بسم الله الرحمن الرحيم
فقد خرجَ في الأيام الماضية بعض أعضاء الحزب الحاكم في الهند واستهزأوا بالنبي ﷺ وبزوجه عائشة -رضي الله عنها-، وكان مما أثاروه: مسألة زواج النبي ﷺ بعائشة ودخوله بها وهي في سن التاسعة.
وهذه الشبهة ليست جديدة، فقد سبقهم في لَوْكِها المستشرقون، ثم الزنادقة والمنافقون الذين يعيشون بين أظهر المسلمين، فيُثيرون هذه الشبهة للتشكيك في حُجِّية السنة النبوية، أو لأجل الطعن في الإسلام بصورة عامة.
وهذه الشبهة -إن صح تسميتها شبهة- لم تنتشر بين المسلمين ويكون لها أثر إلا في هذا القرن الذي نعيشه الآن؛ وذلك أن عامة جداتنا قد تزوجن في سنٍّ مُقاربٍ لسن زواج عائشة -رضي الله عنها-، لذلك لو أن الكفار والزنادقة بثوا هذه الشبهة قبل سبعين أو ثمانين سنة لما كان لها هذا الأثر… بل لو كان الزواج في هذا السن مطعنٌ ومسبَّة لسارع إلى ذلك كفار قريش والمنافقون في المدينة وطعنوا بها في النبي ﷺ، فهم يتربصون بأدنى خطأ وهفوة للطعن في الإسلام، تمامًا كما يفعل إخوانهم المنافقين اليوم من العلمانيين والليبراليين.
وصحيح أنَّ هناك فرقًا بين زمان النبي ﷺ وبين زماننا، لكن حتى هذا الاختلاف ليس كبيرًا، والواقع يُثبت ذلك، فإلى اليوم يتزوج البعض في سن مُقارب لهذا السن وتلد المرأة دون أية مشاكل طبية أو نفسية.
وأُرجِعُ سبب استغراب بعض الناس من الزواج في هذا السن لأمورٍ، منها:
السبب الأول: أنه قد يرى ابنته أو أخته قد بلغت سن التاسعة أو العاشرة أو الثانية عشرة ولازالت طفلة ولم تبلغ ولا تصلح للزواج، ولكنَّ هذا أمرٌ نسبيٌّ، ويختلف من شخص لآخر، ولا يصح تعميمه على الجميع، فبعض الفتيات يبلغن في سن العاشرة أو الحادية عشرة وتكون صالحةً للزواج. بل من كان له احتكاك بمدارس البنات في المراحل المتوسطة أو الصف السابع والثامن يعلم يقينًا أن عامة هؤلاء البنات قد بلغن، وبعضهن -للأسف- تُقيم علاقة محرمة مع الأولاد وهي في هذا السن! وهذا أمر مُشاهد معلوم.
وفي بعض الدول الغربية السن القانوني لممارسة الزنا هو الثالثة عشرة![1] وأيضًا قبل مدة نشرت صحيفة (ذا صن) البريطانية خبرًا عن فتاة حملت وولدت وهي في سن الحادية عشرة![2] فمن نظر إلى الواقع عرف أنّ الزواج في مثل هذا السن لمن تصلح له أمرٌ لا يُستغرَب، لكن البعض لتسممه بأفكار الغرب يستسيغه في الحرام ولا يستسيغه في الحلال.
السبب الثاني: أن أكثر الزواج اليوم يتأخر إلى ما بعد العشرين، بل وبعد الثلاثين، والسبب الرئيس في ذلك تغير نمط الحياة وطول سنوات الدراسة وحال سوق العمل، فأصبح الزواج المبكر أمرًا غريبًا عند الناس لقلة من يتزوج في هذا السن، وكون أكثر الناس يتأخرون في الزواج لا يدل أن الزواج المبكر عند بداءة البلوغ خطأ، فإنَّ هناك فرقًا بين أن يكون الأمر خطأ في نفسه، وبين أن يُجعل خطأً لمجرد أنه خالف ما اعتاد عليه الناس.
فإذا عرفت ذلك عرفتَ أنَّ تأخير الزواج الذي نحن عليه اليوم لا يصح أن يكون هو الأصل الصحيح الذي يُقاس عليه غيره، بل هو أمرٌ خاطئ وطارئ على البشرية، وهو الذي يجب أن يُصحح فضلًا عن أن يُجعَل أصلًا يُحاكم إليه غيره، فمن بعض سلبيات النمط الحديث في الزواج:
أنَّ الشاب والشابة يمكث الواحد منهم منذ بلوغه إلى أن يتخرج من الجامعة ويتوظف ويجمع تكاليف الزواج ما يقرب من خمس عشرة سنة!! وهذا في أحسن الأحوال وإلا فهناك من يتأخر أكثر.
