رد الشيخ: أبو فريحان جمال بن فريحان الحارثي – حفظه الله- على شُبهة خروج الحسين –رضي الله عنه- على يزيد بن معاوية-
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد وعلى آلـه وصحبه أجمعين.
فالـرَّد على الشُبهة التِّي ألقيت وهي أن الحُسين بن علي –رضي الله عنها وأرضاه- خرج على يزيد بن معاويـة –رحمه الله-، وأضفُ أيضًا إلى هذه الشُبهة شُبهة خروج عبد الله بن الزبيْر –رضي الله عنه- على الحجَّاج، وشُبهة أيضًا خروج بن الأشعث، وهذه شُبهة على شُبهة تُقوِّي بعضها بعضًا ويطير بها أهل الأهواء، ولكن أهل السُنَّـة ينسفونها من جذورها بالكتاب والسُنَّـة وأقوال أهل العلم المعتبرين.
فأقول وبالله التوفيق: في هذه الليلة، ليلة الثلاثاء، ليلة الثامن والعشرين من شهر صفر عام 1432ه، الموافق لـليلة الأول من شهر فبراير عام 2011م.
هذه الشُبهة قويَّة جدًا وقد تكلَّم أهل العلم عنها قديمًا وحديثًا ونُريد إخواننا الذِّين لم يقفوا على كلام أهل العلم في رد هذه الشُبهة أن يقفوا عليه، ويكون لهم سندًا وقوة لكي يقفوا أمام أهل البدع والأهواء.
الـرَّد على هذه الشُبهة من وجوه، وسأختصر بقدر الاِستطاعة:
الوجـه الأول: أننا أمرنا في حال الاِختلاف أن نرُد الأمر لكتاب الله وسُنَّة رسولـه –صلَّى الله عليه وسلَّم- إذ قال الله –سبحانه وتعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّـهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء: 59].
هذا أمر، فمهما اختلفنا فنرد الاختلاف للكتاب والسُنَّة، ماذا قال الكتاب والسُنَّـة؟ السُنَّـة جاءت بأحاديث، عشرات الأحاديث تتكلَّم عن عدم جواز الخروج على الحاكم المسلم وإن ظلم وإن جار وإن عصى وإن أكل مالك وإن ضرب ظهرك، اِسمع وأطع، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، فلتنظر في مواطنها.
الوجه الثاني: هذه الفتنـة، وهي من التشابه من القول والأخذ بالمحكم أوْلى وأوجب في زمن الفتنة وغيره، فالأمـر بعدم الخروج على الحاكم المسلم هو الأصل الذِّي جاءت به النصوص الشرعيَّة المحكمـة، وهو قـول أهل العلم والاِستقامـة.
وأمَّا الخروج على الحاكم فهو من الاِجتهاد الفردي وهو من المتشابه، والمتشابه من القول لا يتبعه إلَّا الزيغ والفساد والأهواء، قال تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّـهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ﴾ [آل عمران: 7]. وفي الحديث المتفق عليه عن عائشة –رضي الله عنها- قالت: تلا رسول الله –صلَّى الله عليه وسلَّم- الآية:
﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّـهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾. قالت: قال رسول الله –صلَّى الله عليه وسلَّم-: «فإذا رأيتِ الذِّين يتَّبعون ما تشابه منه فأولئِك الذِّين سمَّى الله فاحذروهم». فمن ترك النصوص الثابتة المحكمة الـواردة في النهي عن الخروج على الحاكم المسلم مهما كان ظلمه وفسقه ومعصيته وتمسَّك بالمتشابه من القول أو بفعل آحاد السَّلف معهم مهما كانت مخالفته مع مخالفة جماهير الأمَّـة لـه، فإن المتمسِّك بالمتشابه من القول أو بفعل آحاد السَّلف مع مخالفة جماهير الأمَّة له فإنه ممن سمَّاهم الله تعالى وبيَّن حالهم النبِّي –صلَّى الله عليه وسلَّم- في الحديث الآنف الذكر، وحذَّرنا منهم ومن طريقتهم، وهم الذِّين في قلوبهم ميلٌ عن الحق واِنحراف عنه.
فالأحاديث التِّي جاءت عن النبِّي – صلَّى الله عليه وسلَّم- الثَّابتة المحكمة كثيرة وكثيرة جدًا، فمن ذلك قولـه صلَّى الله عليه وسلَّم- في الحديث عند البخاري وغيره: (من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر)، ما قال فليخرج، (… فإن من فارق الجماعة شبرًا فمات فميتته جاهلية).
وقال – صلَّى الله عليه وسلَّم-: (إنَّكم ستلقون بعدي أثرة)، يعني يستأثرون بالأموال والمناصب والجاه عنكم، قال: (فاصبروا حتى تلقوني على الحوض). متفق عليه.
