[[المختصر في أحكام البيع للبشر]]
بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهديه الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} ,
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا }
فإن خير الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ –صلى الله عليه وسلم-، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة
إن من حكمة الشريعة وتكاملها أن شرعت البيع وأجازته لأن فيه تناقلًا للمنافع، فلولا أن الشريعة أجازت البيع لعسُر علينا الانتفاع بكثير من الأمور، فبرحمة الله الذي لا إله إلا هو، وبحكمته وهو الحكيم العليم أنه أجاز لنا البيع.
لكن هذه الشريعة المطهرة بينت أن البيع جائز بشروط ثمانية، إذا لم توجد هذه الشروط لم يصح البيع، وتعلُّم هذه الشروط لمن يبيع ويشتري واجب حتى يعرف متى يحل البيع ويحرم.
الشرط الأول:
التراضي من البائع والمشتري، قال سبحانه: {إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم}، وثبت عند ابن أبي شيبة وعبد الرزاق عن أبي هريرة –رضي الله عنه- أنه قال: “إنما البيع عن تراضٍ”، فدل هذا أن البيع الذي يكون صاحبه مُكرهًا بغير اختيار لا يجوز شرعًا، ومعنى التراضي: ألا يكون مُكرهًا.
الشرط الثاني:
أن يكون البائع والمشتري جائز التصرّف، ومعنى (جائز التصرف في البيع): أن يكون عاقلًا رشيدًا، قال سبحانه: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم أموالهم}.
فمن كان صغيرًا لا يصح بيعه ولا شراؤه، ومن كان مجنونًا فلا يصح بيعه ولا شراؤه، ومن كان سفيهًا فلا يصح بيعه ولا شراؤه، أما المجنون فلا يصح مطلقًا بإجماع أهل العلم، أما السفيه والصغير فيصح بيعهما إذا أذن لهما وليهما.
وكذلك الصغير يصح بيعه وشراؤه فيما هو يسيرٌ عرفًا، كأن يشتري شيئًا بريالات ونحوها، فإن مثل هذا جائز شرعًا، فقد قال إسحاق بن راهويه –رحمه الله تعالى-: “اشترى أبو الدرداء عصفورًا من صبي”، فدل هذا على أن بيع الصغير للشيء اليسير عُرفًا جائز، أما أن يشتري الصغير شيئًا كثيرًا عُرفًا، فهذا لا يجوز شرعًا.
ومما ينبغي أن يُعلم أن البيع والشراء مع الفاسق والكافر جائز بإجماع أهل العلم، حكى الإجماع القرطبي –رحمه الله تعالى-.
الشرط الثالث والرابع:
معرفة الثمن والمُثمن، بأن يكون الثمن معروفًا للبائع والمشتري، والمُثمن معروفًا للبائع والمشتري، فلا جهالة في الثمن ولا جهالة في المُثمن، فإنه إذا وُجد جهالة في الثمن والمثمن فإن هذا من أكل أموال الناس بالباطل، والله سبحانه وتعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل}.
وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع الغرر.
إلا أن المُثمن يُعرف ويُعلم بأحد أمرين:
– الأمر الأول: بالمشاهدة.
– الأمر الثاني: بالوصف الدقيق.
أما ما عدا ذلك فإنه لا يجوز بيعه ولا شراؤه.
واعلم أنه لا يصح لأحد أن يقول: إن هذا المال مالي، أو: إن هذا المُثمن –كالسيارة مثلًا- سيارتي، فأنا راضٍ ببيعها بثمن مجهول غير معلوم، أو يقول العكس: أنا راضٍ أن أشتري سيارة مجهولة، أو أرضًا مجهولًا ..كل هذا لا يصح في الشريعة، لأن هذه الشروط حق لله لا يصح للمخلوقين أن يتراضوا على إسقاطها، فهي حق لله سبحانه، فمن باع واشترى أمرًا مجهولًا إما في الثمن أو في المثمن فإن بيعه حرام، وتملكه للثمن الذي هو المال أو للمثمن كالسيارات أو الأراضي أو غيرهما ..، تملك محرم.
الشرط الخامس:
القدرة على التسليم، لا يصح لأحد أن يبيع شيئًا ليست عنده قدرة على تسليمه، كأن يبيع طيرًا في الهواء، أو سمكًا في الماء، أو سيارة سُرقت منه، أو غير ذلك.
ويدل لذلك قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل}، وثبت عند أبي داود من حديث حكيم بن حزام –رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تبِع ما ليس عندك».
فما لم يستطع على تسليمه فإن بيعه محرم شرعًا، وقد بلغني أن بعض الناس يبيع بعض الأغنياء من أهل الصيد، حُبارى في السماء، فيُخبرهم أن هناك حبارى فيبيعهم إياها، وبيع هذا محرم شرعًا، ففرق بين بيعها في السماء وأخذ الثمن على ذلك، وبين أن يُخبرهم أن هناك حُبارى أو غيرها ويأخذ مالًا على إخباره، فأخذ المال على الإخبار جائز، أما بيعها وهي في السماء فهو محرم شرعًا.
