الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ الذي خلَقَ السماواتِ والأرضَ ثُمَّ الذينَ كَفَرُوا يتَّخِذونَ معَهُ الشُرَكاءَ، خَلَقَ الإنسانَ مِن طينٍ ثُم جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِن ماءٍ، ومِن رَحمَتِهِ أَنْ أنزَلَ إليهِم الكُتُبَ وأرسَلَ إليهِم الرُّسُلَ والأنبياءَ، يَدعونَهُمْ إلى كَلِمَةٍ طَيِّبةٍ أصلُهَا ثابِتٌ وفَرْعُها في السَّماءِ.
والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا محمدٍ إمامِ الحُنَفَاءِ، وعَلَى آلِهِ وصحبِهِ صَفْوَةِ الخَلْقِ بعدَ الأنبياءِ، وسلَّمَ تَسْليمًا.
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1].
أمَّا بعدُ:
فإنَّ كلمةَ التوحيدِ العُظمَى هيَ (لا إلهَ إِلَّا اللهُ) فَلَا يدخُلُ العبدُ الإسلامَ وَلَا يَنجُو مِن النِّيرانِ، وَلَا يفوزُ بالجِنَانِ إلَّا بهذِهِ الكلمةِ العظيمةِ (لا إلهَ إلَّا اللهُ).
وَقَدْ تكاثَرَتْ الأدلَّةُ الشرعيَّةُ في بيانِ فضلِ هذهِ الكلمةِ، وهذا دليلٌ واضحٌ وَبَيِّنٌ وظاهرٌ على عُلُوِّ منزِلَتِها ورفِيعِ درَجَتِها في الإسلامِ، فإنَّهَا العُرْوَةُ الوُثْقَى، وهيَ كلمةُ التوحيدِ، رَوَى البخاريُّ ومسلمٌ عن أنسِ بنِ مالكٍ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ، حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَإِذَا قَالُوهَا، وَصَلَّوْا صَلَاتَنَا، وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا، وَذَبَحُوا ذَبِيحَتَنَا، فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ».
فَلَا يدخُلُ العبدُ الإسلامَ إِلَّا بهذِهِ الكلمةِ العظيمةِ، فهيَ أوَّلُ كلمةٍ ينطِقُ بِها مَن أرادَ الإسلامَ، وآخِرُ كلمةٍ ينطِقُ بِها مَن أرادَ الرَّحيلَ مِن هذهِ الدَّارِ، رَوَى الإمامُ مسلمٌ عن أبي هريرةَ وأبي سعيدٍ -رضي الله عنهما- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ».
وَمَن كانَ آخِرُ كلامِهِ في هذِهِ الدُّنيا (لا إلهَ إِلَّا اللهُ) دَخَلَ الجَنَّةَ، ثَبَتَ عِندَ أبي داودَ عن مُعاذِ بنِ جَبَلٍ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ».
وَرَوى البخاريُّ ومسلمٌ عن عِتْبانَ بنِ مالكٍ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «فَإِنَّ اللهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ».
وَرَوى الإمامُ مسلمٌ عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «فَمَنْ لَقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائِطِ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ».
وَرَوى الإمامُ مسلمٌ عن عثمانَ بنِ عفَّانٍ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ».
وَثَبَتَ عِندَ الإمامِ أحمدَ عن عبدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ العاصِ -رضي الله عنه- عن النبيِّ ﷺ: «أنهُ لَمَّا حَضَرَتْ نوحًا الوفاةُ جَمَعَ بَنِيهِ، فقالَ لَهُمْ: إِنِّي قَاصٌّ عَلَيْكَ الْوَصِيَّةَ: آمُرُكَ بِاثْنَتَيْنِ، وَأَنْهَاكَ عَنِ اثْنَتَيْنِ، آمُرُكَ بِـ “لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ “، فَإِنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ، وَالْأَرْضِينَ السَّبْعَ، لَوْ وُضِعَتْ فِي كِفَّةٍ، وَوُضِعَتْ ” لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ ” فِي كِفَّةٍ، رَجَحَتْ بِهِنَّ ” لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ ” وَلَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعَ، كُنَّ حَلْقَةً مُبْهَمَةً، قَصَمَتْهُنَّ ” لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ “».