أيضًا من الـرَّد عليهم: هذا حديث حُذَيْفَةُ بن الْيَمَانِ رضي الله عنه قال:قلت: يا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا كنا بِشَرٍّ فَجَاءَ الله بِخَيْرٍ فَنَحْنُ فيه فَهَلْ من وَرَاءِ هذا الْخَيْرِ شَرٌّ قال نعم قلت هل وَرَاءَ ذلك الشَّرِّ خَيْرٌ قال نعم قلت فَهَلْ وَرَاءَ ذلك الْخَيْرِ شَرٌّ قال نعم قلت كَيْفَ قال يَكُونُ بَعْدِي أَئِمَّةٌ لَا يَهْتَدُونَ بِهُدَايَ ولا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ في جُثْمَانِ إِنْسٍ قال قلت كَيْفَ أَصْنَعُ يا رَسُولَ اللَّهِ إن أَدْرَكْتُ ذلك قال تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلْأَمِيرِ وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ وَأُخِذَ مَالُكَ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ). رواه مسلم.
الوجه الـثالث: أن الحُسين –رضي الله عنه- وابن الزُبير –رحمه الله- تأوَّلـوا واجتهدوا، غير مُتعمِّدين المعصية، وليس تأويلهم تأويل الخوارج الجهَّال الذِّين خرجوا على الصحابة خيار النَّاس، بل اِجتهدوا وظنُّوا أن الحق معهم، فهم بين رجلين كما في الحديث، عن عمر بن العاص أنه سمع النبِّي – صلَّى الله عليه وسلَّم- يقول: (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر). متفقٌ عليه.
الوجه الرابع: أحاول أختصر حتى لا أطيل عليكم بارك الله فيكم.
أن خروج الحسين كان على أساس أن القوم كاتبوه ثم أنَّ مسلم بن عقيل وهو ابن أخ الحسين – رضي الله عنهم جميعًا- أخذ البيعة لـه، وتتالت عليه الكُتب حتَّى أن من أواخر الكُتب التِي جاءته، فيها: “بسم الله الرحمن الرحيم. للحسين بن علي من شيعة أبيه أمير المؤمنين أما بعد؛ فإن النَّاس ينتظرونك ولا رأي لهم إلى غيرك، فالعجل العجل”.
وجاءه كتاب من الكتب، فيه: “كتب أهل الكوفة إلى الحسين يقولون: ليس علينا إمام، فأقبل لعلَّ الله أن يجمعنا بك على الحق”.
فهذه الكُتب التِّي توالت على الحسين تُبيِّن أنهم ما كان لهم أمير، وهذا هو الذِّي كان يعتقده أن القوم هناك لا أمير لهم، وأنهم لم يقبلوا بيزيد، فذهب على هذا الأساس.
مع هذا الاِجتهاد ننتقل إلى …
الوجه الخامس؛ وهو أن الحسين –رضي الله عنه- وابن الزبير أيضًا خالفوهما الصحابـة رضي الله عنهم أجمعين، كبار الصحابة خالفوهما، وكبار التابعين خالفوا و أنكروا على ابن الأشعث أيضًا.
روى البخاري في صحيحه، يرويه إلى نافع قال: “لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع ابن عمر حشمه وولـده فقال إني سمعتُ رسول الله –صلَّى الله عليه وسلَّم- يقول: (يُنصبُ لكلِّ غادر لواءٌ يوم القيامـة)، وإنَّا قد بايعنا هذا الرَّجل” يعني يزيد بن معاوية؛ ” … على بيع الله ورسولـه، وإنِّي لا أعلم غدرًا أعظم من أن يُبايع رجلٌ على بيع الله ورسولـه ثم ينصبُ لـه القتال، وإنِّي لا أعلم أحدًا منكم خلعه ولا بايع في هذا الأمر إلَّا كانت الفيصل بيني وبينه“. ويقول شيخ الإسلام بن تيمية –رحمه الله-: “
لمَّا أراد الحسين –رضي الله عنه- أن يخرج إلى أهل العراق، لما كاتبوه كُتب كثيرة أشار عليه أفاضل أهل العلم والدِّين كابن عمر وابن عبَّاس وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ألَّا يخرج”.
وذكر الحافظ بن كثير –رحمه الله- عندما ذكر في كتابه البداية والنهاية قتال أهل المدينة ليزيد، قال: “وقد كان عبد الله بن عمر بن الخطاب وجماعات أهل بيت النبوة ممن لم ينقض العهد ولا بايع أحدًا بعينه بعد بيعته ليزيد“. وقال أيضًا في موضع آخر في خروج الحسين: “
لما استشعر النَّاس خروجه أشفقوا عليه من ذلك وحذَّروه منه وأشار عليه ذوو الرَّأي منهم والمحبَّة له بعدم الخروج إلى العراق، وأمروه بالقيام بمكة، وذكروا ما جرى لأبيه وأخيه معهم“.
