نعمة الفراغ في نفسك وولدك


الخطبة الأولى:

الحمدُ للهِ فالِقِ الحبِّ والنوى، مُنزلِ التوراةِ والإنجيل والفُرقانِ، يُولج الليلَ في النهارِ ويُولجُ النهارَ في الليلِ، وسخَّرَ الشمسَ والقمرَ كُلٌّ يجري لأجلٍ مسمَّى، ألا هو العزيزُ الغفَّارُ.

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21-22].

أما بعد:

فإنَّ مِن أعظمِ النِّعَمِ نعمةَ الفراغِ، ومعنى الفراغِ أن يكونَ عندَ الإنسانِ وقتٌ يستطيعُ أن يستَعمِلَهُ فيما يُريدُ مِن خيرِ الدنيا والآخرةِ.

وإذا أردتَ أن تتأكدَ مِن هذه النعمةِ ومِن عظيمِ مكانِهَا، قارِن بينَ رجلينِ: رجلٍ هجَمَتْ عليهِ مصائبُ الدنيا، فأصبحَ مَشغولًا بكشفِهَا ودفعِها، فما إن يُصبِحْ إلا وهوَ مهمومٌ، ويسعى ليلَهُ ونهارَهُ لإزالَتِها، ورجلٍ اتَّسعَ وقتُهُ فأصبحَ عِندهُ فراغٌ، يستطيعُ أن يستعمِلَه فيما ينفعُهُ في دينِهِ ودنياهُ.

وكثيرٌ مِن الناسِ مُضيِّعونَ لهذِهِ النعمةِ، قَدْ أهدَروا ليلَهُم في السَّهَرِ فيما لا ينفعُ، وأهرَقُوا نهارَهُم فيما لا يعودُ بفائدةٍ، بل بضياعِ أوقاتٍ في وسائِلِ التواصُلِ الاجتماعيِّ، كمنصةِ (إكس) و(فيسبوك) و(واتساب) وغيرِ ذلكَ مِن قيلٍ وقالٍ، ومِن سهرٍ في استراحاتٍ، وعلى لُعَبٍ إلكترونيةٍ أو غيرِ ذلكَ.

روَى الإمامُ البخاريُّ عَن عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ -رضي الله عنهما- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ»، إنَّ كثيرًا مِن الناسِ خاسرونَ في نعمةِ الصحةِ والفراغِ، وحالهُ كحالِ الذي اشترَى سِلعةً بثمنٍ عالٍ وغالٍ، وحقيقتُها على خلافِ ذلك، فهو مغبونٌ خاسرٌ.

فما أكثرَ المغبونينَ والمُضيِّعينَ لهذهِ النعمةِ، وهي نعمةُ الفراغِ، تأمَّل قولهُ ﷺ: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ».

وإنَّ حقيقةَ فراغِ الوقتِ فراغُ العُمرِ والحياةِ، وما أكثرَ الناسَ الذينَ لا يعرفونَ لهذا العُمُرِ والوقتِ قيمتَهُ، فيُصبِحُ ويُمسي على تقطيعِهِ، وتضييعِهِ، وقتلِهِ، وهذا مِن الخطأ العظيمِ والهلاكِ الجسيمِ.

إنَّ ربنا سبحانهُ وتعالى أقسمَ بهذا الوقتِ، وهوَ سبحانهُ عظيمٌ لا يُقسمُ إلا بعظيمٍ، قالَ سبحانهُ: ﴿وَالْعَصْرِ﴾، وقال: ﴿وَالضُّحَى﴾، وقال: ﴿وَاللَّيْلِ﴾ …إلى غيرِ ذلك مِن القسمِ الكثيرِ بالوقتِ، وبالعُمُرِ، ونحنُ مُفرِّطونَ في هذا الوقتِ والعُمُرِ.

إخوةَ الإيمانِ، إنَّ الوقتَ والعمُرَ والفراغَ أمانةٌ سنُسألُ عنها يومَ القيامةِ، روَى الترمذيُّ وصحَّحَهُ عن أبي برزَةَ الأسلميِّ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلاَهُ».

