يقول السائل: من كان مُعرِضًا عن تعلُّم الحق، مقصِّرًا في طلبه مع توفر أسباب، ثم وقع في أمرٍ مُكفِّر، هل يكفر أم أنه عاصٍ مُذنِب فقط؟
الجواب:
إن الذي يُعذَر بجهله، هو من لم يكن مفرِّطًا.
أما المفرِّط في طلب الحق فإن عليه وِزرَين وإثمين:
الوزر الأول: في إعراضه عن طلب الحق.
والوزر الثاني: في وقوعه فيما حرم الله.
وقد ذكر هذا التأصيل القرافي في كتابه “الفروق”، وأيضًا ذكره ابن عبد البر في كتابه “التمهيد”: أن المعرِض عن تعلم الحق آثم، وذكر ابن اللحام في “قواعده”.
لكن ينبغي أن يُعرَف، مَن الْمُعرِض؟ فليس كُلُّ من لم يتعلم الحق يكون معرِضًا، فإن هناك أقوامًا كثيرين، لا يتعلمون الحق؛ لظنهم أنهم على الحق، فلذلك لم يتعلموه، ولم يسألوا عن خلافه.
أما من كان يحتمل أنه على خطأ، فلا يسمع الحق حتى لا يقتنع به، فإن هذا هو المُعرِض، وكذلك من سمع الحق وتركه، مع قناعته به، لأن أشياخه على خلاف ذلك، فهذا أيضًا مُعرِض، كما قال سبحانه{وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} [الأحزاب:67].
وقد أشار إلى هذا المعنى الإمام ابن القيم-رحمه الله تعالى-، وبيَّن أن المعرض عن الحق هو الذي ظهر له الحق وتركه إتباعًا لأشياخه.
فالمقصود: أن يظهر له الحق.
أما أن يستمر على الباطل ولو كان في بلدٍ يظهر فيها العِلم والهدى لكن يظن نفسه على حقٍ، فإن مثل هذا ليس معرِضًا، ومهما كان الحق والعلم ظاهرًا في بلدٍ فإنه لا يمكن أن يكون ظاهرًا كظهوره في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفي عهد الخلفاء الراشدين، وقد حصل من الصحابة من استحلَّ شُربَ الخمر كقدامة بن مظعون البدري –رضي الله عنه-، وقد استحلَّها مع أناس من التابعين، كما ثبت ذلك عند عبد الرزاق، وقد عذرهم عمر؛ لأنهم كانوا متأولين.
وكذلك في عهد عمر-رضي الله عنه- استحلت امرأة الزنا، فعذرها عثمان وعمر، وقال عثمان: إنها تستهل به، أي: تتحدث به من غير مبالاة، إلى غير ذلك.
فهذه هي أعز عصور الإسلام وأظهرها وأقواها، والحق فيها ظاهرٌ أكثر من غيرها، ومع ذلك حصل الجهل.
فإذًا ظهور العلم في بلد، وعدم ظهور العلم ليس كافيًا في أن يكون الرجل مفرِّطًا.
وقد يقول قائل: تيسَّرت القنوات التي تنشر الخير، وكذلك تيسرت الإذاعات التي تنشر الخير.
فيقال: وإن كان كذلك فإنه كما تيسَّرت قنوات وإذاعات في نشر الهدى إلا أنه في المقابل قد وُجِدت قنوات وإذاعات بأضعاف مضاعفة قد نشرت الباطل والضلال، مما يزيد الأمر التباسًا وخطأً عند كثير من المسلمين.