هذا فراق بيني وبينك !
الحمد لله وبعد،،
لا بد أن نعرف التصورات الفكرية والمنطلقات العقدية التي يستقي منها أي كاتب أفكاره حتى نعرف خبره وندري حقيقة أمره، فهذه مسألة مهمة يجب على من يخاف على دينه ويرجو موعود ربه أن يكون على علم ودراية بها.
لا تغتر ببهرجة الكلام وزخرفته وحسن عرضه، واحذر أن تنهار حصونك، وتتزحزح عن مواقعك أو تتضعضع مناعتك أمام بلاغة المتكلم أو فصاحة الكاتب، مهما قويت شبهته أو اتسعت رقعة معارفه.
ليس المقصود من هذا تصنيفه والتعرف على إمكاناته وقدراته إنما المهم في هذا السياق هو وضوح الفضاء المعرفي الذي يحلق فيه.
نعم هذ أمر مهم ولا غضاضة في الاهتمام به، ويجب أن يعي المتلقي أو المستهدف ذلك، وأن يتم إيضاح الأمور وكشف الحقائق وتسمية الأشياء بمسمياتها دون مراوغة أو غمغمة.
لكن ما هو أنكى وأشد خطرا أن يلحقك هذا الضال بشيعته ويزين لك ضلالته، وأنت تحسب نفسك باحثا عن الحق، وقافا عند بابه، متجردا عن العلائق الصادة عنه.
ما لمسته كثيرا في طرح أهل الأهواء المخالفين للسنة والمراغمين لحملتها، أنهم في قصفهم وتهجمهم على أهل السنة ينفذون إلى العقول عبر طريقين اثنين؛ ولهذين الطريقين الخطورة البالغة والأثر السيء على كثير ممن مالت به رياح الأهواء إلى ديارهم، وطوحت به صوب مرابعهم:
أولهما: أنهم يستغلون الخطأ العارض الذي يقع فيه عالم من علماء السنة؛ سواء في مقالة صدرت عنه أو فتوى أطلقها ولم تكن هذه الفتوى صحيحة أو أنها كانت مرجوحة عند الجمهور، لكن هذا المفتي لم ينظر إلى مآلاتها وعقول المتلقين لها التي ليست لها القدرة على استيعابها وتصور حقيقتها كفتوى رضاع الكبير.
فيستغل المخالفون هذه الفتوى ليس في الرد على صاحبها وتخطئته فهذا أمر يسير، فما منا إلا راد ومردود عليه إلا النبي صلى الله عليه وسلم، لكنهم يحملون على المنهج السلفي نفسه، فيسقطون العلماء المتقدمين الذين قالوا بهذا القول، ويتهجمون على الأصل الذي صدرت عنه فيكذبونه وينالون منه، وإن قال بهذه الفتيا بعض الصحابة رضي الله عنهم، بل ثبت الدليل من السنة على عين هذه المسألة وفق شرائط ليس هذا محل تفصيلها.
لكن المخالف الذي قد لا يكون ممن يؤمن بالسنة مطلقا أو يؤمن بالمتواتر منها دون الآحاد أو يصحح الأحاديث ويضعفها وفق عقله الجائر، يستغل هذه الواقعة الجزئية وهي هنا كمجرد مثال فتوى رضاع الكبير، من أجل الترقي للتكذيب بالسنة والتهجم عليها والطعن في حملتها.
المقصود أنه ينطلق من الخطأ العارض الذي لا يسلم منه أحد إلى طحطحة بنيان السنة وهدم عمادها.
فيأتي المناوئ للسنة فيقدم بمقدمة فيها التخطئة لهذه الفتيا، وخطر إشاعة القول بها في هذا الوقت، وأن الناس قد لا يفهمونها ولا يعرفون ضوابطها، وهذا كله كلام سليم في الجمله، لكنه يعود بعد هذه التقدمة بالتهجم على السنة وتكذيبها، والسخرية بأحاديثها، والتندر بأحكام شرعية ثابتة.
