يقول السائل: ما رأيك بمنهج التفريق بين المتقدمين والمتأخرين في الحديث؟
الجواب:
هذه مسألة عصرية كثُر الكلام عليها، وحصل فيها شقاق ومُشاقة ويُعرف الجواب فيها -والله أعلم- بمعرفة ما يلي:
الأمر الأول: أنه قد أُدخل في العلم الشرعي ما ليس منه، لذا تجد مسائل كثيرة أجمع عليها أهل العلم ثم وقع الخلاف بعد ذلك، وقد ذكر هذا ابن القيم -رحمه الله تعالى- كما في (مختصر الصواعق) وذكر أن على ذلك مائتي مثال، فهذا يؤكد أن العلم كلما تأخر أُدخل فيه ما ليس منه سواء كان في علم الحديث وعلم المصطلح أو علم أصول الفقه أو علم الفقه …إلخ، فهذا ليس خاصًا بعلم المصطلح والحديث بل هو في العلوم كلها، وهذا مصداق ما نُقل عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: “العلم نقطة كثّرها الجاهلون”.
فإذن وجود الدخيل في العلوم الشرعية ليس خاصًا بعلم الحديث بل هو في العلم كله، فكلما تأخر الزمان زادت الغربة وكثُر الجهل وأُدخل في العلم ما ليس منه، فإن الصحابة -رضي الله عنهم- في كثير من مسائل الدين على قول واحد وقلَّ أن يوجد عندهم قولان، لكنه كلما تأخر الزمان كثُر الخلاف، وكل قول جديد ليس عليه من سبق فهو قطعًا خطأ وهو دخيل، وهذا أمر دقيق لا يتفطن له كل أحد.
الأمر الثاني: إذا تبيَّن ما تقدم فإن من العلوم التي غُيّرت وأُدخل فيها ما ليس منها علم المصطلح، فقد أُدخل في علم مصطلح الحديث وفي الحديث كلام الفقهاء بل وكلام المتكلمين، وقد اعترف بهذا جمعٌ من أهل العلم، ومن أولئك العلامة ابن رجب -رحمه الله تعالى- في شرحه على (العلل)، ذكر أن الخطيب البغدادي تكلم على مسألة زيادة الثقة وأنه ذكر مباحث ليست من مباحث أهل هذا الشأن والفن بل هو من كلام المتكلمين، فتأمل كيف أن الخطيب البغدادي أدخل كلام المتكلمين في مبحث زيادة الثقة.
بل وذكر البقاعي أن ابن الصلاح لما تكلم على مسألة زيادة الثقة أدخل في هذه المسألة كلام الفقهاء، ومن المعلوم أن كلام الفقهاء والمتكلمين هو أجنبي في هذه المسائل، فليسوا أهل معرفة في هذه الدقائق والمسائل في علم الحديث، وهذا يؤكد ما تقدم ذكره.
الأمر الثالث: وجود الاختلاف كما تقدم موجود، وكثير من العلماء يتبنى أقوالًا ويجتهد في تبنيها ونصرتها وهي إما من قول المتكلمين أو الفقهاء وليست من قول أهل الحديث، لكن ليس من الصواب أن يُهدم علم المصطلح أو علم المتأخرين ممن كتبوا في المصطلح، فهذا خطأ كبير بل الواجب أن يُستفاد منه فإن فيه خيرًا كثيرًا وعلمًا نافعًا، وكثير منه منقول عن الأولين، فلذا لابد أن يُستفاد منه ويُدرس ويُعرف، فإذا وُجد خطأ أو تبيَّن لباحث أو ناظر أن هناك شيئًا أُدخل فيُنبه عليه، فالعلماء يُنكت بعضهم على بعض لا يهدم اللاحق ما فعل السابق فهذا خطأ، بل يُستفاد من جهود السابقين وإذا وُجدت ملاحظة أو خطأ يُنبه على ذلك والأمر في هذا سهل ولله الحمد.
الأمر الرابع: التعبير بالمتقدمين والمتأخرين قد لا يكون دقيقًا، وليس له ضابط زمني فاصل، لذلك الأحسن -والله أعلم- أن يُعبَّر بفرسان هذا الفن وأئمته، فيقال: قال فرسان أئمة هذا الفن. أو أجمع فرسان أئمة هذا الفن. والمراد بهم أئمتهم كشعبة وأحمد وعلي بن المديني، والبخاري، والرازيين، وابن معين، وأمثالهم.
أسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا، وجزاكم الله خيرًا.