بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فإنا قد خُلقنا لحكمة عظيمة وهي عبادة الله، بفعل الواجبات والمستحبات، وترك المحرمات والمكروهات، ولما كنا ضعفاء نغفل عن هذه الحكمة ابتلانا بالسراء والضراء لنرجع إليه، قال تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ [الأنبياء: 35] وقال: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾ [محمد: 31] فتارة يبتلينا بالبلايا والرزايا من الفقر والمرض والجوع والخوف عقوبة لنا، لأننا عصيناه وجاهرنا بذلك، قال تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [النحل: 112].
وقال: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ *فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ [الأنعام: 42-44].
وروى ابن ماجة والحاكم عن عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ، حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا، إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ، وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا… الحديث». صححه الألباني.
ومما ابتلينا به هذه الأيام انتشار مرض الكورونا في العالم، وقد جمع هذا المرض بين كونه ضارًا بل قاتلًا أحيانًا، ومعديًا سريع الانتشار، وخفيًا غير ظاهر، لذا حصد الآلاف من بني الإنسان.
والواجب علينا تجاه هذا المرض وغيره من الأمراض ما يلي:
أولًا: أن نعلم يقينًا أنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يرتفع إلا بتوبة، قال تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم: 41].
وقال: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران: 165].
فلذا أعظم علاج وأقواه: الفزع إلى الله بالتوبة، من الشرك والبدع التي انتشرت في بلاد العالم الإسلامي، وغير ذلك من العاصي الشبهاتية والشهوانية كتبرج النساء وسفورهن، فكم من امرأة قد كشفت وجهها متزينة متعطرة ففتنت وفتنت، بل وكم من امرأة أظهرت شعرها مع أنه محرم بالأدلة والإجماع، وكم من الرجال والنساء الذين تساهلوا بالاختلاط مع بعضهم لأجل وظيفة لتحصيل مال أو ما هو أطم من ذلك في تجمعات محرمة.
قال ابن تيمية: “وَهَذَا كُله لِأَن اخْتِلَاط أحد المصنفين بِالْآخرِ سَبَب الْفِتْنَة فالرجال إِذا اختلطوا بِالنسَاء كَانَ بِمَنْزِلَة اخْتِلَاط النَّار والحطب“. اهـ.
فيا لله كم حصل من هذا الاختلاط من عظائم وشنائع وتحرش حتى اشتكى منه الغرب الكافر وهم كفار لا غيرة لهم على محارمهم !!
فليتق الله أولياء الأمور من الآباء والأزواج والإخوان في نسائهم، ولتتق الله كل امرأة في نفسها فلا تكن سبب فتنة خاصةً أو عامة.
ثانيًا: الاجتهاد في فعل الأسباب الكونية والمادية لعلاج هذا الداء، من الوقاية التي يُقرها الأطباء وأهل الخبرة، ومن ذلك حجر المرضى بهذا المرض لئلا يُعدوا غيرهم.
علق البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «فر من المجذوم فرارك من الأسد». والجذام مرض تتناثر فيه الأعضاء.
وروى البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ».
ثالثًا: أنه لا ينبغي لأهل الإيمان أن يجزعوا من هذه الأمراض، ويُصابوا باليأس، فإنه لم يُقض شيء إلا بقضاء الله وقدره، وهو لا يقضي إلا خيرًا، وقد قضى المقادير كلها قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ [الحديد: 22-23].
وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة».
وروى مسلم عن أبي يحيى صهيب الرومي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ».
فينبغي للموحد العاقل أن يكون وسطًا لا إفراط ولا تفريط تجاه هذه الأمراض، فيفعل الأسباب للوقاية والعلاج، وإذا قدر أنه ابتلي بها فلا ييأس من روح الله ورحمته، بل يزداد صبرًا وحمدًا لربه، ونفسه قد امتلأت رضى عن الله، فكم من إنسان يتحسر عليه، لأنه قد ابتُلي بهذا المرض، ثم إن بعض هؤلاء المتحسرين عليه يموتون بعد ساعات في حادث مروري، أو سكتة قلبية، أو غير ذلك، فالأمر أهون من أن ييأس من ابتلي به من أهل الإيمان وأن يجعل الشيطان يستغل يأسهم فيملأ قلوبهم خوفًا وذعرًا.
رابعًا: إن من ابتُلي بهذه الأمراض فصبر واحتسب فله أجر الشهداء، روى البخاري عن عائشة أنها قالت: سَأَلْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْطَّاعُون، فَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ عَذَابٌ يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ، فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، يَعْلَمُ أَنَّهُ لاَ يُصِيبُهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ، إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ.
وإن من يرى حصد مرض الكورونا لبني الإنسان، ابتداءً بالصين أمة المليار، ثم بمن بعدهم، زاد يقينًا بقوة الله وعظمته، وضعف الإنسان وحقارته، والعجيب أن من بني الإنسان من فيه كبر وظلم وغرور وتجبر وما أكثرهم، قال تعالى: ﴿فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾ [فصلت: 15].
يا قوم، إنه مع قوة الصين وتقدمها خضعت ومدت يد العون للعالم لهذا المرض، إنه مع تقدم الطب وتطوره فإنه لا يزال حيران تائهًا تجاه هذا المرض الذي هو أحد جنود الله بل هو من جنوده الصغار فإنه لا يرى بالعين المجردة، قال تعالى: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ﴾ [المدثر: 31].
ولمعرفة عظمة الله وقوته فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حدثنا عن ملك واحد من حملة العرش، ثبت عند أبي داود عن جابر بن عبد الله الأنصاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ، إِنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِ مِائَةِ عَامٍ».
وصدق الله القائل: ﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ ﴾ [البقرة: 256] والكرسي موضع قدمي الرب، والقائل: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الزمر: 67].
فلنستشعر عِظم الله، فنزداد تعظيمًا له في قلوبنا، تعظيمًا يجعلنا نسارع ونسابق في فعل الطاعات وترك المحرمات، قال تعالى عن الأنبياء: ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ﴾ [الأنبياء: 90] وقال: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 133-134].
وأخيرًا ليستغل الدعاة إلى الله فزع العالم من هذا المرض في بيان عظمة الله؛ لدعوة الناس للدين الإسلامي، ولدعوة المسلمين للتوحيد، ولتحذيرهم من جريرة ومغبة المعاصي، فإن هذا هو عين الرحمة بهم ونصحهم.
أسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يدفع عنا الغلا والوباء والربا والزلازل والمحن والفتن، ما ظهر منها وما بطن.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
د. عبدالعزيز بن ريس الريس
@dr_alraies
المشرف العام على موقع الإسلام العتيق
8 / 7 / 1441هـ