الخطبة الأولى:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ وَفَّقَ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ لِلْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَكَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا، وَحَجَبَ عَنْهُ أَهْلَ الْغَوَايَةِ فَكَانَ سَعْيُهُمْ مَرْدُودًا، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ دَعَا إِلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، وَبَيَّنَ فَضْلَهَا وَمَنْزِلَتَهَا، وَحَثَّ أُمَّتَهُ عَلَى التَّمَسُّكِ بِهَا، وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا، وَالْتِزَامِ لَوَازِمِهَا، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَتَعَلَّمُوا مِنْ دِينِكُمْ مَا يُبَلِّغُكُمْ رِضْوَانَ رَبِّكُمْ؛ فَإِنَّ الدُّنْيَا دَارُ فَنَاءٍ وَغُرُورٍ، وَإِنَّ الْآخِرَةَ دَارُ نَعِيمٍ وَخُلُودٍ.
أيها الناس: إن الله جل جلاله وتقدست أسماؤه ما أوجد البشر من العدم، ولا أقام السماوات والأرض، ولا أرسل الرسل ولا أنزل الكتب، إلا لأجل أمر عظيم وواجب جليل، هو أول المأمورات الشرعية والواجبات الحتمية، من حققه وجبت له الجنةُ ونعيمهُا بفضله سبحان، ومن ضيعه استوجب الجحيمَ وسعيرهَا بعدله سبحانه، قال عنه ابن القيم: (نُصِبَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ وَأُسِّسَتْ عَلَيْهِ الْمِلَّةُ، وَوَجَبَتْ بِهِ الذِّمَّةُ، وَانْفَصَلَتْ بِهِ دَارُ الْكُفْرِ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَانْقَسَمَ بِهِ النَّاسُ إِلَى سَعِيدٍ وَشَقِيٍّ، وَمُهْتَدٍ وَغَوِيٍّ، وَنَادَتْ عَلَيْهِ الْكُتُبُ وَالرُّسُلُ) [مدارج السالكين]
إن هذا الأمر عباد الله هو كلمة التوحيد لا إله إلا الله قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، قال الإمام محمد بن عبدالوهاب: “يعبدون أي وحدون” [ثلاثة الأصول]، وقال تعالى: (وَمَا خَلَقۡنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَآ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۗ) قال ابن القيم: “إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي خُلِقَتْ بِهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ” [مدارج السالكين] وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)، قال ابن كثير: “فكل نبي بعثه الله يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له” [تفسيره] وقال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) قال ابن تيمية: “إخْلَاصُ الدِّينِ لِلَّهِ هُوَ الدِّينُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ سِوَاهُ وَهُوَ الَّذِي بَعَثَ بِهِ الْأَوَّلِينَ والآخرين مِنْ الرُّسُلِ وَأَنْزَلَ بِهِ جَمِيعَ الْكُتُبِ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَهَذَا هُوَ خُلَاصَةُ الدَّعْوَةِ النَّبَوِيَّةِ وَهُوَ قُطْبُ الْقُرْآنِ الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ رَحَاهُ”.
أيها الناس: إن معنى كلمة التوحيد لا إله إلا الله؛ أي: لا معبود بحق إلا الله، فالعبادة كلها لله وحده لا شريك له كما قال تعالى: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً) قال ابن تيمية: “العبادة اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ”[مجموع الفتاوى] فالدعاء والخوف والرجاء والتوكل والرغبة والرهبة والخشوع والخشية والإنابة والاستعانة والاستعاذة والاسغاثة والذبح والنذر وغير ذلك من العبادات كلُّها لله وحده، ولهذا عادى مشركو قريش النبي ﷺ وأصحابه وقاتلوهم لأنهم عرفوا حقيقة كلمة التوحيد قال تعالى عنهم: (أجعل الآلهة إله واحداً إن هذا لشيء عجاب) قال الطبري: (لَمَّا مَرِضَ أَبُو طَالِبٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَهْطٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِيهِمْ أَبُو جَهْلِ فَقَالُوا: إِنَّ ابْنَ أَخِيكَ يَشْتِمُ آلِهَتَنَا، وَيَفْعَلُ وَيَفْعَلُ، وَيَقُولُ وَيَقُولُ، فَلَوْ بَعَثْتَ إِلَيْهِ فَنَهَيْتَهُ؛ فَبَعَثَ إِلَيْهِ، فَجَاءَ النَّبِيُّ ﷺ فَدَخَلَ الْبَيْتَ، وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَبِي طَالِبٍ قَدْرُ مَجْلِسِ رَجُلٍ، قَالَ: فَخَشِيَ أَبُو جَهْلٍ إِنْ جَلَسَ إِلَى جَنْبِ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يَكُونَ أَرَقَّ لَهُ عَلَيْهِ، فَوَثَبَ فَجَلَسَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، وَلَمْ يَجِدْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَجْلِسًا قُرْبَ عَمِّهِ، فَجَلَسَ عِنْدَ الْبَابِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو طَالِبٍ: ابْنَ أَخِي، مَا بَالُ قَوْمِكَ يَشْكُونَكَ؟ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ تَشْتُمُ آلِهَتَهُمْ، وَتَقُولُ وَتَقُولُ؛ قَالَ: فَأَكْثَرُوا عَلَيْهِ الْقَوْلَ، وَتَكَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: «يَا عَمِّ إِنِّي أُرِيدُهُمْ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يَقُولُونَهَا، تَدِينُ لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ، وَتُؤَدِّي إِلَيْهِمْ بِهَا الْعَجَمُ الْجِزْيَةَ»، فَفَزِعُوا لِكَلِمَتِهِ وَلِقَوْلِهِ، فَقَالَ الْقَوْمُ: كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ؟ نَعَمْ وَأَبِيكَ عَشْرًا؛ فَقَالُوا: وَمَا هِيَ؟ فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: وَأَيُّ كَلِمَةٍ هِيَ يَا ابْنَ أَخِي؟ قَالَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» قَالَ: فَقَامُوا فَزِعِينَ يَنْفُضُونَ ثِيَابَهُمْ، وَهُمْ يَقُولُونَ: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لِشَيْءٌ عُجَابٌ) [تفسيره].
