الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ الغنيِّ الحميدِ، يَخْلُقُ ما يشاءُ ويختارُ، وما كانَ لغيرهِ في الخَلْقِ مِنْ تَخيير، جعَلَ الناسَ بعضَهُمْ فوقَ بعضٍ درجاتٍ ليَبْلُوَهُم، فهذا غنيٌّ وهذا فقيرٌ، ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [الزخرف: 32].
وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدهُ ورسولهُ
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
، أمَّا بعدُ:
فما أسرعَ انقِضاءَ الأيامِ وذهابَهَا، فقد كُنَّا نتباشَرُ بقدومِ رمضانَ ثُمَّ بدخولهِ، والآنَ نحنُ في أواخرِهِ، فَلْنَعتَبِرْ بمُضيِّ الأيامِ وانصرامِ الزمان، ولْنعلَم أنَّ ذهابَ الأيامِ وانقِضاءَهَا مُقرِّبٌ للأجلِ والموتِ ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 281].
اللهُمَّ تقبَّلْ مِنَّا رمضان، واجعلنا مِمَّنْ صامَهُ وقامَهُ إيمانًا واحتسابًا فغفرْتَ لهُ ما تقدَّمَ مِنْ ذنبهِ.
إنَّهُ في أواخرِ رمضانَ وقبلَ العيدِ تُشرَعُ صدقةُ الفِطرِ، ويتعلَّقُ بِها مسائلُ وأحكامٌ، أذكرُ ما تيسَّرَ باختصارٍ:
المسألةُ الأولى: صدقةُ الفِطرِ واجبةٌ، لِما روى البخاريُّ ومسلمٌ عَنْ عبدِ اللهِ بنِ عمرَ -رضي الله عنهما- أنَّهُ قالَ: ” فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى العَبْدِ وَالحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاَةِ “.
وقَدْ أجمعَ العلماءُ على ذلكَ كما حكَى الإجماعَ إسحاقُ بنُ راهويه فهِيَ واجبةٌ على كُلِّ مسلمٍ، فتجِبُ على المسلم، وعلى مَنْ تحتهُ ممَّنْ تجبُ عليهِ نفقتهُمْ مِنْ أولادهِ وغيرِ ذلكَ.
ذكرَ ابنُ حجرٍ في (المطالبِ العاليةِ) بإسنادٍ صحيحٍ عَنْ أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ -رضي الله عنها- أنها كانَتْ تُخرِجُ صدقةَ الفِطرِ عنها وعمَّنْ تَمُونُ مِنْ غائبٍ وحاضرٍ.
ولا يجبُ عليهِ أنْ يستأذِنَ مَنْ تحتهُ مِمَّنْ تجبُ عليهِ النفقةُ مِنْ أولادهِ وغيرِ ذلكَ، بَلْ يُخرِجُهَا مُباشرةً، أمَّا إذا أرادَ أنْ يُخرِجَهَا عَمَّنْ لا تجبُ عليهِ نفقتهُم كالخادِمِ والسائقِ فإنَّهُ لا يُخرِجَهَا عنهُم إلا بعدَ أنْ يستأذِنَهُم، وكذلكَ إذا كانَ عندهُ أولادٌ كِبارٌ ولا تجبُ عليهِ نفقتهُم لأنِّهُم قدْ استقلُّوا بنفقَتِهِم، فمثلُ هؤلاءِ لا يُخرجُ عنهُم إلا بعدَ أنْ يستأذِنَهُم.
ومَنْ كانَ عندهُ ولدٌ مجنونٌ، أو أبٌ هَرِمٌ وخَرِفٌ، فإنَّهُ يجبُ أنْ تُخْرَجَ عنهُمْ صدقةُ الفطرِ.
وليُعلَمْ أنَّ صدقةَ الفِطرِ واجبةٌ حتَّى على الفقيرِ إذا كان يملِكُ يومَ العيدِ ما يَفضُلُ عَنْ قُوتِهِ وقُوتِ مَنْ تَحتهُ مِمَّن يُنفقُ عليهِمْ، فإنْ كانَ يملِكُ ما زادَ على ذلكَ فإنَّهُ يجبُ عليهِ أنْ يتصدَّقَ، كما ثبتَ عندَ عبدِ الرزاقِ عَنْ أبي هريرةَ -رضي الله عنه-.
المسألةُ الثانية: يُستَحَبُّ إخراجُ صدقَةِ الفِطرِ عَنِ الحَمْلِ، لِمَا ثبتَ عِندَ ابنِ أبي شيبةَ عَنْ أبي قِلَابةَ أنه قالَ: ” كَانُوا يُعْطُونَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ حَتَّى يُعْطُونَ عَنِ الْحَبَلِ “.