فنحنُ مسؤولونَ، وأيمُ اللهِ مسؤولونَ عن هذا الفراغِ، والعُمُرِ، إنَّ الأيامَ تمضي، والسنينَ تذهبُ، فما أسرعَ ذهابَها وانقِضَاءَها إن لم يستغَلَّ فيما ينفعُ في أمرِ الدِّينِ والدُّنيا.

والنفسُ تحتاجُ إلى مجاهدةٍ، وأن تُؤخذَ بالحزمِ، واللهُ يقول: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت: 69] والنفسُ تدعو إلى الدَّعةِ، وإلى الراحةِ، وإلى تضييعِ الفراغِ، وإلى الإهمالِ، لِذا ما أكثرَ الذينَ لم يستفيدوا من زمانهِم فظهرَ أثرُ ذلك عليهِم في دينهِم ودنياهُم.

قالَ الإمامُ ابنُ القيمِ -رحمه الله تعالى- في كتابِهِ (مدارج السالكين): “وأجمعَ عقلاءُ كلِ أمةٍ على أنَّ النعيمَ لا يدركُ بالنعيمِ، وأنَّ من رافقَ الراحةَ فارَقَ الراحةَ“، ونقَلَ عنِ الإمامِ الشافعيِّ -رحمه الله تعالى- أنهُ قالَ: “صحبتُ أقوامًا فتعلمتُ منهم أمرين: الوقتُ كالسيفِ إن قطعتهُ وإلا قطعَكَ، ونفسُك إن لم تُشغِلها بالحقِّ أشغلَتكَ بالباطِلِ”. وصدقَوا، فتأمَّل هذا في نفسِكَ.

فالوقتُ إن لم تستعمِلْهُ في الخيرِ ذهبَ عليكَ، والنفسُ إن لم تُستعمَلْ في الحقِّ استُعمِلَتْ في الباطلِ، فالأمرُ يحتاجُ إلى جهادٍ ومُجاهدةٍ، ونعمةُ الوقتِ تحتاجُ لشُكرٍ، وشكرُها بأمورٍ كثيرةٍ من أعظمِها ألا نعصيَ اللهَ فيهِ، ومن شكرِها أنْ يُستعمَلَ الفراغُ فيما ينفعُ مِن أمرِ الدِّينِ والدُّنيا.

وإنَّ مما يُعينُ على ذلكَ -بعدَ الاستِعانةِ باللهِ والدُّعاءِ-، أن يجعلَ الإنسانُ لنفسِهِ أعمالًا راتبةً يُجاهِدُ نفسهُ عليها، جاهِدْ نفسَكَ على الصلواتِ الخمسِ في المساجِدِ، جاهِدْ نفسَكَ على سُننِ الرواتبِ، جاهدْ نفسَكَ على أذكارِ الصباحِ والمساءِ، جاهدْ نفسَكَ على وِردٍ لا تتركهُ مِن القرآنِ، جاهدْ نفسَكَ على أن تقومَ ما تيسَّرَ مِن الليلِ، جاهدْ نفسكَ على أن يكونَ لكَ وِردٌ يوميٌّ مِن الذِّكرِ روَى ابنُ سعدٍ بإسنادٍ صحيحٍ عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- أنه قالَ: إني لأسبِّحُ اللهَ في كُلِّ يومٍ اثنتَي عشرةَ ألفَ تسبيحةً.

نحنُ لا نستطيعُ هذا لكسلِنا وضعفِ نفوسِنا، لكن لا أقلَّ أنْ تجعلَ لكَ وِردًا يوميًّا مِن ذكرِ اللهِ سبحانهُ.

جاهدْ نفسكَ على صِلةِ الأرحامِ، جاهدْ نفسَكَ على بِرِّ الوالدينِ، جاهدْ نفسَكَ كلَ يومٍ على قراءةِ ما تيسرَ من العلمِ الشرعي والفتاوى الشرعيةِ، جاهدْ نفسَكَ على كُلِّ خيرٍ، اجعَل لكَ أعمالًا يوميَّةً تُحاسِب نفسَكَ إذا فرَّطتَّ فيها، وتأكَّدْ أنَّ العُمُرَ يمضي، وأنَّ الزمنَ يذهبُ، وأنَّ الأيامَ شاهدةٌ لكَ أو عليكَ.

