هل إطلاق كلمة الحدادية إخراجٌ لبعض المنتسبين للسلفية منها؟
قبل الإجابة على هذا السؤال ينبغي أن يُعرف لمن نسبة الحدادية؟ وما بدعة الحدادية؟
أما نسبة الحدادية فهي لرجلٍ مصري اسمه محمود الحداد، هذا المصري وفد إلى السعودية، وجلس بها سِنِيْن؛ لكَّنه أحدَث أصولًا وبدعًا مما تسبب في إخراجه من دولة التوحيد والسُّنَّة السعودية -أعزها الله وجميع بلاد المسلمين بالتوحيد والسُّنَّة-، والحدادية نسبةٌ إليه.
وأصل بدعة الحدادية أنهم يبدعون بالجزئيات، فالحدادية يرون أن كل من تلبس ببدعةٍ فهو مبتدع، وصاروا على إثر هذا يبدعون بالجزئيات، وهذا التأصيل منهم خطأٌ، ومخالفٌ لما أجمع عليه سلف هذه الأمة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية كما في “مجموع الفتاوى”:” والقاضي شُريح أَوَّلَ صفة العجب، وأنكر قراءةَ [بل عجبتُ]، قال: ومع ذلك هو إمامٌ من الأئمة بالاتفاق”، وكذلك ذكر شيخ الإسلام في كتابه “بيان تلبيس الجهمية” كلام أئمة السُّنَّة في تخطئة ابن خزيمة رحمه الله تعالى لما أَوَّلَ حديث الصورة، وقال: إن الضمير لا يرجع إلى الله، وهو حديث أبي هريرة في الصحيحين، لما قال صلى الله عليه وسلم: «إذَا قاتل أَحَدُكُم أخاه فَلْيَجتنب الْوَجْهَ، فَإِنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ».
قال: إن الضمير لا يعود إلى الله سبحانه، أخطأ في ذلك ابن خُزيمة، وخالف إجماعَ السلف، ونقل ابنُ تيمية كلام جمعٍ من علماء السُّنَّة في تخطئة ابن خُزيمة، وحفظ جنابه ومكانته، حتى سماه شيخ الإسلام ابن تيمية وغيرُه من أئمة السُّنَّة، سمَّوا ابنَ خُزيمةَ بإمام الأئمة، مع أنه أخطأ في هذا الأمر الجزئي، إلى غير ذلك من الأمثلة على أن السلف لم يبدِّعوا من وقع في خطأٍ جزئي.
فمن بدَّع بالوقوع في أيِّ خطأٍ جزئيٍ فقد خالف إجماع أهل السُّنَّة، كما تقدم في كلام شيخ الإسلام فيما يتعلق بالقاضي شُريح.
فأصل بدعة الحدادية أنهم يبدعون بكل جزئيٍ، هذا هو أصل بدعتهم، ثم عندهم بدعٌ أخرى، منها:
أنهم لا يراعون المصالح ولا المفاسد، فإذا ثبت عندهم أن فلانًا مبتدع، سواءٌ كان من المعاصرين أو الماضين فإنهم يجهرون بتبديعه، ولو كان الجهر بتبديعه يضر أكثر مما ينفع، بل إنهم لما وقفوا على تبديع أئمة أهل السُّنَّة لبعض الماضين أخذوا ينشرون هذا في كُلِّ مكان، ويمتحنون الناس بهؤلاء الذين بدَّعهم أئمةُ السُّنَّة.
ولم يعلموا أن أئمة السُّنَّة بعد ذلك ممن جاء من المتأخرين كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم إلى أئمة الدعوة النجدية السلفية إلى علمائنا المعاصرين أنهم أمسكوا عن تبديعِ بعض من بدَّعهم السلفُ الماضون لمصلحةٍ راجحةٍ.
والدين قائمٌ على جلب المصالح وتكميلها، ودرء المفاسد وتقليلها، كما دلت الأدلة الكثيرة على ذلك، كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ [الأنعام: 108].
فالشريعة نهت عن سب آلهة المشركين مع أنه مطلوبٌ شرعًا إذا ترتب عليه سبّ إلهنا.
