لا تبالغ في تعلم اللغة ولا تبالغ في إهمالها وجهلها


(لا تبالغ في تعلم اللغة ولا تبالغ في إهمالها وجهلها)

بسم الله الرحمن الرحيم

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:

فقد أُجري لقاءٌ مع بعض السَراة -وفقه الله- فذكر كلامًا فيه مبالغة في الاعتناء بلغة العرب (وفي اللقاء ما لا يصح بحال بل خطير جدًا وهو تعظيم الفلسفة، ولعل مناقشته تفرد بمقال)، وهذا المشار إليه يقتدي به أقوام ويغتر آخرون، فكتبتُ هذا لئلا تنزلق أقدام بعض طلاب العلم فيبالغوا في تعلم لغة العرب، وكتبته للتأكيد أن دراسة لغة العرب لطلاب علم الشريعة من باب الوسائل، وسطرته لئلا يُستفاد من هذا اللقاء -سواء قصده من أُجري معه اللقاء أو لم يقصده- المبالغة في لغة العرب،

إن لغة العرب لغةُ القرآن، قال سبحانه: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ [الشعراء: 195] وهي اللغة التي يتكلم بها خاتم الأنبياء والمرسلين وأفضلهم محمد ﷺ، وكفى بهذا كله فضلًا ومكانةً وأهميةً لهذه اللغة، وقد تكلم على أهمية لغة العرب شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع منها ما في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم) وبيّن أن لغة العرب سببٌ لتقوية العقل والدين ومتابعة الأولين قال -رحمه الله-: “ واعلم أن اعتياد اللغة يؤثر في ‌العقل، والخلق، والدين تأثيرًا قويًا بينًا، ويؤثر أيضًا في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتهم تزيد ‌العقل والدين والخلق [1].

ومن الخطأ عدم معرفتها وإتقانها ودراستها إعرابًا ونحوًا وصرفًا، فإن معرفتها وإتقانها من المهم للغاية، وتختلف أهمية هذه الدراسة، ويختلف الجهد في تحصيلها باختلاف الناس، فيحتاج الأعجمي إلى دراسةٍ أكثر ومعرفةٍ أعمق ليُمكن فهمه لهذه اللغة وليتحدث بها، وهو -في الجملة-يحتاج في الصرف ما لا يحتاجه العربي، إلى غير ذلك.

ومن الخطأ أن بعض العجم يحسن الإعراب والكتابة لكنه لا يحسن التخاطب؛ وذلك لأنه لم يعتد التخاطب بها، فمن المهم أن يُحسن -مع ما تقدم ذكره- التخاطب بها، وكذلك العربي الذي نشأ في بيئة تتحدث بلغة العرب -كما هو أكثر العرب- فمن المهم أن يتعلموا لغة العرب إعرابًا ونحوًا وما يحتاجون إليه من الصرف وغير ذلك.

وليستحضر كل متعلم للشرع أن لغة العرب تُدرس؛ لأنها وسيلة لفهم الكتاب والسنة، ومن بالغ في ذلك فقد بالغ في الوسيلة، وبقدر ما بالغ في الوسيلة يفوِّت من الغاية، وقد أنكر الإمام أحمد على أبي عبيد القاسم بن سلام توسعه في لغة العرب، قال الحافظ ابن رجب في كتابه (فضل علم السلف على الخلف): ” وكذلك ‌التوسع ‌في ‌علم العربية لغة ونحوًا هو مما يشغل عن العلم الأهم والوقوف معه يحرم علمًا نافعًا. وقد كره القاسم بن مخيمرة علم النحو وقال:” أوله شغل وآخره بغي“. وأراد به التوسع فيه ولذلك كره أحمد التوسع في معرفة اللغة وغريبها وأنكر على أبي عبيدة توسعه في ذلك وقال:” هو يشغل عما هو أهم منه“. ولهذا يقال: ” العربية في الكلام كالملح في الطعام” يعني أنه يؤخذ منها ما يصلح الكلام وما زاد على ذلك فهو يفسد [2].

وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن أهل العلم الشرعي لا يحتاجون إلى اللغة إلا يسيرًا، وأنهم مستغنون بلغة الكتاب والسنة عن لغة العرب فقال في كتابه (بيان تلبيس الجهمية): ” أن أهل العلم ‌بالكتاب ‌والحديث قد نقلوا لغة الرسول ﷺ التي خاطبنا بها ولم يحتج مع ذلك إلى نقل لغة أحد غير الرسول ﷺ ولهذا لا يحتاج علماء الدين إلى أهل اللغة في فهم القرآن والحديث إلا في مواضع يسيرة يحتاج بعضهم إليها كألفاظ غريب القرآن والحديث والفقه ومعانيها فلا يحتاجون في ذلك إلى نقل أهل اللغة وإن احتاج إلى ذلك بعضهم أو ذكر ذلك على سبيل الاستشهاد والاعتبار كما يقوى الدليل بالدليل فكل ما احتاج المسلمون إلى نقله من لغة القرآن فهم يتبعون عندهم نقلًا معلومًا مقطوعًا به إلا مواضع قليلة خفيت على بعضهم فصارت عنده مظنونة أو مجهولة[3].

وقال ابن تيمية في (شرح العمدة – قسم الصلاة): ” فإن قيل: فقد قال أبو عبيد: اشتمال الصمَّاء عند العرب: أن يشتمل الرجلُ بثوب يجلِّل به جسدَه كلَّه، ولا يرفع منه جانبًا تخرج فيه يده. كأنه يذهب به إلى أنه لعلَّه يصيبه شيء يريد الاحتراس منه، ولا يقدر عليه.

