَادَةُ الزُّورِ، إنَّ مِن الناسِ مَن يشهدُ شهَادَةَ زُورٍ مَعَ بَعْضِ أَقَارِبِهِ أو أصحابِهِ، اعلَمْ أنَّ شهادةَ الزُّورِ كَبِيرَةُ الذَّنْبِ والإِثْمِ، وَلَيْسَ عُذْرًا أنْ تَقُومَ حَمِيَّةً لقريبٍ أو صاحِبٍ فتشهدَ زُورًا، فتُؤذِي غَيْرَكَ، أخرجَ البخاريُّ ومسلمٌ عن أبي بَكرةَ نُفيعِ بنِ الحارِثِ -رضيَ اللهُ عنهُ- أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الكَبَائِرِ؟» -ثَلاَثًا- قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ -وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ- أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ»، قَالَ: فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ.

فَدَلَّ ذلِكَ على خطورَتِهِ، فَمَا أشدَّ جُرْمَهُ.

يا للهِ! كَمْ تَسَبَّبَتْ شهادَةُ الزُّورِ مِن تَضْييعِ حُقُوقِ العِبادِ، كَمْ تسبَّبَتْ مِن ضَيْمٍ وظُلْمٍ على العِبادِ، لأَجْلِ حَمِيَّةٍ أو صَدَاقَةٍ أو حُثَالَةِ مالٍ، أو غيرِ ذلكَ.

الكبيرةُ الحاديةَ عشرةَ: اليَمِينُ الغَمُوسُ، أَتَدْرونَ مَا اليمينُ الغَمُوسُ؟ هيَ التي تَغمِسُ صاحِبَهَا في النَّارِ، وهِيَ أنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ على أمرٍ قَدْ مَضَى كَذِبًا وهو يعلَمُ كَذِبَهُ، ومِن شِدَّةِ ذَنْبِ اليمينِ الغموسِ أنَّهَا لَا تُكَفِّرُهَا الكَفَّارَةُ التي ذَكرَهَا اللهُ في كِتابِهِ مِن إطعامِ عَشْرَةِ مساكينَ أو كِسْوَتِهِم …إلخ.

روَى البخاريُّ عن عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بن العاصِ -رضيَ اللهُ عنهُ- أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «الكَبَائِرُ: الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَاليَمِينُ الغَمُوسُ».

فاتَّقُوا اللهَ واحْذَرُوا الكَذِبَ كُلَّهُ، ويزدادُ إِثْمُهُ إذا كانَ على أمرٍ ماضٍ، وكان مُؤكَّدًا بالحَلِفِ الكاذِبَةِ -عافاني اللهُ وإياكُم-.

إنَّ الكبائرَ كثيرةٌ، وقَدْ رُويَ عن عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ -رضي الله عنه- أَنَّهَا إلى السَّبْعِينِ أقرَبُ.

فالكبائرُ عظيمةُ الجُرْمِ والإثْمِ، فاتَّقوا اللهَ وتأمَّلوا كَمْ للذنوبِ مِن وبالٍ شَدِيدٍ في الدُّنيا والآخرةِ، قالَ سبحانهُ: ﴿‌وَمَنْ ‌يَعْصِ ‌اللَّهَ ‌وَرَسُولَهُ ‌فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب: 36] وقال: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ ‌حُدُودَهُ ‌يُدْخِلْهُ ‌نَارًا ‌خَالِدًا ‌فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [النساء: 14] وقالَ سبحانهُ: ﴿تِلْكَ ‌حُدُودُ ‌اللَّهِ ‌فَلَا ‌تَعْتَدُوهَا ‌وَمَنْ ‌يَتَعَدَّ ‌حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [البقرة: 229].

اللهُمَّ يا مَن لا إلهَ إلَّا أنتَ، إنَّا نعوذُ بِكَ مِمَّا يُسْخِطُكَ، نعوذُ بِكَ مِنَ الذُّنُوبِ كُلِّهَا، صَغِيرِهَا وكَبِيرِها، اللهُمَّ إنَّا نَسْألُكَ تَعْظِيمَكَ، ونَسْألُكَ حُبَّكَ، ونَسْألُكَ الإِقْبَالَ عَلَيكَ، ونَسْألُكَ المُسَارَعَةَ في فَعْلِ الخَيْرَاتِ، والمُسَابَقَةَ في فِعْلِ الطَّاعَاتِ، يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

نسخة للطباعة
تنزيل الكتاب
نسخة للجوال
تنزيل الكتاب

شارك المحتوى:
0