اللهُمَّ يا مَن لا إلهَ إلا أنتَ، اللهُمَّ يا رحمنُ يا رحيمُ، مُنَّ علينا باستغلالِ الأوقاتِ، وبشُكرِكَ على نعمةِ الفراغِ، بأن نستعمِلها فيما يُرضيكَ يا أرحمَ الراحمينَ.

أقولُ ما قلتُ، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم فاستغفروهُ، إنهُ هوَ الغفورُ الرحيمُ.

 

الخطبةُ الثانيةُ:

الحمدُ للهِ على نعمِهِ العظمى، حمدًا بهِ يجلو عن القلبِ العَمَى، والصلاةُ والسلامُ على عبدِهِ المصطفى، المبعوثِ بخيرِ وأتمِّ الهدى، وعلى آله وصحبه ومن بهم اقتدى، أما بعدُ:

فإنهُ مع كونِ الفراغِ نعمةً عظيمةً، إلا أنهُ بلاءٌ جسيمٌ على مَن لم يستعملْهُ ويستغلْهُ في الخيرِ، لاسيما للشبابِ في أيامِ الإجازاتِ، فإنَّ الفراغَ مَقتلَةٌ ومَهلَكةٌ.

قالَ أبو العتاهيةُ قبلَ ألفِ سنةٍ:

إنَّ الفراغَ والشبابَ والجِدَة … مُفسدةٌ للمرءِ أيُّ مفسدة

والمُرادُ بـ(الجِدَةِ) الغِنى، فإذا اجتمعَ سنُ الشبابِ مع توفرِ المالِ، والفراغِ، فإنَّه مُفسدٌ لهم غايةَ الإفسادِ.

لا يستوي شابَّانِ، شابٌ إذا نطقَ أحسنَ النطقَ، وإذا تكلَّمَ أجملَ الكلامَ، وإذا أفادَ مما عِندهُ سمعتَ آياتٍ وأحاديثَ وأشعارًا وحِكمًا وكلامًا مفيدًا، لا يستوي هذا الشابُّ بشابٍّ آخرَ لا يستطيعُ أن يُقوِّمَ لسانهُ بكلامٍ مفيدٍ، وإنما ثقافتُهُ الكلامُ السائدُ بينَ الشبابِ في الاجتماعاتِ، أذهبَ عمُرَهُ ووقتَهُ ليلَهُ ونهارَهُ في الألعابِ الإلكترونيةِ، والسهرِ فيما لا يفيدُ، بل قد يضرُ، وقتلَ نهارَهُ في النومِ، إلى غيرِ ذلكَ، فشتَّانَ بينَ هذينِ الشابينِ.

الأولُ استغلَّ شبابَهُ، وبنى نفسهُ، فأزهرَ ثقافةً وحسنًا وبهاءً، والثاني على العكسِ من ذلكَ.

أيها الشابُ، إنَّ الأمرَ عظيمٌ، أيها الشابُّ لا تغترَّ بشبابِكَ، فما أسرعَ ذهابَهُ، أيها الشابُّ إن لم تستغلَّ الشبابَ فيما ينفَعُكَ رجعَ عليكَ بما يضرُّكَ، أيها الشابُّ إنَّ أنفسَ أيامِ العُمُرِ ما تعيشُهُ مِن وقتِ الشبابِ فيا حسرتاهُ على تضييعِ هذا العُمُرِ فيما يضرُّهُ أو ما لا ينفعُهُ، فاتَّقِ اللهَ أيها الشابُّ وخُذِ العِبرةَ مِن غيرِكَ، واستَفِدْ مِن شبابِكَ في تعلُّمِ دينِكَ، في تعلُّمِ كتابِ اللهِ، في الالتحاقِ بحِلَقِ القرآنِ، في الالتحاقِ بالدروسِ العلميَّةِ، في الاستفادةِ مِن الوقتِ فيما ينفعُكَ مِن الدوراتِ التدريبيَّةِ أو غيرِ ذلكَ.