وكذلك ما أخرج البخاري في قصة صلح الحديبية، فقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم أمورًا من شرع الله لمراعاة مصلحة أكبر، وكذلك في حديث عائشة الذي أخرجه البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لَوْلاَ قَوْمُكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ – قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ – بِكُفْرٍ، لَنَقَضْتُ الكَعْبَةَ فَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ: بَابٌ يَدْخُلُ النَّاسُ وَبَابٌ يَخْرُجُونَ»، إلى غير ذلك من الأدلة الكثيرة.
فإذًا: الدين قائمٌ على جلب المصالح وتكميلها، ودرء المفاسد وتقليلها، ولا يلزم من كون الرجل مبتدعًا أن يصرَّح بذلك في كلِّ مكانٍ وكُلِّ زمانٍ، بل لابُدَّ أن تراعى المصالح والمفاسد.
ولأجل هذا امتنع علماؤنا المعاصرون ومن قبلهم كأئمة الدعوة النجدية، وفي مقدمهم الإمام محمد بن عبد الوهاب، وقبل ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم من تبديع من امتحنت الحدادية الناس في تبديعهم ممّن بدعهم أئمة السُّنَّة الماضون.
ومما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى أن أمثال هذه المسائل في التبديع يراعى اختلاف الزمان والمكان، ذكر هذا كما في المجلد الثامن والعشرين من “مجموع الفتاوى”، وذكره الإمام عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن كما في “الدرر السنية”.
وضرب ابن تيمية مثلًا بما فعله الإمام أحمد، فقد شدد على المرجئة لما كان في بغداد؛ لأن السُّنَّة ظاهرةٌ في بغداد، لكن لما ذهب إلى خُراسان أو إلى غيره مما لم تكن السُّنَّة ظاهرة في بلادهم لم يشدِّد في ذلك رحمه الله تعالى؛ لم يشدِّد على المرجئة كما شدَّد في بغداد، ففي بغداد شدَّد، أما في تلك البلاد لما سئل، لم يشدِّد الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وذلك راجع إلى أنَّ الدِّين قائمٌ على جلب المصالح وتكميلها، ودرء المفاسد وتقليلها، وأنه إذا ترتب على الشدة على مبتدعٍ أو على إظهار تبديعِ فلانٍ، إذا ترتب على ذلك مفسدة أكبر؛ فإنَّ الشريعة لا تأتي بمثله.
وأيضًا مما ضل فيه الحدادية أنهم يوالون ويعادون على أمورٍ، لم تأتِ الشريعة بالولاء والبراء عليها، إما أن تكون مسائل اجتهادية، القول فيها ما بين راجح أو مرجوح، ما بين أجر أو أجرين ومع ذلك يوالون ويعادون على أمثال هذه المسائل، أو أن تكون المسألة في الأصل من بدعهم، فمن أمثلته:
المثال الأول: ما يتعلق بالعذر بالجهل فيمن وقع بالشرك من غير تفريطٍ، فإن علمائنا المعاصرين على قولين: منهم من يكفِّر هؤلاء، ولا يعذر بالجهل، ومنهم من يعذر بالجهل.
وكلا القولين معروفان عن علمائنا الأجلاء، ومن أشهر من عذر بالجهل الإمام محمد بن صالح العثيمين والإمام الألباني والعلامة محمد بن أمان الجامي وغيرهم من علمائنا، ومن أشهر من لم يعذر بالجهل الإمام العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى، وإن كان له أقوالٌ أخرى في العذر بالجهل، وكذلك غيرهم من علمائنا الأجلاء.
فالمسألة فيه قولان لعلمائنا الأجلاء، لكن لو تأملتم لم يضلِّل أحدُهم الآخرَ، فما زال الإمام ابن العثيمين معظمًا عند الإمام ابن باز والعكس، مع أنهم مختلفان في هذه المسألة، وهكذا مع بقية علمائنا.
فأئمة السُّنَّة لم يوالوا ويعادوا على هذه المسألة، أما الحدادية فهم يوالون ويعادون على هذه المسائل، ويضلِّلون إلى غير ذلك، عافاني الله وإياكم.
