الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله الطاهرين ورضي الله عن صحابته أجمعين.
أما بعد
حار العلماء والدارسون في أمر كتب أبي حامد الغزالي رحمه الله، فهو يحلُّ في كتاب ما ربطهُ في كتاب آخر، وينقض في كتاب ما عقدهُ، وشدّ إحكامه في كتاب آخر.
بل قد ضلل الفلاسفة والباطنية والمتكلمين بأمور، عاد ليقول بها.
مما جعل طائفة من العلماء يصفونه بالتناقض، وذلك لقوله بمقالات، واعتقادهِ بمعتقدات، كان هو من أشدّ الساعين لنقضها، وبيان تهافتها.
ومن العلماء من جعل ذلك دليلا على تغيُّر أفكاره وتطوّرها مع تقدّمهِ في العمر، وتوسّعهِ في العلم، وعزَو ذلك لجودة ذهنه، وشدّة ذكائه، وتوقّد قريحته.
ومنهم من يرى أن الغزالي لم يكن متناقضا في نفسه، بل تعمّد أن يكتب كتبهُ لكل الطوائف ولكل الناس على اختلاف مشاربهم ومناهجهم، وكلّ يأخذ منها ما يصلح له، بقدر استعداده، وقُدرته على الفهم.
يقول د. سليمان دنيا رحمه الله أستاذ الفلسفة والدراسات الإسلامية في كتابه الحقيقة عند الغزالي:
( وقد اعتذر عن هذا الفعل في آخر كتاب ميزان العمل حيث وصف أن الآراء ثلاثة أقسام:
1/ رأي يشارك فيه الجمهور فيما هم عليه.
2/ ورأي يكون بحسب ما يخاطب به كل سائل ومسترشد.
3/ ورأي يكون بين الإنسان وبين نفسه، لا يطلع عليه إلا من هو شريكه في اعتقاده …
لذلك ذكر في كتاب الجوهر أن له كتبا مضنونا بها على غير أهلها، وأنه ضمّنها صريح الحق ).
وحاصل كلامه، أنّ للغزالي ثلاثة مذاهب، مذهب للعامة، يقررهُ لهم ويثبّتهُ في قلوبهم، ويدفع عنهم الشبهات، التي قد تتسبب في شكهم وزيغهم.
ومذهب للسائل المسترشد القادر على النظر والتحصيل، فهو يقرر له الحقائق بما يناسبه وبما يستطيع إدراكه، مما لا يوقعه في شبهة لا يستطيع دحضها أو فلسفة تترتب عليها حيرتهُ وضلاله.
ومذهب للغزالي في خاصة نفسه، لا يُذيعهُ إلا لمن كان شريكا له في اعتقاده، حصّلهُ بطريق الكشف والغنوص والعلم اللدني، وذلك بتجرد النفس عن مطالب واحتياجات الجسد، وبصقلها وتجليتها حتى تُنقش فيها العلوم والمعارف والحقائق.
وقد نقل شيخ الإسلام رحمه الله عن الغزالي أنه مات وصحيح البخاري على صدره، فلعلّهُ وجد برد اليقين، وطمأنينة النفس في الاشتغال بالوحيين، ليخرج من شكّهِ وتحيُّره ورحلته الطويلة المُضنية في سبيل البحث عن الحقيقة.
كتبه محمد بن علي الجوني