فقل لي بالله، كيف سيصبرون على مدافعة شهواتهم هذه السنين الطويلة؟ لاسيما مع انتشار ما يُثير رغباتهم ويُهيّج شهواتهم بصورة مستمرة ومستفزة ابتداءً من الهواتف التي بأيديهم، والتلفاز، والإعلانات والصور في الشارع، وفشوّ الاختلاط والتبرج والسفور والعُري بين نساء المسلمين … قل لي بالله، مع كل هذه الضغوطات الشديدة، كيف سيسلم شباب المسلمين من الوقوع في الحرام مع تيسُّر سبله وتصعيب سُبل الحلال؟ يقينًا سيقع أغلبهم في الحرام -إلا من حفظه الله- بشتى درجات الحرام، ابتداءً من النظر إلى المحرم، ثم مشاهدة الإباحية، وانتهاءً بالزنا.
فهل هذا الوضع المأساوي الذي تعيشه البشرية اليوم هو الطبيعي؟ والزواج المبكر لمن استطاعه وحشية وإجرام وانحراف؟!
السبب الثالث: البعض يهتز إيمانه بكل شبهة يبثها الزنادقة عن الإسلام، وقد تجعله يشك في دينه بسبب ضعف يقينه وإيمانه، أو بسبب قِلة اعتزازه بدينه وتعظيمه وانبهاره بالغرب الكافر، فينبغي لأمثال هؤلاء أن يأخذوا بأسباب الهداية وقوة الإيمان وزيادة اليقين ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ﴾ [محمد: 17] وأن يرسخوا في قلوبهم عقيدة الولاء والبراء، فهي صمام الأمان للتمايز بين الحق والباطل، والكفر والإيمان، ومن أعظم ما يحمي من التبعية للكفار عمومًا وللغرب خصوصًا.
وأخيرًا: ما سبب ازدياد تكالب الكفار على الطعن في الإسلام وفي رسول الإسلام محمد ﷺ؟
للأسف، فإنَّ سبَّ الكفرة الأنجاس لنبينا محمد ﷺ ازداد مؤخرًا، بل وتتبناه الحكومات الكافرة، وهذا يُنبئ عن حالة سحيقة للغاية من الضعف والوهن الذي وصل إليه المسلمون.
ومن أسباب ضعف المسلمين: التعلُّق بالدنيا والغفلة عن الآخرة وترك الجهاد في سبيل الله، وكذلك: تفشِّي العقائد الكفرية بينهم، ابتداءً من الشرك بالله وصرف العبادات لغير الله باسم تعظيم الصالحين، واتباع الغرب في أفكاره الكفرية كالليبرالية والعلمانية والنسوية وغيرها من الكفريات، وضياع عقيدة الولاء والبراء، وضعف اعتزاز المسلمين بدينهم وتقليدهم وتشبههم بأعداء الله الكافرين.
والحل أن نرجع إلى الله ليرفع عنا هذا الذل والهوان، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد: 7].
ويكون ذلك أولًا بأن نعرف الغاية الحقيقية من خلقنا، والتي بيَّنها الله بوضوح يفهمه الذكي والبليد: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56] فالدنيا من اسمها: من معاني الـ (دون) والآخرة خيرٌ وأبقى، وتكاثرت نصوص القرآن والسنة على حقارتها عند الله تعالى وأنها متاع الغرور، ولعب ولهو، وروى البخاريُّ ومسلم عن عائشة -رضي الله عنها- أنَّ النبي ﷺ قال: «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها»، وروى الترمذيّ وصححه الألباني عن سهل بن سعد -رضي الله عنه- أنَّ النبي ﷺ قال: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضةٍ ما سقى كافرًا منها شربة ماء».
وليُعلم أنَّ الله تعالى لم يطلب ترك أعمال الدنيا بالكلية، فهذا غير ممكن أبدًا، وإنما المقصود أنَّ نعرف حقيقتها وأنّها وسيلة للآخرة، لئلا تتعلق قلوبنا بها ونغفل عن الغاية الكبرى وهي عبادة الله وابتغاء لقائه. ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف: 162] ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾ [الحج: 41].
ثم علينا أن نُحارب العقائد الكفرية التي تفشَّت بين كثيرٍ من المسلمين، من الشرك بالله وعبادة القبور والأضرحة، واعتقاد العقائد الكفرية كالعلمانية والليبرالية والنسوية، وأن نُرسّخ عقيدة الولاء والبراء التي تم تحريفها وإضعافها في وقتنا هذا باسم التعايش والاعتدال ومحاربة خطاب الكراهية.