أما من أمثلة المسائل التي ليس لهم سلف فيها، هو قول بعض الحدادية: إن التوحيد معروفٌ بالفِطَر، وإن الحجة قامت بالفطرة، ولا يحتاج لإرسال رسل.
وإن قائل هذه المقالة من الحدادية لم يتوقف عند هذا الحد، بل تعدى ذلك، وصار يوالي ويعادي على هذه المسألة، ويضلِّل من لا يوافقه، بل يكفِّر من لا يوافقه، بل يكفِّر من وقع في الشرك ومن لم يوافقه في تأصيله البدعي الذي لم يسبق إلا من المعتزلة، عافاني الله وإياكم.
فالمقصود أن عند الحدادية ضلالات، وينبغي أن يُعرف ضلالُهم؛ وأصلُ ضلالهم هم أنهم بدَّعُوا بالجزئيات كما تقدم.
ومن ضلالات الحدادية: ولا أحب أن أطيل في ذكر ضلالاتهم، لكن به أختم الكلام في بيان ضلالاتهم، هو أنهم غلوا في الآثار، فيأخذون كل أثرٍ وحده، ويبنون عليه الجبال الشواهق، ولا ينظرون إلى الزمان الذي قيل فيه الأثر، ولا ينظرون إلى المصالح والمفاسد، ولا ينظرون إلى سياق الأثر، وإلى كلام بقية أئمة السُّنَّة، فقد يشدد إمام من أئمة السُّنَّة في مسألة لاحتياج أهل زمانه إلى التشديد في هذه المسألة، والعكسُ بالعكسِ.
فلا ينبغي أن نأخذ أثرًا، ونَدَعَ بقية الآثار، فإن الآثار يوضِّح بعضها بعضًا، لا يعني هذا إهمالَ الآثار؛ بل مما يخطئ فيه بعضُ أهل السُّنَّة أنهم لا يعتنون بالآثار، وينبغي لنا أن نعتني بالآثار، فإن ديننا دين الآثار، لكن ينبغي في المقابل أن نفهم الآثار، وأن نضم بعضها إلى بعض، ونجمع بعضها إلى بعض، وأن نرجعها إلى أصول أهل السُّنَّة المتفق عليه، حتى لا ننازع أصولًا عند أهل السُّنَّة بفهمٍ خطأٍ لنا لأثرٍ من آثار أئمة السُّنَّة.
فالآثار عظيمة، لكن لا يجوز الغلو فيها؛ فإن الغلو محرم، وينبغي أن يضم بعضها إلى بعض، وأن لا تناطح أصول أهل السُّنَّة بفهمنا الخطأ لبعض الآثار.
إذا تبيَّن أشهر الضلالات عند الحدادية، فإنه من الملاحظ أنهم شبيهون بالخوارج من وجهٍ، وذلك أن الخوارج لا يراعون المصالح ولا المفاسد، وأن الخوارج يكفِّرون بالجزئيات، بكل كبيرة، بل إن الخوارج يكفِّرون بالحسنات، والخوارج يوالون ويعادون على اعتقاداتهم.
فالحدادية والخوارج يجتمعان فيما تقدَّم ذكره، ويختلفان في أن الخوارج يكفرون والحدادية يبدِّعون، وإن كان وُجِد من الحدادية اليوم من غلا وتجاوز مرحلة التبديع إلى مرحلة التكفير وأصبح شبيهًا بالخوارج، أسأل الله أن يعافيني وإياكم إنه الرحمن الرحيم.
والواجب أن يُتصدى لفكر الحدادية؛ لأنهم محسوبون على أهل السُّنَّة، ويتكلمون بلسان أهل السُّنَّة، ويتكلمون بالآثار، فيوهمون الناس أنهم السلفيون حقًا، وهم أبعد الناس عن السلفية، فينبغي أن يُواجهوا بالحق وبالاعتدال، بالحق والعدل، لا يجوز أن نقابلهم بالتضعيف، أو ببيان أن الآثار ليس لها مكانة عظيمة في الشريعة؛ لأنهم غلوا في ذلك، كلا؛ بل للآثارِ مكانةٌ عظيمة، لكن خطأهم في فهم بعضها هو الخطأ، وهو الضلال المبين، لا في الآثار نفسها.