وتفسير الفقهاء: أن يشتمل بثوب واحد، ليس عليه غيره، ثم يرفعه من أحد جانبيه، فيضعه على منكبه، فيبدو منه فرجه. قال: والفقهاء أعلم بالتأويل[4].

وقال ابن رجب: ” ‌وهذا ‌الذي ‌قاله ‌أبو ‌عبيد في تقديم تفسير الفقهاء على تفسير أهل اللغة حسن جدا؛ فإن النَّبِيّ ﷺ قَدْ يتكلم بكلام من كلام العرب يستعمله فِي معنى هُوَ أخص من استعمال العرب، أو أعم مِنْهُ، ويتلقى ذَلِكَ عَنْهُ حملة شريعته من الصَّحَابَة، ثُمَّ يتلقاه عنهم التابعون، ويتلقاه عنهم أئمة العلماء، فلا يجوز تفسير ما ورد في الحديث المرفوع إلا بما قاله هؤلاء أئمة العلماء الذين تلقوا العلم عمن قبلهم، ولا يجوز الإعراض عن ذلك والاعتماد على تفسير من يفسر ذلك اللفظ بمجرد ما يفهمه من لغة العرب؛ وهذا أمر مهم جدا، ومن أهمله وقع في تحريف كثير من نصوص السنة، وحملها على غير محاملها. والله الموفق [5].

وبيّن ابن تيمية -رحمه الله- أن المبتدعة اعتمدوا على اللغة في تفسير الكتاب والسنة دون الأحاديث وآثار السلف فقال: ” ولهذا تجد المعتزلة والمرجئة والرافضة وغيرهم من أهل البدع ‌يفسرون ‌القرآن ‌برأيهم ومعقولهم وما تأولوه من اللغة؛ ولهذا تجدهم لا يعتمدون على أحاديث النبي ﷺ والصحابة والتابعين وأئمة المسلمين؛ فلا يعتمدون لا على السنة ولا على إجماع السلف وآثارهم؛ وإنما يعتمدون على العقل واللغة وتجدهم لا يعتمدون على كتب التفسير المأثورة والحديث؛ وآثار السلف وإنما يعتمدون على كتب الأدب وكتب الكلام التي وضعتها رءوسهم وهذه طريقة الملاحدة أيضا؛ إنما يأخذون ما في كتب الفلسفة وكتب الأدب واللغة وأما كتب القرآن والحديث والآثار؛ فلا يلتفتون إليها، هؤلاء يعرضون عن نصوص الأنبياء إذ هي عندهم لا تفيد العلم وأولئك يتأولون القرآن برأيهم وفهمهم بلا آثار عن النبي ﷺ وأصحابه[6].

وليُعلم أنه بقدر المبالغة في لغة العرب يُفوَّت في المقابل إدراك المقصود والغاية وهو فهم الكتاب والسنة، وفي مقدم ذلك فهم التوحيد وتفاصيله، وفهم شبهات المعارضين وكشفها، وفهم باب الاعتقاد وشبهات المخالفين فيه وكشفها، وفهم الفقه العملي في أبواب الدين، وفهم أصول الفقه العملي لا الكلامي ولا النظري، وغير ذلك مما هو غاية أو وسيلة إلى ضبط الشريعة، وحصول الضعف في الشرع بسبب المبالغة في اللغة ملحوظ في كثيرين، وإن كانوا يخادعون العامة بل بعض طلاب العلم بزخرف القول وجميله، وصدق رسول الله ﷺ لما قال: «إن من البيان لسحرًا» أخرجه البخاري عن ابن عمر ومسلم عن عمار.

وأؤكد أنه ينبغي على طالب العلم الشرعي أن يكون وسطًا في تعلم اللغة على ما تقدم بيانه وإيضاحه.

مهلكة: إن من المهالك والمزالق أن يحدث أقوام شيئًا جديدًا أو يتبنونه ويتزينون به فلا يعدون الدارس للعلم الشرعي متميزًا محققًا حتى يتقنه، كما أحدث المتكلمون في المسلمين علم الكلام ونبزوا كل من لم يكن عالمًا به، وأحدثوا في المسلمين علم المنطق اليوناني ونبزوا كل من لم يكن عالمًا به،  وكما بالغ المبتدعة في اللغة -على ما تقدم توضيحه من كلام ابن تيمية- فنبزوا كل من لم يكن على ما يريدون في اللغة، وهذا مكر كبار من الشيطان وحزبه هلك بسببه طائفة من أهل العلم أو تأخروا عن المراتب الأعلى في العلم الحقيقي الموروث.

فاحذر – طالب العلم – الانهزام أمام دعاويهم وكن كما قال الله ﴿فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ﴾ [الزخرف: 43].

واقطع الطريق من أوله ولا ترض بأن يكون دليل التحقيق المعيارَ المخترعَ الذي زعموه، بل قابل ذلك بالعزة الدينية والقناعة الأثرية ورده كما فعل السلف مع علم الكلام لما أراد المعتزلة الانتفاخ به والتحاكم إليه، فرده السلف ولم يكتفوا بذلك، بل جعلوا الاشتغال به عيبًا ونقصًا، وهذه -وايم الله- هي العزة الدينية، وصدق الله القائل: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون: 8].

أسأل الله أن يهدينا إلى الصراط المستقيم، وأن يُعيذنا شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

د. عبدالعزيز بن ريس الريس

 

……………………….

[1] اقتضاء الصراط المستقيم (1 / 527).

[2] فضل علم السلف على الخلف ص65 دار القبس

[3] «بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية» (8/ 476)

[4] شرح عمدة الفقه لابن تيمية (2 / 358) دار عطاءات العلم.

[5] فتح الباري لابن رجب (2 / 399).

[6] «مجموع الفتاوى» (7/ 119)


شارك المحتوى:
0