المسألةُ الثالثةُ: مِقدَارُ صدقةُ الفِطرِ صاعٌ، والصاعُ أربعةُ أمدادٍ، وحدَّدَهُ كثيرٌ مِنَ العلماءِ المُعاصرينَ بثلاثِة كيلوجراماتٍ، وهذا مِنْ بابِ الاحتياطِ، ويجوزُ أنْ يُزادَ في صدقةِ الفطرِ بنيَّةِ الصدقةِ.
المسألةُ الرابعةُ: تكونُ صدقةُ الفِطرِ مِنْ قوتِ البلدِ، وهذا يختلفُ مِنْ بلدٍ إلى بلدٍ ومِنْ زمانٍ إلى زمانٍ، والمعروفُ عِندنَا في بلدِنَا أنَّ القوتَ هوَ الأَرُزُّ، فتُخرَجُ مِنَ الأرُزِّ ومِنْ كُلِّ ما هوَ مِنْ قُوتِ البلدِ.
روَى البخاريُّ ومسلمٌ عَنْ أبي سعيدٍ -رضي الله عنه- أنه قالَ: ” كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ “.
المسألةُ الخامسةُ: لصدقةِ الفطرِ وقتٌ، فإنَّهُ إذا غرَبَتِ شمسُ يومِ العيدِ انتهَى وقتُهَا إجماعًا، حكَى الإجماعَ ابنُ رسلانَ الشافعيُّ -رحمه الله تعالى- وقد تنازعَ العلماءُ في صحةِ إخراجِها بعد صلاةِ العيدِ فذهبَ كثيرٌ مِنْ علمائنا إلى أنَّ وقتَ صدقةِ الفِطرِ ينتهي بغروبِ الشمسِ، أمَّا ابتِدَاؤها فقَدْ ثبتَ في البخاريِّ عَنِ ابنِ عمرَ أنهُ قالَ: ” وَكَانُوا يُعْطُونَ قَبْلَ الفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ “.
أمَّا أفضلُ وقتِهَا فهوَ عِندَ خُرُوجِ الرُّجلِ لصلاةِ العيدِ فيُعطيها الفقيرَ قبلَ صلاةِ العيدِ، كما ثبتَ في البخاريِّ عَنِ ابنِ عمرَ أنهُ قالَ: ” وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاَةِ “.
المسألةُ السادسةُ: مَنْ فاتَتْهُ صدقةُ الفِطرِ ولَمْ يُخرِجها حتى خرَجَ وقتُهَا فلَهُ حالانِ:
الحالُ الأُولى: أنْ يكونَ معذورًا، كأنْ يكونَ ناسيًا أوْ غيرَ ذلكَ مِنَ الأعذارِ، فإنَّهُ يُخرِجُها مُباشرةً أوَّلَ ما يَزُولُ العُذرُ، ولا إثمَ عليهِ.
الحالُ الثانيةُ: ألَّا يكونَ معذورًا، ومثلُ هذا آثمٌ ويجبُ عليهِ أنْ يُخرِجَهَا.
المسألةُ السابعةُ: تُعطى صدقةُ الفِطرة للأصنافِ الثمانيةِ الذينَ ذكرهُمُ اللهُ في كتابهِ: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 60].
ويتساهَلُ كثيرٌ مِنَ الناسِ فيُعطيهَا العُمَّالَ لِظَنِّهِ أنَّ كُلَّ العُمَّالِ فقراءُ، أوْ يُعطهَا الأيتامَ لِظَنِّهِ أنَّ كُلَّ الأيتامِ فُقَرَاءُ، أو يُعطيهَا الأرامِلَ لِظَنِّهِ أنَّ كُلَّ الأرمِلِ فُقَراءُ، ولَا شكَّ أنَّ كثيرًا مِنَ الأرامِلِ فُقرَاءُ وأنَّ كثيرًا مِنَ الأيتامِ فُقرَاءُ، لكِنْ ليسَ كُلَّهُم فقراءَ، لِذا لابُدَّ أنْ يُتحرَّى ولَا يُعطَى إلَّا الفُقَراءَ مِنهُمْ، ومثلُ ذلكَ العُمَّالُ مِنَ الخَدَمِ والسائقينَ وغيرهِم، فينبغِي أنْ يُتحرَّى فيهم، فإنَّ مِنْهُم الغنيَّ في بلدهِ، وإنْ كانَ يعمَلُ في بلدٍ غيرِ بلدهِ.
