لا أحد أحب إليه العذر من الله
عدد من إخواننا طلاب العلم الشرعي لا يكاد يهمُّهم ويشغلهم اليوم من مسائل العلم الشرعي والدعوة إلى الله والنهي عن الإسراف؛ أكثر مما أهمتهم وشغلتهم مسألة علمية شرعية اختلف فيها فقهاء الأمة قديمًا وحديثًا. بل لقد قال ابن تيمية رحمه الله: (وهذه أول مسألة تنازعت فيها الأمة من مسائل الأصول الكبار) مجموع الفتاوى 3/230؛ ألا وهي مسألة العذر بالجهل.
فيرى إخواننا (دلهم الله على الحق وثبتهم عليه) الأخذ برأي من لا يرى أن الله تعالى يعذر عبده المسلم المعيَّن بالجهل إذا قال أو فعل مكفرًا.
ولا أشك لحظة واحدة في أن غيرتهم على الإسلام والمسلمين، (وربما خشيتهم من التهاون في هذا الأمر العظيم ـ أمر الاعتقاد ـ، وحمايتهم حمى التوحيد، وحذرهم من استمرار وثنية الأضرحة والمقامات والمزارات والمشاهد التي تعج بها بلاد المسلمين منذ عهد الدولة الفاطمية قبل ألف سنة)؛ لا أشك أن هذه ونحوها أهم أسباب تركيزهم على هذه المسألة (وإن تسلل بين الأسباب شيء من العناد الجدلي لا يسهل الاحتراز منه بين العلماء الأعلام فكيف بطلاب العلم عفا الله عنِّي وعنهم). ولكني أرى أنهم تجاوزوا بها حدودها من الاهتمام والنشر حتى طغت على ما هو أهم منها أو مثلها أو أدنى منها، فأفرط بعضهم في استغلال وسائل النشر القديمة والحديثة لتقريرها ومجادلة مخالفيها، بل وقع بهم ـ كما نقل الثقة ـ فيما هو أسوأ باستغلالهم خطبة الجمعة التي شرعها الله لتعليم المسلمين الأحكام الشرعية المتفق عليها (وأكثرهم الجاهلون بدينهم مهما حملوا من ألقاب الدراسة الغربية في الفنون والمهن الدنيوية). ولأنَّ (وراء كل إسراف حق مضيَّع) فقد فرط أكثر إخواننا (فضلًا عمن هم دونهم وهم الأكثرون) في بيان أهم مسائل العلم الشرعي التي كان يدعو إليها (صدعًا بها لا دندنة) ويخطب بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ومتبعوهم بإحسان قبل ظهور قرن الفكر الموصوف زورًا بالإسلامي واحتلاله عرش الفقه في الدين من أهله، وليس من بينها مسألة العذر أو نفي العذر بالجهل.
ومع أني أختار العذر بالجهل (لعلَّ الله أن يعذرني بجهلي ويغفر لي إسرافي في أمري ويثبتني على شرعه)؛ فمن العدل بيان أهم ما عرفته من أدلة المتنازعين في هذا الشيء استجابة لأمر الله تعالى عباده المؤمنين: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}[النساء: 59] راجيًا من الله أن يسع المتنازعين اليوم ما وسع قدوتهم المتنازعين منذ القرون المفضلة رضي الله عنهم جميعًا. وللراغبين في معرفة تفاصيل لا يسعها حيز هذا المقال النظر في كتاب (شرح كشف الشبهات) للشيخ: محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله تعالى، إعداد الشيخ: فهد السليمان، دار الثريا للنشر بالرياض ـ ط 4/1426، ص 46 إلى 62، وكتاب شرح نواقض الإسلام للشيخ عبد العزيز الريس طبع دار الإمام مالك، أبو ظبي، ونشر دار البينة، حي السويدي، أمام المعهد العلمي بالرياض (ط 1) 1427 هـ ص 36 إلى 95.
أ وأهم أدلة من يختار العذر بالجهل (في رأيي):
1) أن الله تعالى بفضله ورحمته وعدله قد جعل الحكم بالكفر والضلال والعذاب منوطًا بتحقيق البيان في آيات كثيرة مثل قوله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165]، قال ابن تيمية رحمه الله عند استدلاله بهذه الآية على تقرير العذر بالجهل: (فلا يحكم بكفر أحدٍ [لجهل يعذر به] حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة) مجموع الفتاوى 11/406. وقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]،وقوله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]،وقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} [محمد: 25].
2) ما ورد في الصحيحين عن رجل قال لبنيه (إذا أنا متُّ فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في اليم، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا) ففعلوا به ذلك، فقال الله له: “ما حملك على ما فعلت”؟ قال: (خشيتك)، فغفر له.
قال ابن تيمية رحمه الله: (فهذا رجل شك في قدرة الله [على] إعادته، بل اعتقد أنه لا يُعاد؛ وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكنه كان جاهلًا لا يعلم ذلك وكان مؤمنًا يخاف الله أن يعاقبه فغفر له)، مجموع الفتاوى 3/231.
3) حديث ذات أنواط، ويتبين منه أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ مع بعض أصحابه على شجرة للمشركين من جملة أوثانهم فقالوا: (اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “سبحان الله! هذا كما قال قوم موسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ}، والذي نفسي بيده لتركبن سَنَنَ من كان قبلكم”(الصحيحة: 3601). فهؤلاء قد طلبوا بلسان حالهم من النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ لهم وثنًا مثل وثن المشركين، فبيَّن لهم ما جهلوا ولم يحكم عليهم بالردة ولم يطالبهم بما يطالب به من أسلم بعد الكفر.