وهذا عبد الله بن عباس يقول: “استشارني الحسين بن علي في الخروج فقلتُ: لو لا أن يزري بي النَّاس وبك لنشبتُ يدي في رأسك فلم أتركك تذهب“. وهذا أيضا عبد الله بن عمر بن العاص يتأسف فيقول: “
عجَّل حسين – رضي الله عنه- قدره، والله ولو أدركته ما تركته يخرج إلَّا أن يغلبني“.
وهذا أبو سعيد الخذري أيضًا يقول مثل ذلك أو قريبًا من ذلك، وهذا عبد الله بن مطيع العدوي –رضي الله عنه، كلُّهم ينكرون على الحسين وكانوا ينصحون له ويُشدِّدون إلَّا أن قدر الله كان نافذًا في ذلك.
الوجه السادس: أن هذه الفتنة أو الخروج على الحجَّاج كما ذكر غير واحد من أهل العلم أنه ليس بسبب الفسق، بل كان بدفاع الكُفر عند من رأوا الخروج عليه، كما ذكر ذلك النووي في شرحه على مسلم، قال: “قيامهم على الحجَّاج ليس بمجرد الفسق، بل لمَّا غيَّر في الشرع وظاهر الكفر”.أيضًا الوجه السابع: أن الخروج كان عند بعض السلف اِجتهادًا، ولهذا كانوا يقولون عن بعضهم: أنه يرى السَّيف ثم الإجماع استقر –أعني إجماع المسلمين أهل السُنَّـة- استقر بعد ذلك على منع الخروج على الحاكم إلَّا في حالـة الكُفر الصريح فقط، وبشرطه وضوابطه أيضًا، ليس كلَّ كُفر يُخرج عليه أو كلُّ من رُئي عليه كُفرًا نخرج عليه، لا.
يقول الحافظ ابن حجر: “كانوا يقولون أنه كان يرى السَّيف، أي؛ يعني: أنه كان يرى الخروج بالسَّيف على أئمة الجور، وهذا مذهبٌ للسَّلف قديم. لكن استقر الأمر على ترك ذلك لمَّا رأوه قد أفضى إلى أشدَّ منه، ففي وقعة الحرَّة ووقعة ابن الأشعث وغيرهما عظة لمن تدبَّر”.
أيضًا النووي –رحمه الله- نقل عن القاضي عياض قولـه: “وقيل إن هذا الخلاف كان أولاً، ثم حصل الإجماع على منع الخروج عليهم”.
ولهذا قال شيخ الإسلام بن تيمية في كتابه منهاج السنَّة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية في المجلد الرَّابع، قال: “ولهذا اِستقرَّ أمر أهل السُنة على ترك القتال في الفتنة للأحاديث الصحيحة الثَّابتة عن النبِّي – صلَّى الله عليه وسلَّم- وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم ويأمرون بالصبر على جور الأئِمـة وترك قتالهم وإن كان قد قاتل في الفتنة خلقٌ كثير من أهل العلم والدِّين”. فاحفظوا هذا بارك الله فيكم.
أسأل الله – سبحانه وتعالى- أن يجعلني وإيَّاكم ممن يستمع القول فيتَّبع أحسنه، ولا يفتوني في آخر التعليق أن هذه الفتنة التِّي حصلت في زمن الحسين مع يزيد وابن الزبير، هذه كلّها لا تصلُح للاستدلال، ولا يصِح بها الاِستدلال على الأحاديث الصحيحة وكلام النبِّي – صلَّى الله عليه وسلَّم-، إذ أنه لو كان هناك كلامٌ للصحابـة موقوف عليهم وجاءنا حديث للنبي صلى الله عليه وسلم- مرفوع ثابت؛ فإنه يُقدَّم كلام النبِّي – صلَّى الله عليه وسلَّم-.
فكيف إذا لم يكن هناك دليل على جواز الخروج ؟
وأضف إلى ذلك إجماع أهل السُنة على إنكار الخروج على من خرج على ولاة الأمر، برًا كان أو فاجر.
بالإضافة إلى أن الحسين – رضي الله عنه وأرضاه- ما قاتل يزيد وما خرج لقتالـه أصلاً، هو خرج إلى العراق لمن بايعه وكاتبوه، ويزيد في الشام، وفي الطريق تراجع الحسين وخيَّرهم في ثلاث، قال: إما تتركوني أرجع، وإما تذهبوا بي إلى يزيد، وإما تتركوني أذهب إلى ثغر من الثغور. فأبوْا إلَّا أن يُقاتلوه والقصة طويلة لا أريد أن أتكلَّم في مقتله. فقاتلوه وهو مُكره وعلى قِلَّة من أهل بيته.
بارك الله في الجميع، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد وعلى آلـه وصحبه أجمعين.
تم بحمد الله …