وصدقةُ الفِطرِ لا تُجزئُ ولا تجوزُ للكُفَّارِ، فيتساهَلُ بعضُ الناسِ فيُعطيهَا العُمَّالَ الفقراءَ الكُفَّارَ، وهذا ما لا يصِحُّ شرعًا إجماعًا.
المسألةُ الثامنةُ: تُعطَى صدقةُ الفِطرِ لواحدٍ، فلو أنَّ عشرةً أخرَجُوا عشرةَ آصُعٍ وأعطوهَا فقيرًا واحدًا صَحَّ إجماعًا، وكَذا تَصِحُّ الصدقةُ الواحدةُ أنْ تُقسَمَ على اثنينِ مِنَ الفُقَراءِ، بأنْ يُقسَمَ صاعٌ على اثنينِ مِنَ الفُقَراءِ؛ لأنَّ الحديثَ جاءَ بأنَّهَا صاعٌ ولَمْ يُحدِّدْ مِقْدَارَ ما يُعطَى الفقيرُ.
المسألةُ التاسعةُ: يجوزُ شِراءُ صدقةِ الفِطرِ مِنَ الفُقَراءِ، فلَوْ أنَّ الأرُزَّ تكاثَرَ عِندَ فقيرٍ فأرادَ بيعَهُ ليستفيدَ مِنْ المالِ، فيجوزُ أنْ يُشترَى مِنهُ، إلَّا مَنْ تصدَّقَ بصدقةٍ فإنَّهُ لا يجوزُ أنْ يشتريَ صدقتَهُ المُعيَّنةَ، ولهُ أنْ يشتريَ غيرَها مِنَ الصدقاتِ، لِمَا روَى البخاريُّ ومسلمٌ عَنْ عُمَرَ -رضي الله عنه- أنَّهُ قالَ: ” لَا تَبْتَعْهُ وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ “.
المسألةُ العاشرةُ: تكونُ صدقةُ الفِطرِ على الرجلِ في البلدِ التي غرَبَتْ عليهِ الشمسُ، فمَنْ كانَ مِنْ أهلِ الرياضِ في مكةَ فغرَبَتْ عليهِ الشمسُ في مكةَ فإنَّهُ يُخرِجُهَا في مكةَ، وهكذا، فالأفضلُ أنْ تُخرَجَ في البلدِ التي غرَبَتْ عليهِ الشمسُ.
هذهِ عشرُ مسائلَ تتعلَّقُ بصدقةِ الفِطرِ، أسألُ اللهَ أنْ يُعلِّمَنَا ما ينفعَنَا وأنْ ينفعنَا بما علَّمَنَا، وأنْ يتقبَّلَ مِنَّا وألَّا يكِلَنَا إلى أنفسِنَا إنهُ أرحمُ الراحمينَ.
أقولُ ما قُلتُ وأستغفرُ اللهَ لي ولكُمْ فاستغفروهُ، إنَّهُ هوَ الغفورُ الرحيمُ.
الخطبةُ الثانيةُ:
الحمدُ للهِ ذِي الفضلِ والإنعامِ على الجميعِ، يُطعِمُ ويُسقِي، ويجبُرُ ويشفي الوجيعَ، ويَعفو ويصفحُ ويَمحُوا الخطأ الكثير، والصلاةُ والسلام على عبده ورسوله البشير النذير، والسِّراجِ المُنيرِ، صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا، أمَّا بعدُ:
فإنَّنا عبيدٌ للهِ، والعبدُ لا يخرُجُ عمَّا يريدُ سيدهُ ومولاهُ، ولا يصحُّ أنْ تُعارَضَ أوامرُ الشرعِ ولا أحكامهُ بالعقولِ والاستحساناتِ، بَلْ يجبُ التسليمُ، قالَ سبحانهُ: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65].
وقالَ سبحانهُ: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ [الأحزاب: 36].
وثبتَ عِندَ أبي داودَ عَنْ عليِّ بنِ أبي طالبٍ -رضي الله عنه- أنهُ قالَ: ” لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ -أي بالعقلِ- لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ، وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ خُفَّيْهِ “. يعني: أتركُ ما يستحسنهُ عقلي إلى ما رأيتهُ مِنْ فعلِ النبيِّ ﷺ.
