ما الراجح في مكان وضع المصلي يدَه أثناء القيام في الصلاة قبل الركوع وبعده؟
يقال: أما قبل الركوع فالأدلة ظاهرة في أنه يقبض، ويدل لذلك حديث سهل عند البخاري، قال: ((كَانَ النَّاسُ يُؤْمَرُونَ أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ اليَدَ اليُمْنَى عَلَى ذِرَاعِهِ اليُسْرَى فِي الصَّلاَةِ))، وهذا مذهب جماهير أهل العلم، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد، وقولٌ عند المالكية.
ومكان القبض على أصح أقوال أهل العلم -والله أعلم- أنه إما أن يكون فوق السرة أو تحت السرة؛ لأن كليهما ثبت عن التابعين، فقد ثبت عن لَاحِقٍ بن حُمَيْدٍ أنه تحت السرة، وثبت عن سعيد بن جبير فيما رواه عبد الرزَّاق في أماليه أنه فوق السرة.
ولم أر شيئًا أرفع من هذا؛ لم أر شيئًا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن صحابته في مكان الوضع، وإنما العمدة على الآثار المروية عن التابعين، وهذه الآثار تدل على أن اليدين لا توضع على الصدر، ولم أر القول بموضع اليدين على الصدر معروفًا عند العلماء الأولين، بل رأيت الإمام أحمد رحمه الله تعالى يكره وضع اليدين على الصدر، ورأيته ثابتًا عن التابعين أنها إما أن توضع تحت السرة، أو فوق السرة على ما تقدم ذكره.
أما بعد الرفع من الركوع، فقد تنازع العلماء، هل تقبض اليدان أو لا تقبض؟
وفي المسألة قولان عند الحنابلة، وذهب الحنفية إلى أن اليدين تُسدَلانِ ولا تقبضان، وذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى إلى أن المصلي مخيرٌ في ذلك؛ إن شاء قبض وإن شاء أرسل، ذكر هذا عن الإمام أحمدَ ابنُ مفلح في كتابه “الفروع”.
فيتلخص من هذا أن الأقوال الثلاثة:
1- إما أن يقبض.
2- أو يرسل.
3- أو أن يكون مخيرًا، إن شاء قبض، وإن شاء أرسل.
ولعل أصح هذه الأقوال الثلاثة -والله أعلم- أنه مخير كما قال الإمام أحمد، وهو أرفع وأعلى ما رأيت في هذه المسألة، ويؤيد هذا أنه لم يأتِ دليلٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبض في هذا الموضع، ولم يأتِ دليلٌ في الإرسال، بل هذا الموضع لم ينقل، والمعتاد في صفة الصلاة أن ينقل كلُ شيءٍ فيها، لكنَّ هذا الموضع لم ينقل، فإذا كان كذلك، من أنه لم ينقل صار المصلي مخيرًا بين القبض والإرسال.
أما الاستدلال بحديث أبي حميد في البخاري، قال: ((ثم رفع حتى رجع كل عظم إلى فقاره))، فهذا محتمل لداخل الصلاة أو خارج الصلاة، فإذا كان محتملًا فلا يصح الاعتماد عليه، وإنما يكون الأمر واسعًا في هذا.
وعدم النقل في هذا الجزء يشبه تمامًا وضع اليدين في الجلوس بين السجدتين، هذا الموضع لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك، يقال: بأن اليدين على الفخذين أو الركبتين على الخلاف؛ لأن الأمَّة توارثت هذا، كما ذكر ذلك العيني في كتابه “البناية”، والبهوتي في “كشاف القناع”، وذكر غيرُهما من أهل العلم.
فالمقصود أنه قد يكون هناك في الصلاة أفعالٌ، لم تُنقَل الصفة، ومن ذلك: وضع اليدين بعد الرفع من الركوع، وأيضًا في الجلسة بين السجدتين، لكن في الجلسة بين السجدتين يكتفى بما توارثته الأمة، أما في مكان اليدين بعد الرفع من الركوع فإنه يقال: إن شاء قبض، وإن شاء أرسل، كما قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وعلى كلٍ الخلاف في المسألة واسع ولا يشدد؛ لأن البحث فيها بحث استحبابٍ وأفضليَّة.
أسال الله أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وجزاكم الله خيرًا.