وفي المقابل إذا بدَّع أئمة السُّنَّة رجلًا، وأجمعوا على تبديعه، أو اشتهر تبديعهم له، لا يصح أن نأتي ونثني على هذا الرجل ردةَ فعلٍ لغلو الحدادية، ينبغي أن يكون كلامنا بعدلٍ وحقٍ.
وأُؤَكد أنه ينبغي أن يواجه فكرهم، فإنه ما أسرع أن ينتشر بين أهل السُّنَّة؛ لأن ظاهره تعظيمٌ لآثارِ السلف وللأدلة والسلفية.
إذا تبيَّن هذا؛ فإنه قد حصل غلو من بعض أهل السُّنَّة في رمي أناسٍ بأنهم حدادية، ينبغي أن نزن الأمور بميزان العدل والعلم، وأن لا نغلو ولا نجفو، لا يصح أن نرميَ أيَّ أحد بأنه حدادي؛ لأنه خالف في بعض المسائل، ولا في المقابل أن نبرأ أيَّ أحد من الحدادية، إن كانت ضوابط الحدادية قد انطبقت عليه.
ينبغي أن نزن الأمور بميزان العدل والحق، فلذا من وصف بأنه حدادي، وانطبقت عليه ضوابط الحدادية فهو مبتدعٌ ضال ولا شك، ومما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله تعالى كما في المجلد الثالث من “مجموع الفتاوى”، لما شرح حديث الافتراق، قال: (إن الرجل يبدَّع، إذا والى وعاد على رجلٍ)، فكذلك يقال: إذا والى وعاد على مسألة فإنه يبدَّع ويضلل.
وهذه تعتبر مخالفة كلية لا جزئية من معتقد أهل السُّنَّة؛ لأنه يوالي على هذا الرجل، كل ما وافقوا عليه أجله، وكل من خالفه بدَّعه وضلَّله إلى غير ذلك، فمن والى وعاد على رجلٍ أو على مسألةٍ لم يأتِ بالشريعة بالولاء والبراء عليها؛ فإنه يبدَّع ويُضلَّل، ولا كرامة كالحدادية وغيرهم.
وأنبه إلى أن للسلف كلماتٍ في أن من عاد فلانًا، وتكلم في فلانٍ فإنه مبتدعٌ ضال، كما قيلت في الإمام أحمد والشافعي وحماد بن سلمة وغيرهم من أئمة السُّنَّة، فيقال: إن كلمات أئمة السُّنَّة في هؤلاء فيمن تكلم فيهم لأجل السُّنَّة التي هم عليها، وهذا هو الأصل أن الرجل لا يتكلم في الإمام أحمد ولا في شيخ الإسلام ابن تيمية ولا في الإمام محمد بن عبد الوهاب ولا في الإمام ابن باز وغيرهم من أئمة السُّنَّة إلا لأنهم مخالفون لهم في السُّنَّة، فمثل هذا يضلل ويبدع.
لكن لو تبيَّن أنه تكلم فيهم لغير هذا، لشيءٍ كان بينه وبين فلانٍ، إذا كان من المعاصرين، فمثل هذا لا يبدع ولا يضلل، ومما ذكر الذهبي في كتابه “سير أعلام النبلاء”: أن أهل الحديث جاءوا من رجلٍ، يقال له أبو كُريب، فقالوا للإمام أحمد: إن أبا كُريم يقع فيك، أنحدِّث عنه؟ قال: ((حدِّثوا عنه، رجلٌ صالح، ابتليَّ بي))، فلم يبدِّع هذا الرجل؛ لأنه وقع في الإمام أحمد، لأنه قد تبيَّن أنه وقع فيه لا لأجل الاعتقاد وإنما وقع فيه حسدًا وبغيًا.
أسأل الله أن يحيينا جميعًا على التوحيد والسُّنَّة، وأن يميتنا على ذلك، وأن نلقى الله راضيًا عنا، وجزاكم الله خيرًا.