ولهذِهِ الكلمةِ معنَى وأركانٌ وشروطٌ، فَمَنْ لَمْ يأتِ بِهَا لَمْ تنفَعْهُ هذهِ الكلمةُ، إنهُ ليسَ كُلُّ مَن تلفَّظَ بكلمةِ التوحيدِ فازَ بِفضلِها، بَلْ لابُدَّ أنْ يأتيَ بشروطِها وأركانِها، وأنْ يَعرِفَ معناها.
أمَّا معناهَا: لَا معبودَ بِحَقٍّ إلَّا اللهُ، قَدْ تعلَّمْنَاهَا صِغارًا لكن قَدْ نَسِيهَا بعضُ أبنائِنا، فنحنُ في حَاجَةٍ أَنْ نَتَعَاهَدَهُم وأَنْ نَتَعَاهَدَ أَنْفُسَنَا قَبْلَ ذلكَ وأزواجَنَا لِيعرِفُوا معنَى هذهِ الكلمةِ، ولِيَسْتَشْعِرُوا عَظِيمَ مِقْدَارِهَا.
فَلَو أنَّ رَجُلًا يقولُ بأنَّ اللهَ هوَ الخالِقُ وحدَهُ، وأنَّ اللهَ هو الرَّازِقُ وحدَهُ، وأنَّ اللهَ هُوَ المُحيي والمُميتُ وحدَهُ، وأنهُ لا يعلَمُ الغيبَ إلَّا اللهُ، إلى غيرِ ذلكَ مِن أفعالِهِ سبحانُهُ، لكنهُ ذبحَ لغيرِ اللهِ، أو دَعَا غيرَ اللهِ، أو استغاثَ بغيرِ اللهِ، أو صَرَفَ عِبادَةً لغيرِ اللهِ، فإنهُ مُشرِكٌ كافِرٌ لأنهُ صرَفَ عِبادةً لغيرِ اللهِ، والعباداتُ خاصَّةٌ باللهِ.
قالَ سبحانهُ: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 5] وقالَ تعالَى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: 23] فَلَيسَ التوحيدُ إفرادَ اللهِ بالخَلْقِ والرَّزْقِ والإِحْيَاءِ والإِماتَةِ وَلَا التَّعْظِيمِ، وَإِنْ كانَ هذَا نوعًا عظيمًا مِن التوحيدِ، لكنَّ التوحيدَ الذي كانَ معرَكَةً بينَ الأنبياءِ وقومِهِمْ هوَ في توحيدِ الأُلوهيَّةِ، في ألَّا يُعبَدَ إِلَّا اللهُ، فَلَا نَذْرَ وَلَا ذَبْحَ وَلَا دُعاءَ إِلَّا للهِ الذي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.
أتدورنَ أنَّ أكثَرَ جامِعَاتِ العالَمِ الإسلامِيِّ اليومَ تُربِّي طُلَّابَها على أنَّ مَعنى هذهِ الكلمةِ لَا خالِقَ إِلَّا اللهُ، وَلَا رازِقَ إِلَّا اللهُ، وَلَا قادِرَ على الاختِرَاعِ إِلَّا اللهُ! كَمَا يُقَرِّرُ ذلكَ الأشاعِرَةُ المُبْتَدِعَةُ، وتَتْبَعُهُم الجماعاتُ الحَرَكِيَّةُ كجماعَةِ التَّبْلِيغِ المُسمَّاةِ (الأحباب) يُردِّدونَ أنَّ معنَى هذهِ الكلمةِ: لَا خالِقَ إِلَّا اللهُ، وَلَا رازِقَ إِلَّا اللهُ وَلَا مُحْيِي إِلَّا اللهُ!
وهذا أمرٌ خطيرٌ للغايةِ، وقَدْ بيَّنَ اللهُ تعالَى أنَّ لهذهِ الكلمةِ رُكْنينِ: الرُّكنُ الأولُ النَّفْيُ، والرُّكْنُ الثَّاني الإِثْبَاتُ، النَّفْيُ: (لا إِلَهُ) أي لَا مَعبودَ حَقٌّ، والإِثباتُ: (إِلَّا اللهُ) أي لَا يُستَثنَى مِن ذلكَ إِلَّا اللهُ، قالَ سبحانَهُ: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾ [البقرة: 256].
