ما يعين على التعبد والتنسك


الخطبة الأولى:

الحمدُ للهِ الذي مَنَّ علينَا بالهِدايَةِ، وجَنَّبَنَا بِفَضْلِهِ طُرُقَ الضَّلَالَةِ والغِوَايَةِ، أحمَدُهُ سُبحانَهُ عَلَى توفيقِهِ وهِدايَتِهِ.

وأشهدُ أنْ لَا إلهَ إِلَّا اللهُ وحدَهُ لَا شريكَ لَهُ، وأشهَدُ أنَّ سيدَنَا ونبيَّنَا محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا ‌قَوْلًا ‌سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70-71].

أمَّا بعدُ:

فإنَّ الأعمالَ الصالحةَ سببٌ لدخولِ الجِنانِ ورِضا الرحمنِ، قالَ سبحانهُ: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ ‌مِنْ ‌قُرَّةِ ‌أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة: 17] وقالَ: ﴿هَلْ ‌جَزَاءُ ‌الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾ [الرحمن: 60].

وإنَّ المُعوِّقاتِ عن الأعمالِ الصالحةِ كثيراتٌ، مِن نفسٍ أمَّارةٍ بالسوءِ، وهوًى مُتَّبَعٍ، وشيطانٍ رجيمٍ وقرينٍ لئيمٍ، وإنَّ مِمَّا يُعينُ على الأعمالِ الصالحةِ والتَّعبُّدِ والتنسُّكِ للهِ أمورًا، مِنها:

الأمرُ الأولُ: مُجاهدةُ النفسِ على مُلازَمَةِ الطَّاعاتِ والعباداتِ، كالصلواتِ الخمسِ في المساجدِ، وأداءِ السُّنَنِ الرَّواتِبِ، وقيامِ الليلِ ولو قليلًا مَعَ الوِترِ، وقِراءةِ القرآنِ يوميًّا، وأذكارِ الصباحِ والمساءِ والنومِ، والصدقةِ ولو قليلًا، وحضورِ درسٍ علميٍّ ولو مرةً في الأسبوعِ أو الأسبوعينِ، وكثرةِ الدُّعاءِ والابتِهالِ للهِ في أوقاتِ الإجابةِ، كبينِ الأذانِ والإقامةِ، وعندَ الأذانِ، وبعدَ الصلاةِ المفروضاتِ عَقِبَ الأذكارِ دونَ رفعِ اليدينِ، إلى غيرِ ذلكَ مِن الأعمالِ الصالحةِ.

روَى ابنُ أبي شيبةَ عن ابنِ مسعودٍ -رضي الله عنه- أنهُ قالَ: ” تَعَوَّدُوا الْخَيْرَ فَإِنَّمَا الْخَيْرُ فِي الْعَادَةِ “.

أيُّها المؤمنونَ، عَوِّدوا أنفُسَكم الطاعاتِ، عَوِّدوا أنفُسَكم مُلازَمَةَ الأعمالِ الصالحاتِ حتَّى تعتادَها وتألَفَها وتُحبَّها وتُذلَّلَ لها.

الأمرُ الثاني: المُسارَعةُ والمُسابَقَةُ في فعلِ الطاعاتِ والأعمالِ الصالحاتِ قبلَ هجومِ الصَّوَارِفِ وضَعْفِ العَزَائِمِ، قالَ تعالى: ﴿‌وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [آل عمران: 133] وقالَ تعالى: ﴿‌سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [الحديد: 21] ورَوَى مسلمٌ عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجِزْ».

إيَّاكَ ثُمَّ إيَّاكَ والتَّسويفَ والتَّأجيلَ، بَلْ البِدارَ البِدارَ، رَوى مسلمٌ عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ».

قالَ الإمامُ سفيانُ الثورِيُّ: ” وَإِذَا هَمَمْتَ بِأمْرٍ مِنْ أُمُورِ الآخِرَةِ فَشَمِّرْ إِلَيْهَا وَأَسْرِعْ مِن قَبْلِ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهَا وَبَيْنَكَ الشَّيْطَانُ “.

وقالَ الإمامُ أحمدُ -رحمه الله تعالى-: ” كُلُّ شيءٍ مِن الخيرِ تَهِمُّ بِهِ، فَبَادِرْ بِهِ قبلَ أنْ يُحَالَ بينَكَ وبينَهُ “.

الأمرُ الثالثُ: عدمُ التَّساهُلِ في تركِ الأعمالِ الصالحةِ ولو صَغُرَتْ، عَوِّد نفسَكَ ألَّا تتساهَلَ في طاعةٍ تعلمَّتها، ولا في مُستحبٍّ وسُنَّةٍ دَرَسْتَهَا، فإنَّكَ لا تدري أيَّ حسَنَةٍ تُدخِلُكَ الجنَّةَ، رَوَى الإمامُ البخاريُّ ومسلمٌ عن أبي ذَرٍّ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ».

