موعظةُ النَّبيه في تَركِ ما لا يَعنيه
الحمدُ لله ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رسول الله ، وآلِه وصحبِه ومَن والاه ، واتَّبعَ هُداه إلى يوم نلقاه …. أمَّا بعدُ :
🔸 قالَ رسول الله ﷺ : « مِنْ حُسنِ إسلام المرءِ تركُه ما لا يعنيه »
[ صحيح سنن الترمذي (٢٣١٧) ]
▪️ هذا الحديثُ العظيمُ من جوامعِ الكَلِمِ ٬ وأحسَنِ الكَلام .
🔹 قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله : كلامُهُ هذا ﷺ مِنَ الكلامِ الجامعِ للمعاني الكثيرةِ الجليلة ، في الألفاظِ القليلةِ ، وهو ممَّا لم يَقلْهُ أحدٌ قبله ، واللهُ أعلم .
[ التمهيد (٩/١٩٩) ]
▪️ والحديثُ من جوامعِ أصولِ الأخلاقِ ٬ ومحاسِنِ السِّيَر ..
🔹 قالَ الحافظُ ابنُ رجبٍ رحمه الله : وهذا الحديثُ أصلٌ عظيمٌ من أصول الأدب .
وقد حكى الإمامُ أبو عَمرِو بنُ الصَّلاح ، عن أبي محمَّدِ بنِ أبي زيدٍ ٬ إمام المالكيَّة في زمانِه أنَّه قالَ : جِماعُ آدابِ الخير وأزمَّتِه تتفرَّعُ من أربعةِ أحاديث :
١) قولُ النَّبيِّ ﷺ : « مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقُلْ خيرًا ٬ أو ليَصمُت »
٢) وقولُه ﷺ : « مِن حُسن إسلام المرء تركُه ما لا يَعنيه »
٣) وقولُه ﷺ للذي اختصر له في الوصيَّة : « لا تَغضب »
٤) وقولُه ﷺ : « المؤمنُ يحبُّ لأخيه ما يُحبُّ لنفْسه »
[ جامع العلوم والحكم (٣٠٨-٣٠٩) ]
▪️ والحديثُ أصلٌ من أصولِ الإسلامِ ، وقاعدةٌ من قواعدِه …
🔹 قالَ الإمامُ أبو داود السِّجستانيُّ رحمه الله : نظرتُ في الحديث المُسنَد ؛ فإذا هو أربعةُ آلافِ حديثٍ ، ثمَّ نظرتُ فإذا مَدار الأربعةِ آلافِ حديثٍ على أربعةِ أحاديثَ :
١) حديثُ النُّعمانِ بن بشيرٍ : « الحلالُ بيِّنٌ والحرامُ بيِّنٌ »
٢) وحديثُ عمرَ : « إنَّما الأعمالُ بالنِّيات »
٣) وحديثُ أبي هريرةَ : « إنًَ الله طيِّبٌ لا يَقبلُ إلَّا طيِّبًا ، وإنَّ اللهَ أَمَرَ المؤمنينَ بما أَمَرَ به المُرسَلين » الحديث .
٤) وحديثُ : « مِن حُسن إسلام المرء تركُه ما لا يَعنيه »
قال : فكلُّ حديثٍ من هذه رُبُعُ العِلم .
وقالَ رحمه الله : كتبتُ عن رسول الله ﷺ خَمس مئةِ ألفِ حديثٍ ، انتخبتُ منها ما ضمَّنتُه هذا الكتابَ ( يعني كتاب السُّنن ) جمعتُ فيه أربعة آلافٍ وثمانمئةِ حديثٍ ، ويكفي الإنسان لدِينه من ذلك أربعةُ أحاديث :
١) أحدُها قولُه ﷺ : « إنَّما الأعمالُ بالنِّيات »
٢) والثَّاني قوله ﷺ : « مِن حُسن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه »
٣) والثَّالث قوله ﷺ : « لا يكون المؤمنُ مؤمنًا حتَّى لا يَرضى لأخيه إلَّا ما يَرضى لنفْسه »
٤) والرَّابع قولُه ﷺ : « الحلالُ بيِّنٌ ، والحرامُ بيِّنٌ »
[ جامع العلوم والحكم (٥٨-٥٩) ]
وقالَ الإمامُ الشَّافعيُّ رحمه الله :
🔸 عُمدةُ الخَيرِ عندَنا كلماتٌ
أربعٌ قالَهنَّ خيرُ البريَّه
🔸 اتَّقِ الشِّبُهاتِ وازْهَد ودَعْ ما
ليسَ يَعنيكَ واعْمَلنْ بِنيَّه
[ مشكاة المصابيح (١٠/٣١٢٥) ]
▪️ والحديثُ رايةٌ عاليةٌ في طريق أهلِ الزُّهدِ والوَرع :
🔹 قالَ الأميرُ الصَّنعانيُّ رحمه الله : قد جَمع ﷺ الورعَ كلَّهُ في كلمةٍ واحدةٍ فقالَ : « مِن حُسن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه » فهذا يعمُّ التَّركَ لما لا يَعني من الكلامِ ٬ والنَّظرِ ٬ والاستماعِ ، والبَطشِ ٬ والمَشيِ ٬ والفِكرِ .. وسائر الحركات الباطنة والظَّاهرة ؛ فهذه الكلمةُ شافيةٌ في الوَرع .
