بسم الله الرحمن الرحيم
روى الإمام مسلم (725) عن عائشةَ -رضي الله عنها- أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»، وركعتا الفجرِ هي أحدُ السننِ الرواتبِ، والسننُ الرواتبُ: هي النوافلُ المتعلقةُ بالفرائِضِ التي داوَمَ عليها النبيُّ ﷺ.
ومن فضلها العظيم أنها خيرٌ من الدنيا وما فيها، بل قال ابن العربي المالكي: ” فلا خلاف بين العلماء أنَّ تسبيحةً واحدةً خيرٌ من الدنيا وما فيها، فكيف بركعتي الفجر؟ “. [عارضة الأحوذي (2 / 244)] وهذا الحديث وغيره من أدلة الكتاب والسنة التي تُذكر العبد بالمفهوم المستقيم للحياة الدنيا، وتُبيِّن له الغاية الأولى والعظمى من وجوده، وهي عبودية الله سبحانه.
البعض إذا سمِعَ لهذا الخطاب ظنَّ أنَّ المرادَ هجرُ ملذات الدنيا والاستمتاعُ بها، ولا شكَّ أنَّ هذا فهمٌ مغلوط، قال سبحانه: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾.
لكن لما كان الإنسان ظلومًا جهولًا، كان من تربيةِ اللهِ لهُ: تحذيرُهُ من الغفلة عما خُلق لأجله بالإغراقِ في المباحاتِ -فضلًا عن المحرمات- لئلَّا تُلهيهِ عن الغاية الكبرى لوجودِهِ في هذهِ الدنيا القصيرة، فقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ﴾.
لذلك تكرر التذكير بحقيقة الدنيا في الكتاب والسنة في أكثر من موضع، وتنوَّعت الأساليب وضربُ الأمثلةِ في ذلك، منها قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾.
فهذا هو حالُ الحياة الدنيا، فتفرحُ بالشيءِ الجديدِ الذي اشتريتَهُ … وما يلبثُ أن يتغيَّرُ ويُبلَى أو تملَّ منهٌ، وتفرح بشبابك وقوتك… ثم ما تلبث أن تضعف وتهرم ثم تموت … وهكذا.
“فغلط أكثر الخلق في هذا المقام إذ طلبوا النعيم والبقاء والعز والملك والجاه في غير محله؛ ففاتهم في محله، وأكثرهم لم يظفر بما طلبه من ذلك، والذي ظفر به انما هو متاع قليل، والزوال قريب؛ فإنه سريع الزوال عنه” [عدة الصابرين (ص 100)].
ولما كان حالُ الدنيا وما فيها من المتاع بهذه الصورة، قال الله تعالى بعد الآية السابقة: ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ دار السلام: هي الجنة، وسميتْ بدارِ السلامِ: لأنها سالمةٌ من كل المنغصات، فنعيمها ليس كنعيم الدنيا، فللمؤمنين في الجنة من النعيمِ المُقيمِ ما لا عينٌ رأت ولا خطرَ على قلب بشر.
﴿وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ ﴿لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾، ﴿لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلاَّ سَلامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا﴾.
ولا يملّون من نعيمها كما يمَل أهل الدنيا، قال تعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا﴾ قال ابن كثير في تفسيره (5 / 204): ” وَفِي قَوْلِهِ: {لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا} تَنْبِيهٌ عَلَى رَغْبَتِهِمْ فِيهَا، وَحُبِّهِمْ لَهَا، مَعَ أَنَّهُ قَدْ يُتَوَهَّمُ فِيمَنْ هُوَ مُقِيمٌ فِي الْمَكَانِ دَائِمًا أَنَّهُ يَسْأَمُهُ أَوْ يَمَلُّهُ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ مَعَ هَذَا الدَّوَامِ وَالْخُلُودِ السَّرْمَدِيِّ، لَا يَخْتَارُونَ عَنْ مُقَامِهِمْ ذَلِكَ مُتَحَوَّلًا وَلَا انْتِقَالًا وَلَا ظَعْنًا وَلَا رِحْلَةً وَلَا بَدَلًا “.
ولما كان التوحيد هو ركن الإسلام الأعظم الذي لا يقوم إلا به، عرفتَ شيئًا من الحِكَمِ التي من أجلها كان النبيُّ ﷺ يقرأ في ركعتي الفجر بسورة الكافرون والإخلاص؛ وذلك لما تضمَّنت هاتين السورتين من التوحيد الاعتقادي والعمَلَي، كما بيَّن ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية كما في [مجموع الفتاوى (17 /170)].
فقد تضمنت سورة الإخلاص: صفات الله الخاصة به وتنزيهه سبحانه عما افتراه عليه الأفَّاكون، وهذا هو التوحيد الاعتقادي، وهو مُستلزمٌ للتوحيد العملي، وأما في سورة الكافرون فتضمنت البراءة من الكفر وأهله، وهذا هو التوحيد العملي، وهو متضمنٌ للتوحيد الاعتقادي.
وأُنبه إلى خطأ يقع فيه بعض المسلمين وهو أحد آثار طغيان الثقافة الغربية على المسلمين، فبعضهم يفهم من قوله تعالى: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ أي: اعبدوا ما شئتم ونحن نعبد ما نشاء، ولا يتدخل أحدنا في الآخر، والمهم أن نعيش في سلام يا جماعة!!
ولا شكَّ أنَّ هذا فهمٌ باطلٌ تردُّهُ سورة الكافرون نفسها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في [الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (3 / 60)]: ” وقوله: {لكم دينكم ولي دين} لا يدل على رضاه بدينهم، بل ولا على إقرارهم عليه، بل يدل على براءته من دينهم، ولهذا قال النبي ﷺ: «إن هذه السورة براءة من الشرك». ونظير هذه الآية قوله -تعالى-: {وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون}“.
ومما يُؤكِّد هذا المعنى: الآيات الأخرى التي كان النبيُّ ﷺ يُنوِّع القراءة بها في ركعتي الفجر، فقد ثبت في صحيح مسلم (727) عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنَّ النبيَّ ﷺ كان يقرأ في الركعة الأولى بآية البقرة: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾.
وأما في الركعة الثانية فتُقرأ آية آل عمران: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾.
فتضمنت آية البقرة التوحيد الاعتقادي، بالإيمان بالله وكتبه ورسله، وتضمنت آية آل عمران التوحيد العمليّ، وهو إفراد الله بالعبادة والبراءة من الشرك وأهله.
فتأمَّل هذه المعاني العظيمة في ترسيخ العبودية والتوحيد، وكيف أنَّ النبيَّ ﷺ كان يحرصُ على قراءة هذه السور في ركعتي الفجر، وأيضًا في راتبة المغرب، فكان يبتدئ اليوم بالتوحيد ويختِمُهُ بالتوحيد.
اللهم أحينا على الإسلام، وتوفنا على الإيمان، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.