*موقعنا في مذهب الإمام مالك*
*كتبه : د.عارف بن عوض الركابي*
_نشر بصحيفة الانتباهة يوم الأحد غرة محرم 1438هـ_
*هذا المقال بمثابة (استراحة) في ثنايا سلسلة مقالات : (الإمام مالك بين《السلفيين》و《المتصوفة》) فأقول :*
إذا لقيت كثيرا من عوام الباكستان أو الأفغان أو البنغلاديش أو الأتراك أو غيرها ، فإنك تجده يعرف كثيرا من التفاصيل والجزئيات في المذهب الحنفي الذي هو المذهب السائد في ديارهم ــ أعني جوانب الفقه التي يحتاجها ــ ، وهكذا إذا لقيت عامياً من بلاد أندونيسيا كمثال آخر فإنك تجده يعرف تفاصيل دقيقة في الفقه الشافعي، وعلى هذا المنوال تجد الحال في كثير من البلاد.
أما إذا سألت في بلادنا السودان عن المذهب المالكي فإنك قد لا تجد ما تريد لدى بعض الدارسين والمتخصصين فضلاً عن عامة الناس!!
ومع ذلك يقولون : «نحن مالكية!! »
ولا أقصد – هنا – معرفة الأمور الدقيقة في فقه الإمام مالك ومذهبه.. وإنما أعني القضايا الكلية والقواعد العامة وبعض المسائل المشهورة عن المذهب المالكي، وهي مما وافق فيها المذهب الحق، إذ الإمام مالك وغيره من الأئمة ممن كانوا قبله أو بعده مجمعون على أن *كلاً يؤخذ من قوله ويرد، إلاّ النبي عليه الصلاة والسلام*.
*وإن أئمة الهدى علماء الأمة قد حذروا الناس من الأخذ بأقوالهم إذا خالفت الحق*
ولا بأس من تناول مسائل متنوعة ومتفرقة للاستشهاد لما ذكرته :
إن المذهب المالكي من المشهور والمعلوم والمستفيض أنه يحرم مشاركة النصارى في أعيادهم، وهو القول الذي اتفق عليه العلماء كما نقل ذلك ابن القيم في كتابه«أحكام أهل الذمة»، وقد نقل ابن الحاج في كتابه «المدخل» أن هذا هو قول علماء المالكية فقال: «لا يَحِلُّ للمسلمينَ أن يبيعوا للنصارى شيئاً من مصلحةِ عيدِهمْ، لا لحْماً ولا إداماً ولا ثوباً… ولا يعانون على شيءٍ من دينهم . لأن ذلك من التعظيم لشركهم وعونهم على كفرهم ، وينبغي للسلاطين أن ينهوا المسلمين عن ذلك. وهو قولُ مالكٍ وغيرهِ ، لم أعلمْ أحداً اختلفَ في ذلكَ »
وكلام علماء المذهب المالكي بالتفصيل في هذه القضية وبيان حكم المشاركة والتهنئة أمر معلوم، ولكن كما يقال: مالك ومذهبه في جهة… ومجتمعنا في جهة أخرى..
.. لقد تميز المذهب المالكي في أمور عديدة، وإني أحمد الله الذي وفقني لأن تكون رسالتي في برنامج الماجستير في جانب علمي لهذا الإمام العظيم، والمؤسف حقاً أنك تجد كثيرا من الناس في مجتمعنا الذي يدّعي أنه «مالكي» يخالفونها مخالفة كبيرة بل أحيانا يناقضونها، ولا بأس أن أضرب أمثلة بالأمور التالية :
لقد كان الإمام مالك ـ رحمه الله ـ إماماً في التمسك بالسنة والحث عليها والنهي عن البدع والمحدثات، ينقل الشاطبي عنه في «الاعتصام» قوله: «ما كان من كلامي موافقاً للكتاب والسنة فخذوا به، وما لم يوافق فاتركوه»، ومن أقوال مالك المأثورة فيما يرويه عنه البيهقي: «السنة سفينة نوح من ركبها نجا ومن تركها غرق»، وكان يحذر من أهل الأهواء والبدع، وكثيراً ما يردد قول القائل:
*وخير أمور الدين ما كان سنة *** *وشر الأمور المحدثات البدائع*
لقد كان الإمام مالك رحمه الله، حريصاً على العمل بالكتاب والسنة وعدم مخالفة كتاب الله تعالى وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو العمل بالعلم، وهو ثمرة العلم،
وقد نقل عنه المحقق الأصولي الفقيه القرافي ـ رحمه الله ـ في كتاب«الفروق» نهيه عن دعاء الإمام بعد الصلوات المكتوبات جهرة مع المصلين، وعضّد القرافي نهي الإمام مالك بنهي الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن ذلك، ولا أدري من أين قدمت إلينا هذه البدعة المحدثة المنتشرة في كثير من المساجد حتى غدت وكأنها سنة ثابتة؟! ومع ذلك بعض من يفعلها يرى أنه يتبع المذهب المالكي!!
