وقفة مع لفظ الإنسانية


بسم الله الرحمن الرحيم

فقد كثُرَ في زماننا استعمال لفظ (الإنسانية) في توصيف الأعمال الصالحة والخيريَّة والحَثِّ عليها، وهذا اللفظ له إطلاقان:

الإطلاق الأول: ما يرادف الفطرة والمروءة، أو ما يُميِّز الإنسان عن غيرِه، ونحو ذلك، ومما في لسان العرب: ” والمروءة: الإنسانية[1]، وقد استعمله بنحو هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه (الاستقامة) فقال: ” … فَهَذَا خُرُوج عَن الْعقل وَالدّين وَعَن الانسانية بِالْكُلِّيَّةِ[2].

الإطلاق الثاني: بمعنى الفلسفة الإنسانية أو الإنسانوية، وهي أحد الفلسفات التي خرجت ضد الكنيسة، ولهم أفكار ومبادئ مفادها: وجوب اجتماع الناس على الأخوة الإنسانية بعيدًا عن الدِّين وكل ما يتَّصل به، وغير ذلك من المبادئ الكفرية، ومِن العبارات التي اشتهرت عنهم في الترويج لمذهبهم: “ اعتنق الإنسانية، ثم اعتنق ما شئت مِن الأديان ” !!

ومن منظِّري هذه الفلسفة: الكاتب الفرنسي فرانسيس بوتر، والفيلسوف الإنجليزي جون لوك، وغيرهم من الكفرة والملاحدة [3].

فبذلك لا يُعد مِن الإنسانية عندهم مساعدة الآخرين فيما يتعلق بالدعوة للتوحيد وإنقاذ الناس مِن الشرك والكفر، وكل ما يتعلق بالدِّين والدار الآخرة؛ لأنهم يعتبرونها مجرد قناعات شخصية لا ينبغي أن تكون معيارًا مؤثرًا في علاقة الإنسان بالإنسان، مثلها مثل تفضيل القهوة بسكر أو بغير سكر، وهذه مناقضة كلية للتوحيد وللعبودية لله تعالى.

والإحسان إلى الآخرين بإعانتهم على حمل متاعهم، أو إطعام جائعهم، أو إماطة الأذى عن الطريق …وغيرها من صور النفع المتعدي هي مِن شعب الإيمان، ومما تدعو إليه الفطرة السوية، لكن من الأخطاء التي شاعت بين المسلمين -وللأسف حتى بعض أهل العلم- أنهم بدلًا من أن يقولوا: “ ساعد فلانًا لوجه الله “، أو “ ساعد فلانًا لتنال ثواب الله وللنجاة في الآخرة … “، شاع على ألسنتهم قول: “ ساعد فلانًا إنسانيةً، أو لأجل الإنسانية ” أو وصف أعمال الخير والبر عمومًا بالأعمال الإنسانية.

وهذا خطأ ومخالف للشريعة، فالشريعة لا تدعو لفعل الخير والبر لمجرد الدافع الفطري الإنساني، فلا أجر ولا ثواب على أعمال الخير إلا بنية ابتغاء الله والدار الآخرة، كما قال سبحانه: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 114] وأخرج البخاريُّ ومسلمٌ عن سعد بن أبي وقاص I أنَّ النبي ﷺ قال: «إنك لن تُنفق نفقةً تبتغي بها وجه الله إلا أُجِرْت عليها، حتى ما تضع في فيِّ امرأتك» [4]، وقال ﷺ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» [5]، فلا أجر ولا ثواب على أعمال الخير إلا بنية.

ثم استعمال لفظ (الإنسانية) في ذات السياقات التي يستعملها أهل الباطل من العلمانيين والليبراليين في هذه السنين المتأخرة ينبغي أن يُترك، لاسيما من أهل العلم والفضل ومن يقتدي الناس بهم؛ لئلا يختلط المعنى الصحيح بالمعنى الباطل، وإن كانت اللفظة في أصلها مباحة وتحتمل معنى صحيحًا، ومما شاع أيضًا من أمثال ذلك لفظ (المواطنة) و(خطاب الكراهية) و(الدولة المدنية) و(التعايش) ونحو ذلك، فهذه الألفاظ تحتمل معنى صحيحًا وتحتمل معنى باطلًا يستعمله الليبراليون والعلمانيون ومن تأثر بهم، فيريدون بالمواطنة: الولاء والبراء على الوطن وليس على الدين، ويريدون بخطاب الكراهية والتعايش: إلغاء عقيدة الولاء والبراء مع الكفار وعدم بغضهم، والمراد بالدولة المدنية: مفهوم سياسي مبني على المساواة بين افراد الدولة ولو اختلفت أديانهم.

