بسم الله الرحمن الرحيم
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فهذه مسألة مُستلَّة من شرح كتاب الصيام من (الروض المربع) المسمى: (الزاد المشبع في شرح الروض المربع)، وأفردتها للحاجة والأهمية:
قال المصنف: ((وَإِنْ أَفْطَرَتْ حَامِلٌ، أَوْ) أفطرت (مُرْضِعٌ خَوْفاً عَلَى أَنْفُسِهِمَا فقط، أو مع الولدِ؛ (قَضَتَاهُ)، أي: قضتا الصومِ (فَقَطْ) مِنْ غيرِ فديةٍ؛ لأنهما بمنزلةِ المريضِ الخائفِ على نفسِه).
يفرق الحنابلة بين من تخاف على نفسها أو ولدها، فعاملوا من خافت على نفسها معاملة المريض، والمريض يجب عليه القضاء فحسب، وعاملوا من خافت على ولدها بخلاف ذلك.
والصواب في هذه المسألة -والله أعلم- أن الحامل والمرضع سواء خافت على نفسها أو ولدها يصح لها الفطر ولا يجب عليها القضاء وإنما الإطعام، وقد ثبت هذا عن اثنين من صحابة رسول الله ﷺ، ثبت عن ابن عمر عند الطبري [1] والدارقطني [2] وغيرهما، وثبت عن ابن عباس عند الدارقطني [3]، وصحح هذه الآثار العلامة الألباني [4]، وقد جاءت من طرق لكن هذا الصواب فيها، وأن الأسانيد عن هذين الصحابيين أنهما يفطران ولا يقضيان وعليهما الكفارة.
وقد ذهب إلى هذا القول القاسم بن محمد [5] -وهو من التابعين- وسعيد بن جبير [6] -وهو من التابعين- ورجَّح هذا القول بعدُ إسحاقُ بن راهويه [7]، وذكر هذه المسألة خلافيةً وقول إسحاق الترمذيُّ في جامعه [8].
وقد جاء عن الإمام أحمد -رحمه الله- أنه ذكر عن أبي هريرة خلاف ذلك [9]، لكن لم أقف على هذا الأثر، ولمّا ذكر ابن تيمية في (شرح العمدة) المسألة -وهو واسع في ذكر الآثار- لم يذكر هذا الأثر، فلعل الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- يريد تأصيل أبي هريرة، وهو قوله أن الفطر مما دخل لا مما خرج، ولم أر أحدًا ذكره بإسناد صحيح، فنبقى على ما علمناه وهو ثبوته عن هذين الصحابيين، ولم يُضعّف أحمد الأثر عن هذين الصحابيين بل أقر بصحتهما، وإنما ذكر أن أبا هريرة مخالف لهما، أما إسحاق بن راهويه فقد ذهب إلى هذين الأثرين دون أثر أبي هريرة.
وقد ذكر بعض أهل العلم الإجماع على خلاف ذلك، وهذا الإجماع لا يعتدُّ به؛ وذلك أن هذين الصحابيين قد خَالفا، ثم قد خالف من بعدهما من التابعين، ثم قد خالف إسحاق بن راهويه، ثم أقر بالخلاف الإمام الترمذي، ولو قدر أن هذا الإجماع حجة فإن الإجماعات تسقط بإثبات خرمها، وهؤلاء مخالفون ولاسيما هو قول اثنين من الصحابة ولا يعرف لهما مخالف.
إلا أن صورة المسألة -كما أشار لذلك الترمذي- أن الحامل والمرضع إذا خافت على نفسها أو ولدها فهي مخيرة بين أن تصوم أو ألا تصوم وتُطعم عن كل يوم مسكينًا، فلو قالت الحامل والمرضع: أنا لا أستطيع الإطعام وأستطيع الصوم، فإن لها أن تصوم، ولو قالت: أستطيع الإطعام لكن أريد الصوم، فلها ذلك؛ لأن هذا هو الأصل، وبدل هذا الأصل أن تفطر وتُطعم، فهي مخيرة بين هذين الأمرين.
وقد أفاد الترمذي -رحمه الله تعالى- فيما نقله عن إسحاق وأقره أن المرأة التي أفطرت خوفًا على نفسها أو ولدها مخيرة بين أن تقضي هذا اليوم أو ألا تقضي وأن تطعم عن كل يوم مسكينًا، وهذا مقتضى قول الصحابة، فإن الصحابة ذكروا أن لها أن تطعم ولا تقضي، فهم ذكروا البدل ولم يمنعوا الأصل، كمثل المسافر ففي سفره له أن يصوم وله أن يفطر، لكن ذكرهم أن للمسافر أن يفطر ليس مانعًا من أنه يصوم من حيث الأصل.
