مسائل مختصرة في الاعتكاف
المسألة الرابعة عشر: الاعتكاف
الاعتكاف لغة: هو الحبس، والمكث، واللزوم.
وشرعا: هو المكث في المسجد بنية من شخص مخصوص بصفة مخصوصة.
قاله النووي رحمه الله.
ويتعلق بالاعتكاف عدة مسائل:
الأولى: الاعتكاف سنة، وهو ثابت بدلالة الكتاب والسنة والإجماع
قال تعالى: ” ولا تباشرون وأنتم عاكفون في المساجد”
وثبت في الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصْغِي إِلَيَّ رَأْسَهُ وَهُوَ مُجَاوِرٌ في المسجد، فأرجله وأنا حائض. ومجاور: أي معتكف.
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثم اعتكف أزواجه من بعده. ونحوه عن ابن عمر في الصحيحين.
وقد أجمع عليه أهل العلم حكاه ابن المنذر، ونقله ابن قدامة وأقره، وابن عبد البر ، والنووي في المجموع وغيرُهم.
الثانية: لا يصح الاعتكاف إلا في المسجد وهذا بإجماع أهل العلم حكاه الخطابي، ولا تصح إلا في مسجد تقام فيه الجماعة على الصحيح، أي تصلى فيه الصلوات الخمس، ويدل لذلك ما ثبت في “مسائل عبد اللَّه” (733)، بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: لا اعتكاف إلا في مسجد تجمع فيه الصلوات.
ولا يلزم أن يكون في مسجد تقام في الجمعة، ويدل لذلك ما ثبت عند عبد الرزاق وابن أبي شيبة من طرق عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: «إِذَا اعْتَكَفَ الرَّجُلُ، فَلْيَشْهَدِ الْجُمُعَةَ، وَلْيَعُدِ الْمَرِيضَ، وَلْيَشْهَدِ الْجِنَازَةَ، وَلْيَأْتِ أَهْلَهُ وَلْيَأْمُرْهُمْ بِالْحَاجَةِ وَهُوَ قَائِمٌ».
وإن كان الأفضل أن يكون في مسجد تقام فيه الجمعة، حتى لا يضطر الخروج من معتكفه.
وشرط المسجد أن يكون موقوفا للصلاة فيه، وهذا عند المذاهب الأربعة.
الثالثة: يشترط للمعتكف أن يكون صائما على الصحيح، لما ثبت بإسناد صحيح عند عبد الرزاق عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَا: «لَا جِوَارَ إِلَّا بِصِيَامٍ»، والجوار هو الاعتكاف.
وثبت عنده عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «مَنِ اعْتَكَفَ فَعَلَيْهِ الصَّوْمُ»، وثبت عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: «سُنَّةُ مَنِ اعْتَكَفَ أَنْ يَصُومَ»
وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحمد في رواية، واختيار شيخ الاسلام ابن تيمية وابن القيم في تهذيب السنن، والهدي، وعزاه لجمهور السلف.
الرابعة: لا يصح اعتكاف المرأة إلا في المسجد، ولا يشترط مسجد تقام فيه الجماعة؛ لأنها ليست واجبة عليها. وهو قول الثلاثة خلافا لأبي حنيفة، لما رُوى عن قتادةُ، عن أبي حسَّان وجابر بن زيد: «أن ابن عباس سُئل عن امرأة جَعَلَت عليها أن تعتكف في مسجد نفسها في بيتها؟ فقال: بدعة، وأبغضُ الأعمال إلى الله تعالى البِدَع، لا اعتكاف إلا في مسجدٍ تُقام فيه الصلاة» رواه حرب الكرماني.
الخامسة: لا حد لأكثر الاعتكاف بالإجماع حكاه ابن حجر.
أما أقل الاعتكاف، فالصواب أنه لا حد لأقله وهو قول جمهور أهل العلم.