ب وأهم أدلة من يختار نفي العذر بالجهل:
1) قول الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 172 ـ 173]. وقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان: “يقول الله تعالى لأهون أهل النار عذابًا يوم القيامة: لو أن لك ما في الأرض من شيء أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم، فيقول: أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم: أن لا تشرك بي شيئًا فأبيت إلا أن تشرك بي”.2)
قول الله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}[الأنعام: 19]، وقوله تعالى عن الكافرين في نار جهنم: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10]. قالوا فالحجة قائمة بمجرد البلاغ والإنذار، وقد شهد أهل النار على أنفسهم بأنهم ما كانوا يسمعون ولا كانوا يعقلون؛ ومع ذلك جعل الله عاقبتهم النار خالدين فيها وبئس المصير. 3) قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان: “إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب”. قالوا: فهذا لم يتبين ما في كلمته من الضلال، ولم يعذره الله بجهله بل جعل مصيره النار وبئس القرار.
ولكل من المتنازعين رد على أدلة الآخر يمكن لطالب العلم معرفتها من مظانِّها، ومنها ما سبق ذكره ص 2 من هذا المقال.
جـ ماذا يقول الأئمة الأعلام في هذه المسألة الخطيرة:
1) لعل أفقه من أفتى فيها بعد القرون المفضلة وأبلغهم لفظًا وأقواهم حجة مجدد القرن الثامن شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية (ت 728) أسكنه الله الفردوس من الجنة.
قال رحمه الله: (إني من أعظم الناس نهيًا عن أن ينسب معين إلى تكفير، وتفسيق، ومعصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافرًا تارة، وفاسقًا أخرى، وعاصيًا أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية) مجموع الفتاوى 3/229.
وقال رحمه الله: (ما نقل عن السلف [ومن اتبع سبيلهم] من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا، فهو أيضًا حق، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين) مجموع الفتاوى 3/230.
وقال رحمه الله: (فإنه وإن كان القول تكذيبًا لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن الرجل [القائل] قد يكون حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده [من الدين] حتى تقوم عليه الحجة. وقد يكون الرجل [القائل أو الجاحد] لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئًا) مجموع الفتاوى 3/231.
2) وقال مجدد القرن الثاني عشر الشيخ محمد بن عبد الوهاب جزاه الله عنا وعن الإسلام والمسلمين خير ما يجزي به مجددي دينه والدعاة إليه على منهاج النبوة، وهو رحمه الله ممن تتلمذ على فقه ابن تيمية في الاعتقاد وممن اتُّهم مثله بالتكفير جزافًا ما نقل عنه الشيخ ابن عثيمين رحمه الله (في معرض تأييده العذر بالجهل) أنه سُئل رحمه الله عما يقاتل عليه وعما يكفر الرجل به فأجاب: (أركان الإسلام الخمسة، أولها: الشهادتان، ثم الأركان الأربعة. فالأربعة إذا أقر بها وتركها تهاونًا فنحن وإن قاتلناه على فعلها فلا نكفره بتركها، والعلماء اختلفوا في كفر التارك لها كسلًا من غير جحود ولا نكفر إلا ما أجمع عليه العلماء كلهم وهو الشهادتان) وبعد شيء من التفصيل قال رحمه الله في دفع اتهامه بالتكفير الظالم: (وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على عبد القادر والصنم الذي على قبر أحمد البدوي وأمثالهما لأجل جهلهم وعدم من ينبِّههم فكيف نكفِّر من لم يشرك بالله… {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} شرح كشف الشبهات ص 47 إلى 50.
ونقل عنه الشيخ عبد العزيز الريس (من الدرر السنية 1/56) في معرض تأييده العذر بالجهل قول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: (وأما التكفير فأنا أكفر من عرف دين الرسول ثم بعد ما عرفه سبَّه ونهى الناس عنه، وعادى من فعله، فهذا هو الذي أكفر). شرح نواقض الإسلام ص 57.
3) ولعل أبرز القائلين بالعذر بالجهل من متأخري علمائنا الأعلام الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله فقد خصَّص أكثر من (15) صفحة من كتابه شرح كشف الشبهات (ص 46 إلى 62) لتفصيل فتواه في هذا الأمر العظيم.
قال رحمه الله: (الاختلاف في مسألة العذر بالجهل كغيره من الاختلافات الفقهية الاجتهادية، وربما يكون اختلافًا لفظيًا في بعض الأحيان من أجل تطبيق الحكم على الشخص المعيَّن، أي: أن الجميع يتفقون على أن هذا القول كفر، أو هذا الفعل كفر، أو هذا الترك كفر، ولكن هل يصدق الحكم على هذا الشخص المعين لقيام المقتضى في حقه وانتفاء المانع أو لا ينطبق لفوات بعض المقتضيات أو وجود بعض الموانع) ص 50. وختم فتواه بقوله رحمه الله: (والحاصل أن الجاهل معذور بما يقوله أو يفعله مما يكون كفرًا كما يكون معذورًا بما يقوله أو يفعله مما يكون فسقًا وذلك بالأدلة من الكتاب والسنة والاعتبار وأقوال أهل العلم) ص 62.
ولا غرابة في الاختلاف بل في المبالغة فيه والتنابز بالألقاب، والله الموفق.