قالَ الحافِظُ ابنُ حَجَرٍ: ” فَيَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ لَا يَزْهَدَ فِي قَلِيلٍ مِنَ الْخَيْرِ أَنْ يَأْتِيَهُ، وَلَا فِي قَلِيلٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَجْتَنِبَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْحَسَنَةَ الَّتِي يَرْحَمُهُ اللَّهُ بِهَا وَلَا السَّيِّئَةَ الَّتِي يَسْخَطُ عَلَيْهِ بِهَا “.

أيُّها المسلمونَ، إيَّاكُمْ والتَّسَاهُلَ في فعلِ المكروهاتِ بِحُجَّةِ أنَّها ليسَتْ مُحرَّمَاتٍ، وتركِ المُستحبَّاتِ بِحُجَّةِ أنَّها ليسَتْ واجِباتٍ، إنَّ هذهِ مِن خُطُواتِ الشيطانِ، فأولًا يُغْرِقَكَ في بحارِ المُباحِ، ثُمَّ يُجرِّئَكَ على سياجِ تركِ المستحبَّاتِ وفعلِ المكروهاتِ، ثُمَّ يُوقِعَكَ في المُحرَّماتِ المُهلِكاتِ وتَرْكِ الواجِباتِ.

اللهُمَّ أَعِنَّا على ذِكْرِكَ وشُكْرِكَ وحُسنِ عِبادَتِكَ، اللهُمَّ خُذْ بِنَوَاصِينَا لِلبِرِّ والتَّقَوَى، أقولُ مَا تَسمَعونَ وأستَغفِرُ اللهَ لِي وَلَكم إنهُ هو الغفورُ الرحيمُ.

 

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ وكَفَى، والصلاةُ والسلامُ على النبيِّ المُجْتَبَى، محمدِ بنِ عبدِ اللهِ ﷺ المصطفى، أمَّا بعدُ:

فإنَّ مِن الأمورِ المُعينةِ على الأعمالِ الصالِحاتِ والتَّنسُّكِ لِرَبِّ البَرِيَّاتِ:

الأمرُ الرابعُ: تَذَكُّرُ الموتِ، فإنَّ الموتَ خيرُ واعِظٍ، وأعظمُ زاجِرٍ، رَوَى الإمامُ مسلمٌ عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «فَزُورُوا الْقُبُورَ، فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ».

كيفَ لا يكونُ تذكُّرُ الموتِ أعظَمَ دافِعٍ للطَّاعاتِ والمُسابَقَةِ في الأعمالِ الصالِحاتِ وهيَ النِّهايَةُ المَحتُومَةُ المكتوبَةُ لِكُلِّ حَيٍّ، وبِهِ تَنتَهي فُرصَةُ التَّزَوُّدِ ليومِ المَعَادِ؟

يا عبدَ اللهِ، كُلَّمَا كَسِلْتَ وعَن الطَّاعَةِ فَتَرْتَ فتذكَّرْ بأنَّكَ مَيِّتٌ، وكُلَّمَا دَعَتْكَ نَفسُكَ أو وَسْوَسَ لكَ شيطانُكَ بِتركِ العِباداتِ فتذكَّرْ بأنَّكَ ميِّتٌ، وكُلَّمَا تلذَّذْتَ بِمُجالَسَةِ أصحابِ السُّوءِ الذينَ يُضعِفُونَكَ عَن الطَّاعاتِ فتذكَّرْ بأنَّكَ مَيِّتٌ، إنَّهُ لَا وقتَ للموتِ، فهوَ يَفجَعُ الشابَّ، ويأخُذُ الكبيرَ، وينتَزِعُ الصغيرَ، فَلَا عُمُرَ لَهُ.

يا عبدَ اللهِ، كُنْ مِن الفائِزينَ الفوزَ الأكبَرَ، قالَ تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ ‌فِي ‌جَنَّاتٍ ‌وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ [القمر: 54-55] وقالَ سبحانَهُ: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ ‌فِي ‌مَقَامٍ ‌أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ * لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [الدخان: 51-57].

اللهُمَّ اجْعَلْنَا مِن المُتَّقينِ، وللجِنَانِ مِن الفائِزينَ، وعن النارِ مِن المُبْعَدينَ، اللهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ فازَ الفوزَ الأكبرَ …

نسخة للطباعة
تنزيل الكتاب
نسخة للجوال
تنزيل الكتاب

خطبة ما يعين على التعبد والتنسك - د. عبدالعزيز بن ريس الريس


شارك المحتوى:
1