وقالَ تعالَى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الزخرف: 26-28] فالنَّفْيُ في قَوْلِهِ: ﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ﴾ والإِثْبَاتُ في قولِهِ: ﴿إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي﴾.
اللهُمَّ أحينا عَلَى (لا إلهَ إِلَّا اللهُ) وَأَمِتْنَا عَلَيْهَا، اللهُمَّ اجْعَلهَا آخِرَ كَلَامِنَا مِن هذهِ الدُّنيا، اللهُمَّ اجْعَلْهَا سبَبًا لِدُخولِ جِنانِكَ وَسَبَبًا لِرِضْوَانِكَ.
أقولُ ما قُلْتُ، وأستَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ فاستَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هوَ الغفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ وَكَفَى، والصلاةُ والسلامُ على النبيِّ المُجْتَبَى، محمدِ بنِ عبدِ اللهِ المُصطَفَى ﷺ، أمَّا بعدُ:
فإنَّ لِهذِهِ الكلمةِ شروطًا، ذَكَر البُخارِيُّ أنهُ قيلَ لِوَهْبِ بنِ مُنَبِّهٍ: أليسَ (لا إلهَ إلَّا اللهُ) مِفتاحَ الجَنَّةِ؟ قالَ بَلَى، ولكنَّ لِكُلِّ مِفتَاحٍ أسنانًا، فإِنْ لَم تأتِ بأسنانِهِ لَمْ يُفتَحْ لَكَ.
فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ تَلَفَّظَ بـ(لا إلهَ إِلَّا اللهُ) فازَ بأجرِهَا وكانَتْ سبَبًا لدخولِهِ الجنَّةَ والنَّجاةَ مِن النَّارِ، كلا، بَلْ لابُدَّ أنْ يأتيَ بشروطِها، ومِن شروطِها العلمُ، فَلَابُدَّ أنْ يعلَمَ بِمعناهَا، وقَد تقدَّم ذِكْرُ الدليلِ على العلمِ، فإنَّهُ ﷺ قالَ: «مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ».
وَمِنْ شروطِها اليقينُ، فَلَا يكونُ شاكًّا، بَلْ يكونُ على يقينٍ تامٍّ بالتوحيدِ وَبِمعنَى هذهِ الكلمةِ، وتقدَّمَ حديثُ أبي هريرةَ: «فَمَنْ لَقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائِطِ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ».
وَمِنْ شُرُوطِهَا الإخلاصُ، فَلَا يَتلفَّظْ بِها مُرائِيًا وَلَا مُتابَعةً لأهلِ بَلَدِهِ، بَلْ يتلفَّظْ بِهَا مُبتَغِيًا ما عِندَ اللهِ، وتقدَّمَ حديثُ عِتْبَانَ: «فَإِنَّ اللهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ».
وَمِنْ شُرُوطِهَا الصِّدْقُ، فيقولُها صادِقًا لَا كاذِبًا، كَمَا في حديثِ مُعاذٍ في الصحيحِ قالَ ﷺ: «يُصَدِّقُ قَلْبُهُ لِسَانَهُ، وَلِسَانُهُ قَلْبَهُ».
وَمِنْ شُرُوطِهَا المَحَبَّةُ، والمحبَّةُ أعظَمُ أعمالِ القُلُوبِ، فإنَّهَا أعظَمُ مِن الخوفِ وإنْ كانَ الخوفُ جَليلًا؛ وذلكَ أنَّ المحبَّةَ للهِ تكونُ في الدُّنيا وتكونُ في الآخِرَةِ، فإنَّهَا مُستمِرَّةٌ مَعَ أهلِ الإيمانِ حَتَّى في الجِنَانِ، بِخِلَافِ الخوفِ فإِنَّهُ في الدُّنيا، وأمَّا عِندَ دُخُولِ الجِنَانِ فَلَا خوفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنونَ.
لِذا قالَ الإمامُ ابنُ تيميةَ والإمامُ ابنُ القيمِ: عِبَادَةُ المَحَبَّةِ أعظَمُ مِن عِبادَةِ الخوفِ وإِنْ كانَتْ عِبَادَةُ الخوفِ عَظِيمَةً.
