الحمدُ للهِ الذي حكمَ فعَدَلَ، وشَرَعَ فأتْقَنَ، والصَّلاةُ والسلامُ على محمدٍ بنِ عبدِاللهِ، الذي بلَّغَ الرسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونَصَحَ الأُمَّةَ، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، أمَّا بعدُ:
فإنَّ الزكاةَ حقُّ اللهِ في المالِ، فَرَضَهُ بِعَدْلٍ وإحكامٍ ليُطهِّرَ مالَ الغنيِّ ويُبارِكَ فيهِ، وينفَعُ الفقيرَ ويُواسيهِ، قالَ تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [التوبة: 103].
وَقَدْ حَدَّدَ رَبُّنَا أهلَ الزَّكاةِ في كتابِهِ، وبيَّنَ ذلكَ النبيُّ ﷺ في سُنَّتِهِ، وهُمْ أصنافٌ ثمانيةٌ، مَنْ دَفَعَها إليهِم فَقَدْ أجْزَأتْ وَصَحَّتْ بِدَلَالَةِ القرآنِ والإجماعِ الذي حكاهُ ابنُ قدامةَ وغيرُهُ، قالَ تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 60].
الصِّنفُ الأولُ والثاني: الفقراءُ والمساكينُ، والفقيرُ والمسكينُ يجتمعانِ في أنَّهُمَا مُحتاجانِ للمالِ وليسَ عِندَهُم ما هوَ كِفايةٌ لَهُمَا، وهذا يختَلِفُ باختلافِ الزَّمانِ والمكانِ، ويفتَرِقانِ في أنَّ الفقيرَ لا يَسألُ الناسَ أمَّا المسكينُ فيسألُ، كما ثبتَ عن مجاهدِ والزهريِّ.
وَلَا يدخلُ في ذلكَ القادِرُ على التكسُّبِ؛ لِمَا ثَبَتَ عِندَ النسائيِّ عن عبيدِ اللهِ بنِ عديٍّ بنِ الخِيَارِ، قالَ: أخبرني رجلانِ: أنَّهُمَا أَتَيَا النبيَّ ﷺ فسألاهُ الصَّدَقَةَ، فقالَ: «إِنَّ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا، وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ، وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ».
لِذا يَصِحُّ أنْ يُدفَعَ للفقيرِ والمسكينِ مِن الزكاةِ مَا يشتري بِهِ آلةً يتكسَّبُ بِها ليَغْتَنِيَ، وليُعلمَ أنهُ لا يَلزَمُ أنْ تكونَ الأرَامِلُ والأيتامُ فقراءَ مُستحقِّينَ للزكاةِ، فَقَدْ يكونونَ أغنياءَ وارثينَ.
الصِّنفُ الثالِثُ: العامِلونَ عَلَيها، وهم السُّعاةُ الجالِبونَ للزَّكاةِ الذينَ يُرسِلُهُمْ وَلِيُّ الأمرِ، وَلَا يدخلُ في ذلكَ مَن يتبرَّعُ بجمعِ الزَّكَوَاتِ وتوزيعِهَا على أهلِهَا ومُستحقِّيها.
الصِّنفُ الرَّابِعُ: المُؤلَّفَةُ قلوبُهُمْ، وهم أنواعٌ، فمِنْهُم الكافرُ الذي هو سيِّدٌ في قومِهِ، فيُعطَى ليُسلِمَ فيُسلِمُ قومُهُ، أو يُعطَى ليسلمً المسلمونَ مِن شرِّهِ، ومِنهم الكافرُ يُعطَى رجاءَ إسلامِهِ، ومنهُم المسلمُ الضعيفُ في دينِهِ، فيُعطَى ليتقوَّى في دينِهِ، كما فصَّلَ ذلكَ أهلُ العلمِ.
الصِّنفُ الخامِسُ: وَفِي الرِّقَابِ، وهم المسلمونَ المملوكونَ، فيُعطَوْنَ مِن الزكاةِ ليُعتَقُوا ويكونوا أحرارًا.
الصِّنفُ السادِسُ: الغارِمونَ، وهم مَن عليهم دَيْنٌ بسببٍ مُبَاحٍ وَمَا استطاعوا قضاءَ دَيْنِهِم، فيُعطونَ لقضاءِ الدَّينِ.
الصِّنفُ السَّابِعُ: ابنُ السَّبيلِ، وهو المسافِرُ المنقَطِعُ في سفرِهِ، فيُعطى مِن الزكاةِ حتَّى يرجِعَ إلى بلدِهِ.