ومِنْ ذلكَ أنَّهُ كُلَّمَا قرُبَ وقتُ إخراجِ صدقةِ الفِطرِ، تكاثَرتْ الكلماتُ والرسائلُ مِنْ هنا وهناكَ، التي تدعوا إلى إخراجِ صدقةِ الفِطرِ مالًا، بِحُجَّةِ أنَّهُ أنفعُ للفقيرِ، ومثلُ هذا لا يصِحُّ لأمورٍ:
الأمرُ الأولُ: أنَّ الشريعةَ نصَّتْ على الصاعِ، كما تقدمَ ذِكرُ بعضِ الأدلةِ، فلا يصِحُّ أنْ نُخالِفَ الشرعَ بالعقلِ، وإنْ كانَ أنفعَ لكِنَّ الذي شرعَ الصدقةَ شرعَ طريقَتَها وهيَ أنْ تكونَ صاعًا، وهذا مثلُ الصلاةِ، فالصلاةُ عِبادةٌ تُرضِي اللهَ سبحانهُ، فلا يصِحُّ لأحدٍ أنْ يُغيِّرَها، بَلْ يُصلِّي على الطريقةِ التي شرَعَهَا اللهُ، فصدقةُ الفِطرِ عِبادةٌ محضةٌ كالصلاةِ، فلا تُعارَضُ بالعقولِ ولا بغيرِ ذلكَ.
الأمرُ الثاني: أنَّهُ كانَ في زمنِ النبيِّ ﷺ والصحابةِ مالٌ، ولَمْ يثبُتْ عنهم أنَّهُم أجازوا إخراجَهَا نقودًا، ولَوْ كانَ يجوزُ إخراجُهَا نقودًا لكانُوا أحرَصَ لبيانِ ذلكَ، فلَمْ يُبيِّنوهُ، مَعَ أنَّ الفقيرَ في زمانِهِم يحتاجُ إلى النقودِ أكثرَ مِنْ صاعِ الطعامِ.
الأمرُ الثالثُ: أنَّ هناكَ فرقًا بينَ صدقةِ المالِ وصدقةِ الفِطرِ، فصدقةُ الفِطرِ مُتعلقةٌ بالأبدانِ، بخلافِ صدقةِ المالِ فهيَ مُتعلِّقةٌ بالأموالِ، لذلكَ تُخرَجُ مالًا، أمَّا صدقةُ الفِطرِ فهيَ مُتعلَّقةٌ بالأبدانِ، فتُخرجُ عن الصغيرِ والكبيرِ، فتُخرَجُ صاعًا كما جاءَتْ بهِ الشريعةُ.
الأمرُ الرابعُ: أنَّ مِمَّا يدلُّ على أنَّ الثَّمَنَ والقيمةَ لم تَلْتَفِتْ إليهِ الشريعةُ ولم تَعْتَبِرْهُ، أنَّ قيمةَ صاعِ التمرِ يختَلِفُ عَنْ قيمةِ صاعِ البُرِّ وصاعِ الشعيرِ، ومعَ ذلكَ مَنْ أخرَجَ أحدَهَا فقَدْ أجزأتْهُ، فدلَّ هذا على أنَّ الشريعةَ لَمْ تعتَبِرْ القيمةَ في صدقةِ الفِطرِ، وقَدْ نبَّهَ على هذا الخطابيُّ في كتابهِ (معالمُ السُّنَنِ).
الأمرُ الخامسُ: أنَّ صدقةَ الفِطرِ شعيرةٌ ظاهرةٌ، لذلكَ في البلدِ التي اشتهرَتْ بإخراجِ الطعامِ كالأرُزِّ وغيرِ ذلكَ، ترَى في الطُّرُقاتِ وأمامَ المتاجِرِ أرُزًّا كثيرًا معروضًا، والناسُ يتوافدونُ لشرائهِ وتناقُلِهِ، فهيَ شعيرةٌ ظاهرةٌ، فإذا أُخرِجَتْ مالًا ذهبَتْ هذهِ الشعيرةُ الظاهرةُ.
اللهُمَّ يا مَنْ لا إلهَ إلَّا أنتَ، يا رحمنُ يا رحيمُ، اللهُمَّ تقبَّلْ مِنَّا رمضانَ، اللهُمَّ اجعَلْنَا مِمَّنْ صامَهُ وقامَهُ إيمانًا واحتِسَابًا، اللهُمَّ يا مولانَا أعِنَّا على ذِكْرِكَ وشُكْرِكَ وحُسْنِ عِبادَتِكَ.
اللهُمَّ أعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وعليكَ بالكَفَرَةِ والمشركينَ فإنَّهُم لا يُعجِزُونَكَ يا ربَّ العالَمينَ.