إِلَى غيرِ ذلكَ مِن شُرُوطِ (لَا إلهَ إِلَّا اللهُ).
فَيَا عِبَادَ اللهِ، تَذَكَّرُوا شُرُوطَهَا، وجاهِدُوا أَنفُسَكُم عَلَى القيامِ بِكَمَالِ شُروطِها، وانْشُرُوا شُرُوطَهَا في المُجتَمَعِ بينَ القريبِ والبعيدِ، والصديقِ والزَّمِيلِ، والزوجَةِ والوَلَدِ، انْشُرُوا التَّوحيدَ، فإنَّ التَّوحيدَ سَبَبٌ للرِّفْعَةِ في الدُّنيا والآخِرَةِ، التَّوحِيدُ سَبَبٌ للأَمْنِ والأَمَانِ، واللهِ وبِاللهِ وتَاللهِ ما نَعِيشُهُ مِن أمْنٍ عظيمٍ بِفَضْلِ اللهِ الكريمِ هُوَ بِتحقِيقِ التَّوحيدِ، قالَ تعالَى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: 82].
قَولُهُ: ﴿وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ أَي لَمْ يَخْلِطُوا تَوحِيدَهُم بِشِرْكٍ، فأُولئِكَ لَهُم الأمنُ في الدُّنيا والآخِرَةِ، وَهُم المُهتَدُونَ في الدُّنيا والآخِرَةِ.
قالَ سبحانهُ: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾ [النور: 55] مَا هُوَ حالُهُم؟ قالَ: ﴿يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ فَهُم أهلُ توحيدٍ.
إنَّ أعظمَ مَا في هذهِ الدَّولَةِ المُبارَكَةِ القِيامُ بالتَّوحيدِ، فقَدْ مَنَّ اللهُ على حُكَّامِها وعُلَمَائِها أنَّهُم أنصارُ توحيدٍ، فَلَيسَ فيهَا قَبْرٌ يُعْبَدُ، وَلَا ضَرِيحٌ يُقْصَدُ، وَلَا وَلِيٌّ يُعَظَّمُ، وَلَا سَاحِرٌ يَنشُرُ بينَ الناسِ سِحْرَهُ، كَلَّا واللهِ بَلْ التوحيدُ ظاهِرٌ -وَللهِ الحَمْدُ- يُدَرَّسُ الصِّغَارُ في المدَارِسِ النِّظَامِيَّةِ حَتَّى يتَخرَّجُوا مِن الثَّانَوِيَّةِ، بَلْ ويَدرُسُونَ أشياءَ في التوحيدِ في الجامِعَةِ في غيرِ التَّخصُّصَاتِ الشَّرعيَّةِ، أمَّا التَّخصُّصَاتُ الشَّرعيَّةُ فإِنَّها مُرَكَّزَةٌ في توحيدِ اللهِ -وللهِ الحَمْدُ-.
وهذهِ نِعمَةٌ عظيمةٌ، إنهَا أعظمُ ما تميَّزَتْ بِهِ هذهِ الدولةُ مِن قُرُونٍ، إِنَّهَا أعظَمُ مَزَايَا هذهِ الدولةِ المُبارَكَةِ وهوَ القيامُ بالتَّوحيدِ، واللهِ إنَّكَ لَتَعجَبُ غايَةَ العَجَبِ أنْ تَرَى عُلماءَ في دولٍ أُخرَى إسلاميَّةٍ يُشارُ إليهِمْ بالبَنَانِ وهُمْ يحلِفونَ بغيرِ اللهِ، يَحْلِفونَ بالنَّبِيِّ فيقولونَ: وَالنَّبِيِّ، أو بالأَمَانَةِ، أو يَحْلِف بالشَّرَفِ أو بِغيرِ ذلكَ، وهُنا بِفضلِ اللهِ وكَرَمِهِ ثُمَّ بِنُصْرَةِ العُلَمَاءِ والوُلاةِ للتَّوحيدِ نَشَأَ الصَّغيرُ على التَّوحيدِ فَلَا يَحْلِف إلَّا باللهِ الذي لَا إلهَ إِلَّا هُوَ.