الصِّنفُ الثَّامِنُ: في سبيلِ اللهِ، وهم المجاهِدونَ الذينَ لَا مالَ لهم مِن بيتِ المالِ، فيُعطَونَ ليستمِرُّوا في الجهادِ، أمَّا مَن لهُ راتِبٌ شهرِيٌّ مِن بيتِ المالِ فَلَيْسَ مِنهُمْ.
هؤلاءِ هم الأصنافُ الثَّمَانِيةُ الذينَ ذَكَرَهُم اللهُ في كتابِهِ، فاتَّقَوا اللهَ وتحَرُّوا في إيصالِ زَكَوَاتِكُمْ لأهلِهَا حتَّى تُقبَلَ مِنكُم وتبرَأَ ذِمَّتُكُم، فَمَا أكثرَ المتساهلينَ المُفرِّطينَ.
أقولُ ما تسمعونَ، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم فاستغفروهُ، إنهُ هو الغفورُ الرَّحيمُ.
الخطبةُ الثانيةُ:
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، أمَّا بعدُ:
فإنَّ مِن الأخطاءِ التي يقعُ فيها بعضُ المسلمينَ أنهم يدفعونَ الزكاةَ إلى غيرِ هذهِ الأصنافِ الثمانيةِ، كأنْ يدفَعَها في بناءِ مسجدٍ، أو شِرَاءِ مَصَاحِفَ، أو قضاءِ دَيْنِ مَيِّتٍ، وهذا مَا لَا يَصِحُّ بالإجماعِ، حكاهُ ابنُ عبدِ البَرِّ، فَلَا يصِحُّ دفعُ الزكاةِ في أبوابِ الدَّعوةِ؛ لأنَّها مُحدَّدَةٌ فيما حَدَّدَهُ اللهُ من الأصنافِ الثمانيةِ، وَلَيسَ مِنها الدعوةُ إلى اللهِ، وَلَا يصِحُّ دفعُ الزكاةِ لِمَنْ تَجِبُ النَّفَقَةُ عليهِ، كالوَلَدِ والوالدينِ والزوجةِ بالإجماعِ، حكاهُ ابنُ المُنذِرِ، وَلَا تُدفَعُ الزكاةُ لشابٍّ عاطِلٍ يستطيعُ أبوهُ أنْ يُنفِقَ عليهِ، لاسيَّما وأكثرُ الشبابِ قادِرٌ عَلَى العملِ والتكسُّبِ، ومِثلُهُ لا يَصِحُّ دفعُ الزكاةِ لهُ، لقُدرتِهِ عَلَى التكسُّبِ كما تقدمَ.
وإنَّ الزكاةَ واجِبَةٌ في مالِ الصبيِّ كاليتيمِ، وفي مالِ المجنونِ إذا بَلَغَ نِصَابًا وحالَ عليهِ الحولُ، كَمَا أفتى بذلِكَ الصحابةُ.
إنَّ مِن المسلمينَ مَن تَثْقُلُ عليهِ الزكاةُ لنفسِهِ الأمَّارةِ بالسوءِ، أو لِشُحِّهِ، فليتَّقِ اللهَ وليَعْلَمَ أنَّ المالَ مالُ اللهِ، وَلَوْ شاءَ أفقَرَهُ، فليَحمَدِ اللهَ أنْ أغناهُ فصارَتْ يَدُهُ العُليا، وليستشعِرْ قِلَّةَ الزَّكاةِ بالنظرِ لبقيةِ مالهِ مَعَ أنَّ المالَ مالُ اللهِ وهو الذي أعطاهُ، قالَ تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ﴾ [محمد: 38] وقال ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 281]
أيها المسلمون: إن هناك فرقًا بينَ زكاةِ المالِ وصدقةِ الفطرِ فإنَّ صدقةَ الفطرِ لا تدفعُ مالًا بلْ تخرجُ طعامًا من قوتِ البلدِ كما أمرَ النبيُّ صلى اللهُ عليهِ وسلّمَ روى البخاريُ ومسلمٌ عن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ “فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – زَكَاةَ الْفِطْرِ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ: عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ، وَالذَّكَرِ، وَالْأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ، وَالْكَبِيرِ، مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ” ولا يصحُ لمؤمنٍ أن يخالفَ ذلكَ بحجةِ أنَّ الفقراءَ محتاجونَ للنقودِ أكثرُ؛ فإنَّ هذهِ عبادةٌ يجبُ أنْ نقابلَها بالتسليمِ لا بالاعتراضِ بالعقولِ والتحسيناتِ
اللهُمَّ أعِنَّا عَلَى ذِكرِكَ وشكرِكَ وحُسنِ عِبادَتِكَ.
اللهُمَّ زَكِّ نُفُوسَنَا أنتَ خيرُ مَن زَكَّاهَا.
مصارف الزكاة يا عباد الله