الشرط السادس:
أن يكون المُثمن مملوكًا عند العقد، فلا يصح لأحد أن يبيع شيئًا لا يملكه، فمن باع شيئًا لا يملكه فهو من أكل أموال الناس بالباطل، وقد نهى الله عنه وهو من بيع الغرر، وداخل في حديث حكيم بن حزام –رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تبع ما ليس عندك».
وبعض الناس قد يأتيه رجل يريد أن يشتري منه شيئًا في متجره، فيبيع هذا الشيء وهو لا يملكه وفي نيته أن يذهب وأن يشتريه من المكان الفلاني أو المكان الفلاني، ومثل هذا محرم شرعًا ولا يجوز، فإنه من بيع ما لا يملك.
الشرط السابع:
أن يكون العقد منجّزًا، وعلى هذا المذاهب الأربعة، بل هذا كلام العلماء الأولين، فلا يصح لأحد أن يبيع بيعًا معلّقًا، يقول: أبيعك هذه السيارة إذا رضي زيدٌ، أو: أبيعك هذا الجوال إذا جاء الشهر الفلاني ..إلى غير ذلك، فهذا كله بيع معلّق، والبيع المعلق محرم شرعًا.
الشرط الثامن:
أن تكون منفعة العين مباحة، فلا يصح لأحد أن يبيع عينًا لا منفعة فيها، وعلى هذا المذاهب الأربعة، بل حكاه النووي إجماعًا.
وكذل لو كانت فيها منفعة محرمة فإن بيعه محرم، كما شاع في كثير من المحلات من بيع كثير من المحرمات، كبيع الدخان، أو الشيشة، أو المجلات التي تحتوي على الصور العارية، أو غير ذلك من البيع المحرم، بل بعض الناس يترقّب أعياد الكفار فيبيع بطاقات فيها تهنئة بأعياد الكفار ..إلى غير ذلك.
فكل بيع محرم شرعًا لا يجوز، وكذلك كل ما لا منفعة فيه لا يجوز بيعه.
إخوة الإيمان: هذه شروط البيع الثمانية، إن من أراد أن يبيع ويشتري فيجب عليه أن يتعلمها حتى يُقدم على علمٍ وبيّنة، وأن لا يأكل حرامًا.
اللهم يا من لا إله إلا أنت، اللهم يا رحمن يا رحيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين.
أقول ما تسمعون ، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فإن تعلم العلم الشرعي ما بين واجب ومستحب، ومن صور التعلم الشرعي الواجب هو أن من أراد أن يتعامل بشيء فيجب عليه أن يتعلم أحكامه الشرعية، فيجب على صاحب المال أن يتعلم أحكام الزكاة، ويجب على البائع والمشتري أن يتعلم أحكام البيع ..إلى غير ذلك.
وإن مما يُتحسّر له أن كثيرًا من المسلمين يجهل المسلمات في شريعة رب العالمين، فيبيع ويشتري بجهل، يأكل مالًا حرامًا، ويُؤكّل أبناءه وأزواجه مالًا محرمًا، لأنه يبيع ويشتري بجهل من غير علم، ويتساهل في هذا الأمر.
واعلموا أن من فرّط ولم يتعلم العلم الشرعي فوقع في المحرم جهلًا فإن عليه وزرين، الوزر الأول: وزر التفريط، والوزر الثاني: وقوعه في المحرم، بيّن هذا ابن عبد البر –رحمه الله تعالى- والقرافي –رحمه الله تعالى-.
إذن تساهل بعض الناس بحجّة أنه جاهل ليس عذرًا شرعيًا.
يا لله، كم ترانا لا نُسبق في تعلم أمور الدنيا، بل من تفاهات أمور الدنيا، فإذا جاء أمر الدين صرنا أجهل الناس بأحكام شريعة رب العالمين، وإنه قد تيسّرت سبل تعلم العلم الشرعي لما يسّر الله الشبكات العنكبوتية، فعلى ما فيها من شر إلا أن فيها خيرًا كثيرًا.
بإمكانك أن تستمع إلى دروس للشيخ العلامة عبد العزيز بن باز –رحمه الله تعالى-، أو الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني –رحمه الله تعالى-، أو الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين –رحمه الله تعالى-، أو الشيخ العلامة صالح بن فوزان الفوزان –حفظه الله تعالى-، أو من غيرهم من الموثوقين في العلم الشرعي.
بإمكانك أن تتعلم العلم الشرعي إذا أردت أن تبيع وتشتري استمع درسًا أو درسين لهما، فإنك تزداد علمًا وتأخذ أجرًا.
أخرج مسلم من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: «من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهّل الله له به طريقًا إلى الجنة».
وأخرج البخاري ومسلم من حديث معاوية بن أبي سفيان –رضي الله عنهما- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: «من يُرد الله به خيرًا يفقهه في الدين».
اللهم ارزقنا العلم النافع والعمل الصالح
اللهم ارزقنا العلم النافع والعمل الصالح
أسأل الله أن يؤمن المسلمين في بلدانهم
اللهم أمّن المسلمين في بلدانهم
اللهم من أراد بهم فتنة وشرًا فرد كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميرًا عليه.
اللهم وفِّق ملكنا سلمان بن عبدالعزيز لعز دينك وإعلاء كلمتك .
اللهم اجزه عنّا وعن المسلمين خيرًا
د. عبدالعزيز بن ريس الريس
المشرف العام على موقع الإسلام العتيق
@dr_alraies