فاحْمَدُوا اللهَ عَلَى التَّوحيدِ وتَذَاكَروهُ، واحْذَرُوا تِلْكَ الفِتنَةَ العظيمةَ، احْذَروا تِلْكَ الخَدِيعةَ المَاكِرَةَ مِن الشيطانِ الرَّجيمِ، وهُوَ أنْ يُوسوِسَ إليكَ الشيطانُ بأنَّكَ مُوَحِّدٌ وابنُ مُوَحِّدٍ، فَلَسْتَ في حاجَةٍ إلى تَعَلُّمِ التَّوحيدِ!
يا للهِ! مَا أعظَمَ هذا المَكْرَ، وَمَا أعظَمَ هذِهِ الخَدِيعةَ، وكَمْ وقَعَ في شِرَاكِهَا مِن خَلْقٍ عظيمٍ، وَلَوْ تَدَبَّرَ العبدُ كِتابَ اللهِ لَعَلِمَ أنَّ الأنبياءَ مُحْتاجُونَ إلى تَذَكُّرِ التَّوحيدِ، فكيفَ بغيرِهِم؟
قالَ سبحانهُ لِأَحَبِّ خَلْقِهِ إليهِ: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ [محمد: 19] وقالَ إبراهيمُ -عليهِ السلامُ-: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ﴾ [إبراهيم: 35] رَوَى ابنُ جريرٍ عن إبراهيمَ التَّيْمِيِّ -التَّابِعِيِّ المَعْرُوفِ- أنهُ قالَ: وَمَنْ يَأْمَنُ البَلَاءَ -أي الشِّرْكَ- بَعدَ إبراهيمَ -عليهِ السلامُ-؟
فتعلَّمُوا توحيدَ اللهِ، إنَّ هناكَ دروسًا ومقاطِعَ كثيرةً في اليوتيوبِ وغيرِهِ لِعُلمائِنا الثِّقاتِ، كالعلامةِ عبدِ العزيزِ بنِ بازٍ، والعلامةِ محمدِ ناصرِ الدِّينِ الألبانِيِّ، والعلامةِ محمدِ بنِ صالحٍ العثيمينِ -رحمهم الله- والعلامةِ صالحٍ الفوزانِ، والمُفتِي العام -حفِظَهُم اللهُ- وغيرِهِم مِن العُلماءِ الموثوقينَ في تدريسِ التوحيدِ.
فَمَا الذي يمنَعُكَ يا عبدَ اللهِ أن تجلِسَ كُلَّ يومٍ نِصفَ ساعةٍ تَسمَعُ الأسئِلَةَ والأجوِبَةَ في التوحيدِ، أو تسمعُ شرحَ القواعدِ الأربعِ في التوحيدِ، أو ثلاثةِ الأصولِ، أو كتابِ التوحيدِ للعلماءِ الموثوقينَ، مَا الذي يمنَعُكَ في ذهابِكَ وإيابِكَ للعَمَلِ فإنها تَنقَضِي الساعاتُ الكثيراتُ في الذهابِ والإيابِ، فاجْعَلْها في تعلُّمِ التوحيدِ وتذكُّرِهِ.
اللهُمَّ يا مَنْ لَا إلهَ إلَّا أنتَ، يا رحمنُ يا رحيمُ، اللهُمَّ يا مَن مَننتَ علينا بالتوحيدِ، اللهُمَّ ثَبِّتْهُ في قلوبِنَا حتَّى نَلْقاكَ، اللهُمَّ زِدْنَا توحيدًا يا أرحمَ الرَّاحمينَ، اللهُمَّ أحينا على التوحيدِ والسُّنةِ وأمِتْنَا على ذلكَ حتَّى نَلقاكَ راضيًا عَنَّا.
اللهُمَّ اجْنُبْنا وبَنيَّ أنْ نعبُدَ الأصنامَ، اللهُمَّ اجْنُبْنا وبَنيَّ أنْ نَقَعَ في الشركِ يا أرحمَ الرَّاحمين، اللهُمَّ عَلِّمْنًا (لا إلهَ إلا اللهُ)، اللهُمَّ أمِتْنا على (لا إلهَ إلا اللهُ) اللهُمَّ اجْعَلْ آخِرَ كلامِنَا مِن الدُّنيا (لا إلهَ إلا اللهُ).