[ التَّحبير لإيضاح معاني التَّيسير (٤/٥٧٣) ]
🔹 وقال الحسن البِصريُّ رحمه الله : يا عجبًا لابنِ آدمَ ، حافِظاهُ على رأسِهِ ، لسانُهُ قلَمُهُما ، ورِيقُهُ مِدادُهُما ، وهو بينَ ذلكَ يتكلَّمُ فيما لا يَعنيه !
[ الزُّهد للإمام أحمد (٤٣) ]
▪️ والحديثُ دالٌّ بمَنطوقِه على أنَّ تَركَ ما لا يعني المسلمَ مَعدود في حُسن إسلامِه ، ودالٌّ بمَفهومِه على أنَّ فعل ما لا يعني المسلمَ مَعدودٌ في قُبحِ إسلامِه ؛ فمُستَقلٌّ ومُستكثِر !
🔹 قالَ الأميرُ الصَّنعانيُّ رحمه الله : وهذا حديثٌ جليلٌ جامعٌ نافعٌ .. يَدخلُ تحتَه كلُّ أحوالِ العبد .
[ التَّنوير شرح الجامع الصَّغير (٩/٥٨٩) ]
▪️ فمَن أرادَ اللهُ به خيرًا شَغله فيما يَعنيه ، والعكسُ بالعكس !
🔹 قالَ الحسَنُ البِصريُّ رحمه الله : مِن علامةِ إعراضِ اللهِ تعالى عن العبد أن يَجعلَ شُغلَه فيما لا يَعنيه !
[ جامع العلوم والحكم (٣١٦) ]
وقالَ محمَّدُ بنُ عليٍّ رحمه الله : كفى عيبًًا أنْ يُبصرَ العبدُ من النَّاسِ ما يَعمى عليه من نَفْسِه ، وأنْ يُؤذي جليسَهُ فيما لا يَعنيه .
[ الصَّمت لابن أبي الدنيا (٩٨) ]
▪️ ولذلكَ كانَ الصَّمتُ دأْبُ الصَّالحينَ ؛ إلَّا إذا كانَ الكلامُ خيرًا من السُّكوت :
🔹 قالَ اللهُ تعالى : { لا خَيرَ في كثيرٍ مِن نَجواهُم إلَّا مَن أمر بصَدقةٍ أو معروفٍ أو إصلاحٍ بين النَّاس }
🔹 قالَ عُمرُ بنُ عبدِ العزيزِ رحمه الله : مَن عَدَّ كلامَهُ مِن عملِه ، قَلَّ كلامُهُ إلَّا فيما يعنيه .
[ تاريخ دمشق (48/117) ]
🔹 وقال سهل بن عبد الله رحمه الله : مَن تكلَّمَ فيما لا يَعنيه ، حُرِمَ الصَّدقَ .
🔹 وكان الإمامُ مالكٌ يَعيبُ كثرةَ الكلامِ ؛ فيقولُ رحمه الله : لا يُوجدُ إلَّا في النِّساءِ أو الضُّعفاء .
[ الآداب الشَّرعية (١/٣٧) ]
🔹 وقالَ محمد بن الفضل الحارثي رحمه الله : كان يُقالُ : كثرةُ الكلام تُذهِبُ الوقار .
[ حسن السَّمت في الصَّمت للسُّيوطي (٢٨) ]
💡 والحُكم فيما يَعني المسلمَ ممَّا لا يَعنيه ٬ مَرجعُهُ إلى أحكام الشَّريعةِ ، وليسَ الأذواقُ والأهواءُ !
🔹 قالَ الحافظُ ابنُ رجبٍ رحمه الله : وليسَ المُراد أنَّه يَتركُ ما لا عِنايةَ له به ٬ ولا إرادةَ ٬ بحكم الهوى ، وطلبَ النَّفْس ؛ بل بحكم الشَّرعِ والإسلام ، ولهذا جعلَهُ من حُسن الإسلام .
[ جامع العلوم والحكم (309) ]
🔹 وقالَ الإمامُ الألبانيُّ رحمه الله : ‹ يجبُ أن نُفرِّقَ بين الأمور الخاصَّةِ المُتعلِّقةِ بالإنسان ؛ فهُنا لا ينبغي للمُسلم أنْ يَتداخلَ في شُؤونِهِ الخاصَّة ؛ أمَّا إذا كان المسلم يقعُ في خطأٍ ؛ فعلى المسلم الَّذي يَرى خطئَهُ هذا أن يَهتمَّ به ، وأن يذكِّرَه بخطئه ، ولكن بالَّتي هي أحسنُ ، كما هي القاعدةُ القرآنيَّةُ : { ادعُ إلى سبيل ربِّك بالحكمة والموعظة الحسَنة وجادلهم بالَّتي هي أحسن }
[ سلسلة الهدى والنور (3/220) ]
🔹 تَكلَّمْ وسَدِّدْ ما اسْتَطعتَ فإِنَّما
كلامُكَ حَيٌّ والسُّكوتُ جَمادُ
🔹 فإنْ لَم تَجِدْ قَولًا سَديدًا تَقولُهُ
فَصمتُكَ عَن غَيرِ السَّدادِ سَدادُ
أسألُ اللهَ أنْ يهديَنا لأحسن الأخلاق ٬ لا يَهدي لأحسنها إلَّا هو ؛ والحمدُ لله ربِّ العالَمين .
أخوكم فراس الرفاعي
3 رجب 1443 هـ