أما ما احتجوا به عن عمر أنه اعتكف ليلة، فهذه واقعة عين فلا تعمم، وأن أقله كله ما يطلق عليه لبث. كما هو قول الشافعي وأحمد واسحاق.
والمقصود من الاعتكاف أن تدخل المسجد لتعتكف، لا أن تدخل المسجد لسماع درس ثم تنوي الاعتكاف، فلابد أن يكون الاعتكاف هو الأصل ثم ما بعده تبع له.
السادسة: الأصل أن المعتكف لا يخرج من المسجد، ويجوز له الخروج في حالات:
1/ في حالة البول والغائط، ويدل لذلك ما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: وَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُدْخِلُ عَلَيَّ رَأْسَهُ، وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، فَأُرَجِّلُهُ، وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إلا لحاجة إذا كان معتكفا. زاد مسلم: ” إِلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ”.
وعند مسلم قالت عائشة: ” إِنْ كُنْتُ لَأَدْخُلُ الْبَيْتَ لِلْحَاجَةِ وَالْمَرِيضُ فِيهِ فَمَا أَسْأَلُ عَنْهُ إِلَّا وَأَنَا مَارَّةٌ”. وقد فسر الزهري وهو راوي الحديث أن الحاجة هي البول والغائط.
وهذا مجمع عليه، حكى الإجماع ابن المنذر، والترمذي، وابن حجر.
2/ جواز الخروج للضرورة، كالمرض، والاغتسال من الجنابة، الخ.
3/ واختلفوا فيما عدا ذلك أي من الحاجة وليس من الضرورة، كالجمعة، والجنازة والمريض، الخ، فذهب أحمد واسحاق إلى جواز الخروج للجُمُعة، أما الجنازة وعيادة المريض فلا يجوز حتى يشترط، والصواب جواز ذلك لما ثبت عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: «إِذَا اعْتَكَفَ الرَّجُلُ، فَلْيَشْهَدِ الْجُمُعَةَ، وَلْيَعُدِ الْمَرِيضَ، وَلْيَشْهَدِ الْجِنَازَةَ، وَلْيَأْتِ أَهْلَهُ وَلْيَأْمُرْهُمْ بِالْحَاجَةِ وَهُوَ قَائِمٌ». ولكن يفعل ذلك وهو قائم، فلا يجلس، وهو قول أحمد في رواية.
السابعة: ويشترط لصحة الاعتكاف ستة شروط وهي:
النية، والاسلام، والعقل والتمييز، وكونه بمسجد وتقدم الكلام عليه.
والسادس؛ الطهارة من الأشياء التي يجب الغُسلُ منها كالجنابة والحيض والنفاس؛ لأنه يحرم عليهم اللبث في المسجد.
فلا يصح من الجُنُب والحائض والنفساء، وهذا باتفاق المذاهب الأربعة.
الثامنة: مبطلات الاعتكاف
1/ الخروج من المسجد لغير حاجة، وهذا باتفاق المذاهب الأربعة.
ويجوز للمعتكف أن يشترط حضور الجنازة وعياض المريض وحضور الجمعة على الصحيح وهو قول الأربعة عدا مالكا، وأجازه بعض التابعين كالنخعي وقتادة وعطاء.
2/ الجماع، وهو مبطل للاعتكاف بالإجماع، حكاه ابن المنذر، وابن حزم، وابن عبد البر، وابن قدامة.
وهو الثابت عن ابن عباس عند ابن أبي شيبة وعبدالرزاق قال: إذا جامع المعتكف ، أبطل اعتكافَه واستأنف.
ويدل عليه: قوله تعالى: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾
3/ هو الإنزال مع المباشرة دون الفرج، وهو قول أئمة المذاهب الأربعة (عدا قول للشافعي)؛ لأن بالإنزال يتحقق ما يحققه الجماع من فتور الشهوة.
4/ السُّكر، واختلفوا على قولين، والصواب أنه مبطل، لانعدام النية.