إيَّاكَ أن يذهبَ عليكَ شبابُكَ، فما أسرعَ ذهابَهُ، فهوَ ينفلتُ كلمحِ البصرِ، سُئلَ الإمامُ أحمدَ عنِ سنِ الشبابِ، فقالَ: ما شبهتُ الشبابَ إلا بشيءٍ كانَ في كُمي ثم سقط. وصدق-رحمه الله- فالشباب وإن امتدَّ فيسيرٌ.

أيها الآباءِ،

إنَّ لكم مِن الخبرةِ والمعرفةِ والتجربةِ ما ليسَ لأبنائِكم، وأنتم مسؤولونَ عنهم، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ [التحريم: 6] روَى البخاريُّ ومسلمٌ عن ابنِ عمرَ -رضي الله عنهما- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «والأبُ راعٍ في بيتهِ مسؤولٌ عن رعيَّتِهِ».

أيها الأبُ اتَّقِ اللهَ فيمَن تحتَكَ مِن الشبابِ والشابَّاتِ، وحاوِلْ أن تُعمِّرَ أوقاتَهُم بما ينفعُهُم، وكُن مُعينًا لهم في ذلكَ، وجاهِدْهُم في هذا الأمرِ، وإن صَعُبَ في ابتدائِهِ، ورأيتَ مُعارضةً وعدمَ انقيادٍ، فإنَّ الأمرَ يحتاجُ إلى استعانةٍ باللهِ ودعاءٍ وجِدٍّ واجتهادٍ وأخذٍ بالحزمِ، وأن تهيأَ لأولادِك أصحابًا وأصدقاءً جادينَ.

تعاهَدْ أبناءَكَ في حِلَقِ القرآنِ، تعاهَدْ أبناءَكَ في الدروسِ العلميَّةِ الشرعيَّةِ، تعاهَدْ أبناءَكَ بما ينفعُهُم من الدوراتِ العلميةِ النافعةِ، إلى غيرِ ذلكَ.

أما أن تهملَ من تحتَ يدِكَ فيذهبُ نهارُهُم في النومِ، وليلُهُم في السهرِ والانغراقِ في الألعابِ الإلكترونيةِ، أو وسائلِ التواصلِ الاجتماعيةِ كالواتساب وغيرِ ذلك فلا يصح بحالً، وتأكدْ أنكَ مسؤولٌ وأيمُ اللهِ، فاتَّقِ اللهَ وخُذ أبناءَكَ بالحزمِ، واستَعِن باللهَ ليُعينَكَ إنهُ أرحمُ الراحمينَ.

ثم إني أُوصي المسلمينَ أجمعينَ، ذكورًا وإناثًا، كِبارًا وصِغارًا، أن يتعاهدوا علمَهم الشرعيِّ، إنَّ هناكَ دروسًا مفيدةً في اليوتيوبِ ومواقعِ الإنترنت للعلماءِ الموثوقينَ، كالعلامةِ عبدِ العزيزِ بنِ بازٍ، والعلامةِ محمد ناصرِ الدِّينِ الألبانيِّ، والعلامةِ محمدِ بنِ صالحٍ العثيمين-رحمهم الله-، والعلامةِ صالحِ الفوزان -حفظهُ اللهُ- وغيرهِم مِن العلماءِ الموثوقينَ.

تعاهدوا أنفُسَكم في مراجعةِ التوحيدِ، وأن تسمعوا شرحَ القواعدِ الأربعِ، أو ثلاثةِ الأصولِ، أو كتابِ التوحيدِ، وكلُّها لشيخِ الإسلامِ محمدِ بنِ عبدِ الوهاب.

صدقني إنكَ ستجدُ نفسَكَ قد نسيتَ أشياءَ كثيرةً مِن أصولِ ومُسلَّماتِ دينِك، تعاهَدْ نفسَكَ أن تُراجِعَ أحكامَ الصلاةِ وأحكامَ الوُضوءِ، إلى غيرِ ذلكَ مِن أحكامِ دينِك، فإنه معَ مُضيِّ الأيامِ والانشغالِ، ينسى الإنسانُ ما كانَ قد تعلمهُ قبلُ.

اللهم أعنّا على ذكرِك وشكرِك وحسنِ عبادتِك.

نسخة للطباعة
تنزيل الكتاب
نسخة للجوال
تنزيل الكتاب

شارك المحتوى:
1