ومن الأدلة على أن اللفظ إذا كان يُستعمل في معنى صحيح ومعنى باطل أنه يُترك، قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا﴾ [البقرة: 104] قال الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى-: ” نهاهم سبحانه أن يقولوا هذه الكلمة مع قصدهم بها الخير، لئلا يكون قوله ذريعة إلى التشبُّه باليهود في أقوالهم وخطابهم؛ فإنهم كانوا يخاطبون بها النبي ﷺ ويقصدون بها السبَّ، ويقصدون فاعلًا من الرعونة، فنُهي المسلمون عن قولها سدًّا لذريعة المشابهة، ولئلا يكون ذلك ذريعة إلى أن يقولها اليهود للنبي ﷺ تشبُّهًا بالمسلمين يقصدون بها غير ما يقصده المسلمون[6].

فينبغي للمسلم أن يحرص أن يكون كلامه بأحسن الألفاظ والعبارات، كما قال سبحانه: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الإسراء: 53] وقال: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: 83] فأحسن الألفاظ ما وافقت شريعة رب العالمين، في مبناها ومعناها ومقاصدها.

ومن مقاصد الشريعة العظيمة: مخالفة الكفار حتى في الأمور المباحة المشتركة بيننا وبينهم، كما كان هدي النبي ﷺ في تحري مخالفتهم في كل شي، ظاهرًا وباطنًا، ولابن تيمية كلام عظيم عن هذا المعنى، فيقول -رحمه الله تعالى-: ” مخالفتهم أمر مقصود للشرع فذلك لا ينفي أن يكون في نفس الفعل الذي خولفوا فيه مصلحة مقصودة مع قطع النظر عن مخالفتهم، فإن هنا شيئين:

أحدهما: أن نفس المخالفة لهم في الهدي الظاهر مصلحة ومنفعة لعباد الله المؤمنين؛ لِمَا في مخالفتهم من المجانبة والمباينة التي توجب المباعدة عن أعمال أهل الجحيم، وإنما يظهر بعض المصلحة في ذلك لمن تنوَّر قلبه حتى رأى ما اتصف به المغضوب عليهم والضالون من المرض الذي ضرره أشد من ضرر أمراض الأبدان.

والثاني: أن نفس ما هم عليه من الهدي، والخلق، قد يكون مضرًا، أو منقصًا، فيُنهى عنه ويُؤمَر بضده؛ لما فيه من المنفعة والكمال، وليس شيء من أمورهم إلا وهو إما مضر أو ناقص؛ لأن ما بأيديهم من الأعمال المبتدعة والمنسوخة ونحوها مضرة، وما بأيديهم -مما لم ينسخ أصله- فهو يقبل الزيادة والنقص، فمخالفتهم فيه: بأن يشرع ما يحصِّله على وجه الكمال، ولا يتصور أن يكون شيء من أمورهم كاملًا قط، فإذًا المخالفة لهم فيها منفعة وصلاح لنا في كل أمورهم، حتى ما هم عليه من إتقان بعض أمور دنياهم قد يكون مضرًا بأمر الآخرة، أو بما هو أهم منه من أمر الدنيا؛ فالمخالفة فيه صلاح لنا.

وبالجملة: فالكفر بمنزلة مرض القلب، وأشد، ومتى كان القلب مريضًا لم يصح شيء من الأعضاء صحة مطلقة، وإنما الصلاح: أن لا تشبه مريض القلب في شيء من أموره، وإن خفي عليك مرض ذلك العضو، لكن يكفيك أن فساد الأصل لا بد أن يؤثر في الفرع، ومن انتبه لهذا قد يعلم بعض الحكمة التي أنزلها الله، فإن من في قلبه مرض قد يرتاب في الأمر بنفس المخالفة؛ لعدم استبانته لفائدته، أو يتوهم أن هذا من جنس أمر الملوك والرؤساء القاصدين للعلو في الأرض، ولعمري إن النبوة غاية الملك الذي يؤتيه الله من يشاء وينزعه ممن يشاء، ولكن ملك: هو غاية صلاح من أطاعه من العباد في معاشهم ومعادهم.

وحقيقة الأمر: أن جميع أعمال الكافر وأموره لا بد فيها من خلل يمنعها أن تتم منفعة بها. ولو فرض صلاح شيء من أموره على التمام، لاستحق بذلك ثواب الآخرة، ولكن كل أموره: إما فاسدة، وإما ناقصة، فالحمد لله على نعمة الإسلام، التي هي أعظم النعم، وأم كل خير، كما يحب ربنا ويرضى [7].

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتبه/ محمد بن عبدالحفيظ

17 / جمادى الأولى / 1446هـ

الموافق: 19 / 11 / 2024م

……………………………………………..

[1] لسان العرب (1 / 154) دار صادر – ط3.

[2] الاستقامة (2 / 35) جامعة الإمام – ط1.

[3] انظر: المذاهب الفكرية المعاصرة (2 / 825) الدار العصرية – ط10.

[4] صحيح البخاري (1 / 20) رقم: (56)، وصحيح مسلم (3 / 1250) رقم: (1628).

[5] صحيح البخاري (1 / 6) رقم: (1) وصحيح مسلم (3 / 1515) رقم: (1907).

[6] أعلام الموقعين (4 / 7) دار عطاءات العلم – ط2.

[7] اقتضاء الصراط المستقيم (1 / 197) دار الكتب العلمية – ط7.


شارك المحتوى:
1