بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي جعل من آياته أزواجًا ليسكن إليها وجعل بينهم مودة ورحمة، والصلاة والسلام على رسول الله الذي رغب في الزواج قولًا وفعلًا، وكان أكثر هذه الأمة نساءً .
وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ ,
أما بعد:
فلقد دعت الشريعة للزواج، وجعل الله بين الزوجين مودة ورحمة، قال تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾
وذلّل ربنا صعابه، وسهّل أمره، بأن جعله سببًا للرزق فقال: ﴿ وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة عن عمر بن الخطاب قال: ابتغوا الغنى في الباءة .
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال: التمسوا الغنى في النكاح.
ومن أعظم مقاصد الزواج: إعفاف النفس، وحفظ الفرج، وغض البصر، عن ابن مسعود قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء» رواه البخاري ومسلم.
وقال عمر بن الخطاب لرجل: ” ما يمنعك من النكاح إلا عجز أو فجور ” أخرجه عبد الرزاق
ولما كان الزواج بهذه المنزلة كان الشيطان حريصًا على التفريق بين الزوجين بكل وسيلة، قال تعالى {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئا، قال ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته، قال: فيدنيه منه ويقول: نعم أنت ” قال الأعمش: أراه قال: «فيلتزمه» أخرجه مسلم
وفي المقابل فإن الشريعة داعية ومرغبة في استمراره ودوامه بل وفي الاستعجال فيه، فدونكم بعض الأسباب التي هي من أسباب دوامه :
السبب الأول / عدم العجلة في الحكم على الحياة الزوجية، فقد تتأخر الألفة والمحبة شهورًا، بل أكثر، قال تعالى {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} وقال {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ}.
فكم ضيعت العجلة فرصًا كان بالإمكان تداركها والاستفادة منها، وصدق الله {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} قال ابن حبان في كتابه روضة العقلاء (ص: 216): ” والعجِل تصحبه الندامة، وتعتزله السلامة، وكانت العرب تكني العجلة أم الندامات “
السبب الثاني / استحضار محاسن كل من الزوجين للآخر، فإن مثل هذا سبب عظيم لدوام الحياة الزوجية وسعادتها.
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” لا يَفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقا رضي منها آخر ” صحيح مسلم
السبب الثالث/ استمرار القوامة والسيادة للرجال قال تعالى {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}
فإن الله ميّز الرجال في خلقتهم وتركيبتهم وشخصيتهم بما لا تصلح الحياة الزوجية إلا بسيادتهم، وإذا انعكس الأمر وغلبت المرأة فشلت الحياة الزوجية، عن أبي بكرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» رواه البخاري
وليس معنى هذا أن لا تستشار الزوجة، ولا يستفاد من رأيها، فإن استشارتها شيٌء، وجعل السيادة لها شيءٌ آخر .
السبب الرابع/ معرفة مقصود الحياة الزوجية وهي بناء أسرة صالحة، وإعفاف النفس، والتعاون على الخير الذي يكون نفعه في الدنيا والآخرة .
فما أكثر الذين لا يعرفون مقصود الحياة الزوجية؛ لذا تفشل حياتهم ولا تستمر .
فليس المقصود من الحياة الزوجية التسلية واللعب والسفر هنا وهناك، بل الأمر أكبر من هذا، وإن كان هذا لا يتنافى مع الحياة الزوجية، لكنه ليس مقصدًا أساسًا للزواج .
السبب الخامس / فعل الأسباب المُجددة والمرغبة للحياة الزوجية من التجمل والهدايا ( تهادوا تحابوا)، والنداء بأحسن الأسماء، قال تعالى {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، وعكس هذا انشغال الزوجة عن زوجها بأولادها وأحفادها وصديقاتها وغير ذلك.
السبب السادس/ الإنصاف بين الزوجين، والاعتراف بالجميل والفعل الحسن، فإن مما يكثر بين النساء كفران العشير، عن ابن عباس، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أريت النار فإذا أكثر أهلها النساء، يكفرن» قيل: أيكفرن بالله؟ قال: ” يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر، ثم رأت منك شيئا، قالت: ما رأيت منك خيرا قط ” متفق عليه
السبب السابع/ القناعة، وعدم المنافسة للآخرين، فمن أشد ما يفسد الحياة الزوجية غيرة النساء بعضهن من بعض، فكلما رأت المرأة ما عند غيرها تشوفت له نفسها، وندبت حظها وتسخطت لأنه ليس عندها، وهكذا …
وكان الواجب أن تشكر ما عندها من النعم، وتكبره في عينيها ونفسها، ولا تنظر لما عند غيرها، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انظروا إلى من أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم» رواه مسلم
علمًا أن الكذب بين النساء في هذا كثير فتدعي إحداهنّ أنه فُعل لها كذا وكذا، وهي كاذبة
السبب الثامن / الرغبة في الإصلاح إذا وقعت بينهما خصومة ونزاع، قال تعالى {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} فإن الرغبة في الإصلاح سبب للإنصاف والتنازل واللين مما يرجع الحياة الزوجية.
السبب التاسع / الدعاء، فهو أعظم وأسهل سبب وهو مفتاح لخير الدنيا والآخرة، قال تعالى {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}.
أسأل الله أن يؤلف بين الأزواج، ويزيدهم ألفة ورحمة، ويجعل زواجهم سعادة وطاعة .
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية/
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:
فإن أعظم سبب للنجاح والفلاح في الدنيا والآخرة طاعةُ الله، وعكسه معصيةُ الله، فكل بلاء سببه الذنوب والمعاصي، {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وقال {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
حتى بسبب الذنوب والمعاصي فسد طعام بني إسرائيل، وذلك أنهم لما عصوا الله في ادخار المّن والسلوى كان من عقوبة ذلك أن خُبث الطعام وخنز اللحم، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” لولا بنو إسرائيل، لم يخبث الطعام، ولم يخنز اللحم، ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر ” متفق عليه واللفظ لمسلم.
ولقد قال بعض السلف: إني لأرى أثر الذنب في ولدي وزوجي ودابتي .
فاتقوا الله في مأكلكم ومشربكم، وسمعكم وبصركم، وأيديكم وأرجلكم، ومكسبكم ومالكم.
اتقوا الله في نواياكم وأفعالكم، وتذكروا قول الله تعالى {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}.
اللهم ولا أيمًا وأعزب إلا زوجته، ولا ذرية صالحة إلا رزقته،
اللهم اجعل زواج المسلمين زواج خير وبركة وتعاون على البر والتقوى،
اللهم ألف بين الأزواج واجعله مودة ورحمة.
د. عبدالعزيز بن ريس الريس