وقد جاء في المدونة فيما يرويه سحنون نهي الإمام مالك الصريح عن البناء على القبور، والأمر بتسويتها، انطلاقاً من الأحاديث الصريحة والكثيرة في النهي عن هذا المنكر العظيم، وقد كان من آخر وصايا النبي عليه الصلاة والسلام وهو على فراش الموت، النهي عن اتخاذ القبور مساجد، مبيناً عليه الصلاة والسلام أن هذا هو فعل اليهود والنصارى، وهو من أسباب لعنة الله عليهم، والعياذ بالله.
وقد نقلت في حلقات سابقة عن «الكسر الربوي المنتشر في بعض أسواقنا»، نقلاً من بعض الأئمة توضح أن مذهب الإمام مالك تميز بإغلاقه أبواب التحايل في العقود، فهو أعدل المذاهب وأميزها في باب البيوع، ومع ذلك فحال كثير من أسواقنا يندى له الجبين، من الربا الصراح وأنواع ما يسمى بــ «الكسر الربوي» حتى امتلأت سجون الشيكات بالرجال والنساء. يقول الحافظ شمس الدين الذهبي الشافعي ــ رحمه الله ــ في كتابه «سير أعلام النبلاء»: «وبكل حال ، فإلى فقه مالك المنتهى، فعامة آرائه مسددة، ولو لم يكن له إلا حسم مادة الحيل ومراعاة المقاصد لكفاه. ومذهبه قد ملأ المغرب والأندلس، وكثيراً من بلاد مصر وبعض الشام، واليمن والسودان، وبالبصرة وبغداد والكوفة، وبعض خراسان». وقد أثنى كذلك ابن تيمية على مذهب الإمام مالك وبيّن أنه أعدل المذاهب في باب البيوع وذلك في كتابه«القواعد النورانية »
كما كان الإمام مالك رحمه الله يدافع عن الصحابة الكرام الذين صحبوا النبي ونقلوا لنا الكتاب والسنة، ويحث على محبتهم عملاً بما جاء في القرآن الكريم من الثناء عليهم وتزكيتهم، وعملاً بسنة النبي عليه الصلاة والسلام الذي أمر بمحبتهم وحذر من سب أحد منهم وعملاً بإجماع الأمة على ذلك. ومن أقوال الإمام مالك في ذلك قوله: «كان السلف يعلمون أولادهم حب أبي بكر وعمر، كما يعلمون السورة من القرآن». وقال عن الرافضة «الشيعة» الذين يسبون الصحابة الكرام: «إنما هؤلاء قوم أرادوا القدح في النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يمكنهم ذلك، فقدحوا في أصحابه حتى يقال: رجل سوء ولو كان رجلاً صالحاً لكان أصحابه صالحين »
وكان لا يرى أن يعطى من الفيء من يسب الصحابة الكرام ويستدل بقوله تعالى: «ليغيظ بهم الكفار »
هذا شيء من تراث إمام مذهب هذه البلاد، والمؤسف أن تراثه في وادٍ والواقع في وادٍ آخر في أمور كثيرة وقضايا مهمة!!
فكيف بهذا الإمام رحمه الله إذا رأى بعض من ينتسبون إلى الأخذ من معينه يغني رجالهم ونساؤهم بالموسيقى، ويصرفون عليها الأموال التي هم بحاجة إليها.. ويضيفون إلى ذلك أحياناً ما يسمى بالمدائح النبوية؟! ومعلوم رأيه في الموسيقى والمعازف، ووصفه لمن يفعلون ذلك بالأوصاف المناسبة لحالهم، كما أن موقفه من الغلو في النبي عليه الصلاة والسلام من أوضح الواضحات!!
*إن الخلل واضح وكبير.. *
*ولا بد من السعي في نشر العلم الشرعي الموروث عن هذا الإمام وعلمه وعلم تلاميذه، ولا يجدي هذا الانتساب بالاسم فقط.. كما لا يجدي أن يكون العمل بتراثه فيما وافق الأهواء والأمزجة فقط.. ولعل هناك جهات ومؤسسات علمية وكليات شرعية يناط بها القيام بهذا الدور، فنتمنى أن نرى شيئاً موفقاً في ذلك..*
والموفق من وفقه الله.