وهنا على السني الواعي والسلفي اليقظ بأصول هذا الكاتب وجذوره الفكرية التي يستمد أقواله منها أن يقول: هذا فراق بيني وبينك !
لأن الحدود قد اتضحت والمعالم الفارقة تبينت، فهذا الناقد لم يعد مقصوده تخطئه عالم أو إصلاح غلط، لكن قصده أن ينفذ من هذه المقدمة الحسنة القشيبة في ظاهرها إلى جر القارئ إلى ساحته، وإخراجه من السنة وإدخاله في
في مستنقع الأهواء الآسن.
ثانيهما: أن يستدل المناوئ للسنة بأدلة شرعية على مسألة حادثة أو منهج مخترع لا تعلق له بالشريعة، ولم يقل أحد من العلماء بهذا القول الذي يريد تقريره والاحتجاج له، لكنه يعلم أنه لا يستطيع أن يوجد له موطئ قدم في عقول المتلقين وقلوبهم إلا عبر الأدلة الشرعية قرآنا وسنة.
فيورد هذه الأدلة في غير مساقها وينزلها على غير مناطاتها، لأنه يعلم أن صناعته إذا كانت أجنبية عن الشريعة غريبة عنها، فسوف يلفظه أهل السنة ويتحامونه ويطرحون رأيه ولا يرفعون بمقالته رأسا، لكنه يأتي بدعوى الاستدلال بالنصوص والإذعان لخطابها من أجل رد الحق وإبطاله وإضفاء الشرعية على بدعته.
فحاله كحال الجد بن قيس الذي اعتذر عن المسير إلى تبوك لملاقاة الروم ونصرة الرسول صلى الله عليه وسلم خوفا من أن يفتتن بنساء الروم، واحتج بأنه قد لا يصبر على فتنتهن، فيخشى من باب الورع الكاذب أن تضعف نفسه ويغلبه هواه فيقع في فاحشة الزنا.
فهذا المنافق استند إلى أصل شرعي ونزع من أدلة تحذر من الفتن وتخوف من قربانها، لكنه أنزلها في غير مواضعها، إبطالا للحق وخذلانا لدين الله وعصيانا لأمر الله ورسوله وقعودا عن نصرة الدين، فرد الله مقالته وأبطل متعلقه كما في قوله تعالى: ( ألا في الفتنة سقطوا ).
فنزعه من الأدلة غير صحيح ومقالته عارية عن الصحة، بل هو وإن تترس بالأدلة وزعم الصدور عنها، كاذب في دعواه ساقط في حمأة الفتنة.
وكذلك من يستدل على ما يسميه بحرية الاعتقاد، والمقصود بهذا التركيب على الحقيقة حرية الكفر بدين الله، بأدلة من القرآن، فإن هذا لا يشفع له ولا ينجيه من أن يوصف بالزيغ والضلال، حتى وإن استدل بقوله تعالى : ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) وقوله تعالى: ( لا إكره في الدين ) فهو استدلال في غير محله؛ ولا يمكن أن يستدل أحد بالقرآن على جواز الكفر بالقرآن !
لكنه يريد الدعوة إلى الحرية بالمفهوم الغربي، فلما علم أن الشريعة تقف حائلا دون هذه المفاهيم، تطلب أدلة من الشريعة يتشبث بها حتى وإن كانت لا دلالة فيها على ما يرومه من نقض لعرى الدين وتوهين لمحكماته.
فعلى المؤمن الصادق والسلفي الحاذق أن لا يغتر بهذه الدعاوى، وأن يعلم أن المقالات الباطلة لا يمكن الدعوة إليها إلا بأن تصاغ في قالب الحق، وأن أعداء السنة يتوسلون بالمقدمات الصحيحة إلى نتائج غير مرتبطة بتلك المقدمات، وأن مجرد ادعاءهم الاستناد إلى الأدلة الشرعية من القرآن والسنة ليس فيه تزكية لطرائقهم ولا تبرءة لمناهجهم.
كتبه محمد بن علي الجوني