فانظروا يا عباد الله إلى حال المشركين مع هذه الكلمة العظيمة، ما امتنعوا عنها إلا لعملهم بمعناها ومقتضاها ولوازمها ونواقضها، وأكثر المسلمين اليوم لا يعلم من هذه الكلمة إلا مبناها بلا علم لمعناها ومقتضاها، فالله الله عباد الله بالعناية بهذه الكلمة غاية العناية، والحفاظ عليها وصيانتها عما يشوبها.
جعلنا الله ممن قام بكلمة التوحيد حق القيام ووفّق للنطق بها عند الختام.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه إنه قريب مجيب.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
قيل للحسن: إن ناسًا يقولون: من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة، فقال: (من قال: لا إله إلا الله فأدى حقها وفرضها دخل الجنة) وقيل لوهب بن منبه: أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة؟ قال: (بلى، ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح)، فكلمة التوحيد لا تنفع صاحبها في الدنيا ولا في الآخرة إلا إذا حُققت شروطُها وانتفت موانعُها، فأما شروطها فسبعة:
أحدها: العلم المنافي للجهل قال ﷺ: (مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ).
الثاني: اليقين المنافي للشك قال ﷺ: (أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، لَا يَلْقَى اللَّهَ بِهِمَا عَبْدٌ غَيْرَ شَاكٍّ فِيهِمَا، إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ).
الثالث: القبول المنافي للرد قال تعالى: (إنهم كان إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون).
الرابع: الانقياد المنافي للترك قال ﷺ: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به).
الخامس: الإخلاص المنافي للشرك قال ﷺ: (أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ، أَوْ نَفْسِهِ).
السادس: الصدق المنافي للكذب قال ﷺ: (ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار).
السابع: المحبة المنافية للبغض قال تعالى: (وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَندَادٗا يُحِبُّونَهُمۡ كَحُبِّ ٱللَّهِۖ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَشَدُّ حُبّٗا لِّلَّهِۗ).
وأما موانع كلمة التوحيد فإنه: الكفر بالله والشركُ به -والعياذ بالله- وهو أعظم ما نهى الله عنه، وهو الذنب الذي لا يغفر الله لصاحبه إن مات عليه، وهو الذنب الذي يحبط العمل، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) وقال تعالى: (وَلَقَدۡ أُوحِيَ إِلَيۡكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكَ لَئِنۡ أَشۡرَكۡتَ لَيَحۡبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ)، وسئل ﷺ أي الذنب أعظم فقال: (أن تجعل لله نداً وهو خلقتك)، وقال ﷺ: (من مات وهو يدعو لله ندًا دخل النار) وحقيقة الشرك هو صرف العبادة لغير الله تعالى، فمن صرف شيئاً مما يختص بالله تعالى لغيره فقد وقع في الشرك قال ابن القيم: (فالشِّرْكُ الْأَكْبَرُ لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ، وَهُوَ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ دُونِ اللَّهِ نِدًّا، وَهُوَ الشِّرْكُ الَّذِي تَضَمَّنَ تَسْوِيَةَ آلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، مَعَ إِقْرَارِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَإِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ التَّسْوِيَةُ فِي الْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ وَالْعِبَادَةِ)، ولا يؤمن الوقوع في الشرك إلا جاهل به، فخليل الله إبراهيم أعظمُ الناس توحيداً وأبعدهُم عن الشرك ومع ذلك دعا اللهَ قائلا: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ) قال إبراهيم التيمي: “من يأمن البلاء بعد إبراهيم”، فإن كان هذا خوف الخليل عليه السلام من الشرك، فكيف نأمن الشرك بعده.
فصونوا يا عباد الله توحيدكم، وجردوه لربكم وحده لا شريك له، واسألوه الثبات عليه إلى أن تلقوه، فوالله لئن حققتم التوحيد أمنتم في الدنيا والآخرة، وفُزتُم بالجنة ونعيمِها وحُفظتُم من النار وجحيمِها.
اللهم املأ قلوبنا بالتوحيد، واجعلنا من أهله وخاصته، اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك ونحن نعلم ونستغفرك لما لا نعلم.
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وِأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
اللَّهُمَّ ارْضَ عَنْ صَحَابَتِهِ وَعَنِ التَّابِعِينَ وَتَابِعيِهِم إِلَى يَوْمِ الدِّينِ وَعَنَّا مَعَهُم بِعَفْوِكَ وَمَنِّكَ وَكَرَمِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين وانصر عبادك الموحدين.
اللهم وفق ولي أمرنا بتوفيقك وأيده بتأييدك وارزقه البطانة الصالحة الناصحة التي تدل على الحق وتعينه عليه يا رب العالمين.
اللهم وفق جميع ولاة أمور المسلمين لإقامة الدين القويم والعمل بسنة سيد المرسلين.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم أجمعين، اللهم أجزهم عنا خير الجزاء يا كريم اللهم اجمعنا بهم وبأحبابنا في الفردوس الأعلى يا رب العالمين.
اللهم إنا نعوذ بك من الغلاء والوباء والربا والزنا والزلال والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.