قوله: ((وَإِنْ أَفْطَرَتْ حَامِلٌ، أَوْ) أفطرت (مُرْضِعٌ خَوْفاً عَلَى أَنْفُسِهِمَا فقط، أو مع الولدِ؛ (قَضَتَاهُ)، أي: قضتا الصومِ (فَقَطْ) مِنْ غيرِ فديةٍ؛ لأنهما بمنزلةِ المريضِ الخائفِ على نفسِه، (وَ) إن أفطرتَا خوفاً (عَلَى وَلَدَيْهِمَا) فقط؛ (قَضَتَا) عددَ الأيامِ، (وَأَطْعَمَتَا)، أي: ووجب على مَن يَمُونُ الولدَ أن يُطْعِمَ عنهما (لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِيناً)) فعامل المصنف من خافت على نفسها معاملة المريض وأنه يجب عليه القضاء فحسب، وعامل من خافت على ولدها من حامل أو مرضع بشيء زائد وهو أنه يجب عليها القضاء مع الإطعام.
وذكر أن الإطعام على من يمون على الولد وهو المسؤول عن نفقته، وهذا هو الصواب؛ لأن الفطر كان لأجل الولد، فعلى هذا نفقة الإطعام على من تجب عليه النفقة.
قوله: (وتُجزئُ هذه الكفارةُ إلى مسكينٍ واحدٍ جملةً) فإذا أفطرت عشرة أيام فيجزئ على الصحيح أن تعطي مسكينًا واحدًا كفارة عشرة أيام، والكفارة كما تقدم عن كل يوم مُد، فتعطي مسكينًا واحدًا عشرة أمداد، هذا ما قرره المصنف وهو الصواب، وهو قول الشافعية والحنابلة؛ لأن هناك فرقًا بين الأدلة التي جاءت في إطعام عشرة مساكين ككفارة اليمين، فلابد من عشرة مساكين، أما هذا الدليل فغاية ما في الآثار أنها تطعم مسكينًا ولم تفرِّق بين أن يُعطى الكفارة كلها لمسكين واحد أو أكثر من مسكين، أو تُفرَّق بين اثنين، المهم أن تُطعم مسكينًا بمقدار مدٍّ.
والكفارات مبنية على الفور، كما هو قول الحنابلة؛ وذلك أن الأمر والوجوب على الفور، وهو قول الجماهير.
قوله: (ومتى قَبِل رضيعٌ ثَدْيَ غيرِها وقَدِر أنْ يَستأجِرَ له؛ لم تُفطر، وظِئْرٌ كأمٍ) فلو أن هناك امرأة مستعدةً لإرضاع هذا الرضيع وقَبِلَ، لكنها تُرضع بمقابل، فذكر المصنف أنه يصح ولا تفطر الأم؛ لأن المانع قد زال، فالحامل أو المرضع هي تخاف على نفسها أو على ولدها، ومثل هذه لا تُرضع فلا مُوجب للخوف، فيرجع الحكم إلى الأصل وهو وجوب الصوم.
وقوله: (وظِئْرٌ كأمٍ) الظئر هي المُرضعة، وهي تُعامل معاملة الأم، إذا كانت المرضعة تخاف على نفسها أو على الرضيع فإنها تفطر وهي مخيرة بين قضاء الصوم أو الإطعام، والقول بأن المرضعة كالأم هو مقتضى القياس؛ لأن الحكم واحد، وهو قول الحنفية والحنابلة.
انتهى المقصود.
أسأل الله أن ينفع به وأن يتقبله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
د. عبد العزيز بن ريس الريس
المشرف على موقع الإسلام العتيق
……………………………………………………………..
[1] تفسير الطبري (3 / 170).
[2] سنن الدارقطني (3 / 198) رقم: (٢٣٨٥).
[3] المصدر السابق.
[4] إرواء الغليل (4 / 19).
[5] مصنف عبد الرزاق (4 / 512).
[6] المصدر السابق، والإشراف على مذاهب العلماء (3 / 151).
[7] سنن الترمذي (2 / 247).
[8] المصدر السابق.
[9] مسائل الإمام أحمد رواية ابنه أبي الفضل صالح (3 / 15).