من تحليل الخمر إلى تحليل الزنا
هناك أفكار مستوردة وفلسفات وافدة، اغترّ بها بعض أبنائنا وبناتنا، وأحسنوا الظنّ بدعاتها والمبشرين بأفكارها، يجب علينا تجلية حقيقتها، وكشف زيوفها.
هذه الأفكار من حيث هي في بيئتها، وفي أصل فلسفتها، وفي عقول منتجيها، تقوم على أفكار ومبادئ ومنظومات مباينة ومنابذة ومتصادمة مع الدين أيّ دين.
والقائمون على نشر هذه الأفكار يعلمون أنّ في دين الإسلام نصوصا محكمة لها قداستها ومثابتها في قلوب المسلمين، لا يمكن لهؤلاء أن يحرثوا تربة أفكارهم، ويغرسوا نبتتها، ويهيئوا بيئتها إلا بتجاوز تلك النصوص الدينية أو تحييدها على الأقلّ، وهذه مشكلة عويصة بالنسبة لهم، لأن أفكارهم لا يمكن أن تتقبلها المجتمعات المحافظة إلا ضمن المشروعية الإسلامية.
لأنّ هناك أحكاما مجمعا عليها بين المسلمين مهما اختلفت مذاهبهم وأطيافهم، إذا أراد أصحاب هذه الأفكار المستوردة من الناس تقبلها والتسامح معها، يجب عليهم حينذاك الرجوع للنصوص المؤسسة وإعادة إنتاج معانيها، ثم يخرجوا لنا باجتهادات (طلعات) (خبطات) جديدة، يستطيعون بناء على نتائجها نقل هذه الأحكام التي يريدون زحزحتها من دائرة القطعيّ المجزوم به إلى الظنّي المحتمل الذي يدور بين الراجح والمرجوح والصواب والخطأ.
وقد اجتهد أكثرهم في مسألة الردة عن الإسلام وتقبلها والتسامح مع المعلنين والمصرحين بها، لأنهم يعدّونها الأرضية التي يمكن لهم التحرك فيها، فقبول المجتمع بوجودها ومهادنة أصحابها، سيمكّنهم أن يجتهدوا في الشريعة -لو صح أن يُسمى هذا اجتهادا- ويعبثوا بمحكماتها، ويغيروا معالمها كيفما شاءوا دون محاسبة أو مساءلة أو خوف من وقع سياط التكفير والتضليل.
والخمر مثله مثل غيره لا يمكن أن تتقبل هذه الفلسفات المادية الليبرالية منعه وتحريمه، لأن المحكم في أصل الليبرالية والمبدأ الذي لا يمكن المساومة حوله هو الحرية أي أن تقول أو تفعل ما تريد بما لا يكون فيه تعدّ ولا مساس بحرية وحقوق الآخرين.
فكلّ المعاني والدلالات والأحكام بل وكلّ المقدسات مهما كانت قدسيتها وجلالتها وعظمتها عند أصحابها تظلّ متشابهة، وتبقى الحرية هي المحكم الذي يجب أن لا تختلف الإنسانية حوله.
إذن لا بدّ أن يعتمّ دعاةُ هذه الأفكار الحادثة بعمامة الفقيه، ويتحدثون بلغة المجتهدين، ويمارسون صنعتهم، ويفتّشون في تراثهم، ليتمكنوا من تسويغ مطالبهم وتحقيق رغباتهم.
فإذا كان علماء الدين يقولون بالنسخ، وأنّ الآيات التي لم تنصّ صراحة على تحريم الخمر في كلّ الأوقات منسوخة، وأنها نزلت في سياق التدرج والوصول إلى حكم تحريم الخمر القاطع، فما المانع من إبطال النسخ والتشكيك في وجوده، وأنه يجوز بناء على ظاهر بعض الآيات للإنسان أن يتعاطى الخمر في غير أوقات الصلاة وهكذا..
ليس المهم هنا التكييف الفقهي والتخريج الأصولي المهم هو القول بجواز شرب الخمر والتخلص من سطوة التحريم.
وكذلك في تحريم الزنا برضا الطرفين، لا يمكن عند أرباب هذا الفكر المنحرف قبول هذا الحكم ولا التصالح معه، إذن لا بد أن يجنحوا إلى ادعاء التضلع من علم المقاصد والبناء على القراءة الكلية لتصرفات الشريعة، والنظر في علل ومناسبات بل وروح النصوص بدلا من أن يبقوا جامدين على فهوم ماضوية آبائية قروسطية حتى يتمكنوا تحت هذه الدعوى الرائجة من الالتفاف على هذه النصوص المانعة والتحايل على معانيها الواضحة.
فالزنا جاء تحريمه لسببين اثنين:
الأول: اختلاط الأنساب.
الثاني: انتشار الأمراض المعدية.
أما السبب الأول، فإننا نتمكن من منع وقوع الحمل بالأدوات والعقاقير الطبية المانعة من تخلّق الأجنّة، ونستطيع كذلك معرفة صحّة الأنساب وثبوت دعواها باستخدام الوسائل الطبية الحديثة، فلم تعد هذه مشكلة أصلا، فلا خوف على الأنساب ولا خشية من اختلاطها في الزمن المعاصر، فانتفت هذه العلّة التي تعلّق بها التحريم لأزمنة خلت.
الثاني: أنّه يمكن ضمان السلامة من انتشار الأمراض المعدية والحدّ من انتقالها، باستخدام وسائل الوقاية الحديثة من العدوى عند المواقعة.
إذن استطاعوا بهذه الخبطة السريعة والحبكة اللطيفة تحليل الزنا ولم يعد فاحشة ممقوتة في نظرهم، بل لم يعد فيه حرج أصلا.
ما أجرأ هؤلاء على الشريعة، وما أعظم جنايتهم وتعديهم عليها ..!!
وكما نعلم أنّ حقيقة الحكم الشرعي لا تعني المؤسسين لهذه الأفكار، ولا يهمهم أمرها، إنما المقصود إيجاد حلّ ومخرج لهذه الممانعة المجتمعية الصلبة التي يتهيبونها، ويخافون استثارة غيرتها.
كتبه محمد بن علي الجوني