أما إن تخلفنا عن إعداد العُدة الدينية، وأسباب القوة العسكرية والاقتصادية، وأهملنا حراسة العقيدة والجهاد في سبيل الله -الذي يقوده ولاة الأمور- فسنتحول لهدف لأمة أخرى لتهيمن علينا وتستضعفنا، فالدين يقوى بقيام أهله به، ويضعف بضعف أهله تجاهه.
وعلى المسلمين الصبر والثبات على الحق، دون يأس أو قنوط، ودون استعجال لتحقق النتائج والثمرات، فنحن مُطالبون بالسعي، وأما النتائج فهي بتقدير الله سبحانه، لذلك لا ينبغي أن نستعجل النتائج بسلوك طرق غير مشروعة وأن نُستغلّ من قبل دعاة الثورات والمظاهرات في مشاريعهم الثورية التي لا تزيد المسلمين إلا ضعفًا، أو نسلك مسالك الغوغاء التي لا أثر لها على الأعداء، كحرق الأعلام والخروج في المظاهرات التي يرجع ضررها على المسلمين أنفسهم وليس على أعدائهم… وإنما المشروع سلوك الوسائل الصحيحة المؤثرة على أمثال هذه القضايا.
فلو كان عند المسلمين قوة، فالواجب الشرعيّ تجاه الدول التي تُعلن الطعن في الدين أن تُقاتل، فالطعن في الدين وسبّ النبي ﷺ -بلغتنا المعاصرة- يُعتبر شرعًا بمثابة إعلان حرب، كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ﴾ [التوبة: 12] وقد تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذه الآية بكلام نفيس في كتابه: (الصارم المسلول على شاتم الرسول).
لكن ليُنتبه أنَّ الجهاد من جملة العبادات الشرعية، فلها شروطها وأحكامها، ومن أهم أحكامها أنَّ الشريعة جعلت الجهاد منوطٌ بالحكام، ومن شروطه أيضًا القدرة، فإن كان المسلمون في حال من الضعف بحيث يعجزون عن قتال الكفار فلا يُشرع لهم القتال، لكن على الحاكم أن ينصر دين الله بما استطاع، بكافة سُبل التأثير الاقتصادية وغيرها، فإنَّ نُصرة دين الله هو سبيل العز والتمكين.
وأما إن كان الحاكم مستطيعًا للقتال لكنه قصَّر فيه، فيتحمل هو الإثم، وأما الرعية فعليهم مناصحته والصبر عليه، ولا يعني ذلك الاستسلام والجلوس والتفرج على أعداء الله وهم يطعنون في الإسلام، بل على عامة المسلمين استغلال ما بأيديهم من الوسائل المؤثرة كالإعلام ونحوه لكبت أعداء الله ورسوله ﷺ، وهذا من الجهاد في سبيل الله ويدخل في قوله تعالى: ﴿فَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾ [الفرقان: 52] وسورة الفرقان مكية ونزلت قبل الأمر بجهاد السيف، فدل على أنَّ من الجهاد في سبيل الله: جهاد الكلمة.
ومن صور الجهاد باللسان والبيان: حثُّ النبيِّ ﷺ أصحابه على مُقابلة هجاء المشركين بالهجاء، كما في صحيح مسلم عن عائشة -رضي الله عنها-، وكان الهجاء يؤثر كثيرًا على المشركين حتى قال النبي ﷺ: «اهْجُوا قُرَيْشًا؛ فَإِنَّهُ أَشَدُّ عَلَيْهَا مِنْ رَشْقٍ بِالنَّبْلِ» وقال لحسان -رضي الله عنه-: «إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ لَا يَزَالُ يُؤَيِّدُكَ، مَا نَافَحْتَ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ».
والذي يُماثل الهجاء في عصرنا هو الآلة الإعلامية بشتى أشكالها المؤثرة، فإنَّ للإعلام الحديث قوة وتأثير أكبر بكثير من تأثير الهجاء الذي كان عند العرب قديمًا، فعلى المسلمين أن يستغلوا كل وسيلة مؤثرة على كبت أعدائهم ونُصرة دينهم.
وكما ترى، لمَّا كان عامة حال المسلمين الاغترار بالدنيا والغفلة عن الآخرة، وفشت فيهم العقائد المنحرفة بشتى ألوانها، كان إعلامهم بهذا الشكل المخزي الذي نراه اليوم.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم رُدنا إليك ردًّا جميلًا، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين.
كتبه/ محمد بن عبد الحفيظ
12 / 11 / 1443هـ
11 / 6 / 2022م
[1] تعرف على السن القانونية للدخول في علاقة جنسية بمختلف الدول الأوروبية:
https://arabic.euronews.com/2017/11/15/sexual-consent-in-europe
[2] فتاة تحمل وتلد في سن (11) [صحيفة ذا صن البريطانية]:
https://www.thesun.co.uk/news/15404373/girl-11-gives-birth-britains-youngest-mum/