5/ الردة، على الصحيح من قولي أهل العلم، لقوله تعالى: :{ لَئِنْ أَشْرَكْت لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُك }، وهو قول الحنابلة، وهو مقتضى قول مالك والشافعي وأبي حنيفة؛ لأنهم يبطلون اعتكاف مرتكب الكبيرة كما ذكره ابن عبد البر.
6/ نية الخروج من الاعتكاف، ولو لم يخرج؛ قياساً على قطع نية الصلاة والصيام، لأن الاعتكاف لزوم في المسجد بنية، وقد انعدمت النية.
التاسعة: متى يدخل المعتكف معتكفه في العشر الأواخر ومتى يخرج؟
الصواب أنه يدخل قبل غروب شمس ليلة إحدى وعشرين. وهو قول المذاهب الأربعة.
أما ما ثبت في «الصحيحين» عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: « كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى الْفَجْرَ، ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ، وَإِنَّهُ أَمَرَ بِخِبَائِهِ فَضُرِبَ، أَرَادَ الِاعْتِكَافَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ.
فالمراد به مكان خلوته. أي: الخِبَاء.
ويخرج المعتكف من اعتكافه عند غروب الشمس من آخر يوم من شهر رمضان، وهو قول أبي حنيفة والشافعي. ورجحه الشيخ ابن عثيمين.
العاشرة: مستحبات تتعلق بالاعتكاف
على المعتكف أن يشتغل بكل ما يقربه من الله تعالى، من صلاة وقراءة قرآن وذكر ونحوها، مما لا يتعدى نفعه، فإن كان مما يتعدى نفعه كتدريس العلم والقرآن فاختلفوا في ذلك.
ويتجنب فضول الكلام، والضحك، وكثرة النوم، وسائر المباحات التي تضيع على الإنسان وقته، والمستحب في حق المعتكف أن يحافظ على وقته، ويشغله بالطاعات؛ ويدل لذلك ما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كَانَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى الْفَجْرَ، ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ».
ولأن مقصود الاعتكاف هو صلاح القلب، والإقبال على طاعة الله عز وجل، وتجنب فضول المباحات.
فحال السلف في الاعتكاف، هو التقليل من الكلام والحرص على ختم القرآن أكثر من مرة، فبعضهم كان يختمه في كل ثلاثة أيام، وبعضهم يختمه في كل يوم مرة، وبعضهم كالشافعي كان يختم ختمة بالنهار، وختمة بالليل.
ثبت عند عبد الرزاق عَنِ الْأَسْوَدِ قَالَ: كَانَ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي لَيْلَتَيْنِ، وَيَنَامُ مَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي رَمَضَانَ. وزاد سعيد بن منصور: وَكَانَ يَخْتِمُ فِيمَا سوى ذلك في ستة.
وعند سعيد بن منصور عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ كَانَ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي رَمَضَانَ فِي ثَلَاثٍ، وَفِي غَيْرِ رَمَضَانَ مِنَ الْجُمُعَةِ إِلَى الجمعة.
وثبت عند ابن أبي شيبة عن علي الأزدي: كان يختم القرآن في رمضان كل ليلة، وكان ينام ما بين المغرب والعشاء.
ثبت عنده أيضا عن وقاء أن سعيد بن جبير كان ينام قبل أن يصلي العشاء ثم يقوم في رمضان.
وثبت عنده عن عمران بن حدير (ثقة ثقة) قال: كان أبو مجلز يقوم بالحي في رمضان يختم في كل سبع.
وعنده ايضا عن عبد الرحمن بن عراك بن مالك عن أبيه قال: أدركت الناس في شهر رمضان يربطون لهم الحبال يستمسكون بها من طول القيام.
ولعله يقصد نفسه فقد قال عنه عمر بن عبد العزيز : ما أعلم أحدا أكثر صلاة منه ، و قال أبو الغصن ثابت : كان يصوم الدهر ، وقال الذهبي: من العلماء العاملين.
وكتب/ أبو عبد الرحمن السالمي
محمد الزمامري