بسم الله الرحمن الرحيم
التضخم ، وصورية العقود ، لا تلغي حقيقة النقود
إلى الأخ المكرم محرر الرياض الاقتصادي حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،
إشارة إلى مقالي الدكتور حمزة بن محمد السالم-وفقه الله- في جريدة الرياض على النحو التالي :
المقال الأول بعنوان ” الصيرفة الإسلامية اعتبارا للقصد أم الصورة” ، المقال الثاني بعنوان :” تناقص قيمة الأوراق النقدية أصل فيها لاطارئ ” نشر في يوم الأربعاء في 14/4/1429 العدد 14548 ، وهذان المقالان ، تم التركيز فيهما على مسألة الأوراق النقدية ، من حيث التكييف الفقهي لها . وكم كان بودي أن تكون هذه المقالات موضوعية في تناول هذه المسألة الهامة، ولكن مما يؤسف له أن يكون التناول ، بهذا التعسف والإقصائية للرأي الآخر الذي يرى: بأن الأوراق النقدية تعد جنسا مستقلا لها حكم الذهب والفضة ، خاصة وأن هذا الرأي ، هو الذي الذي أجمعت عليه جميع الهيئات الشرعية المعروفة في العالم الإسلاميمثل مجمع الفقه الإسلامي ، والمجمع الفقهي الإسلامي ، وهيئة كبار العلماء في هذه البلاد ، وهو الذي عليه عمل المسلمين في أنحاء الدنيا . وأنا هنا لا أكتب معترضا على رأي الكاتب فيما يخص حقيقة الأوراق النقدية ، فهو رأي معروف لبعض العلماء ، ولكن أعترض على الطريقة الأسلوب في عرض هذا الموضوع الخطير . فلم يكن كلامه في هذا الموضوع مستندا إلى أسس علمية تنبني على الدليل ، وإنما بناها مستندا على أسماء لبعض العلماء في القديم والحديث ، واقتصر فيها على رأي واحد من غير ذكر لوجهات النظر الأخرى إلا على سبيل الإقصاء والتغييب، وهذا ليس موضوعيا في الطرح العلمي.
ومن أجل إيضاح وجهة النظر التي عليها عمل المسلمين كلهم في شتى أنحاء الأرض ، فلابد من التوضيح الآتي :
أولا : إن الأوراق النقدية من الأمور الحادثة التي لم تعرف إلا في أوائل القرن الماضي ، ولذا فإن العلماء القدامى لم يتحدثوا عنها ، فلا يصح قول الكاتب بأنالرأي القائل ” بأن القول بجريان الربا في الأوراق النقدية المعاصرة ” على خلاف مذاهب الأئمة الأربعة ، لأن هذه الأوراق النقدية لم تكن في عصرهم ، ولكن العلماء المعاصرين اجتهدوا في هذه المسألة وألحقوها بالقواعد الأساسية التي ذكرها العلماء فيمن قبلهم .
ثانيا : إن أهم الأقوال في الأوراق النقدية : 1- أنها إسناد بدين 2- أنها عروض 3- أنها فلوس 4- أنها متفرعة عن ذهب أو فضة ، وأجناس تتعدد بتعدد جهات إصدارها 5- أنها نقد قائم بنفسه كالذهب والفضة وغيرهما من الأثمان مما يلقى قبولا عاما كوسيط للتبادل بين الناس ، وإن العملات الورقية أجناس تتعدد بتعدد جهات إصدارها . وكل قول من هذه الأقوال له أدلة يستدل بها ، وهي جميعا لا تسلم من المعارض ، فيبقى النظر في مآل هذه الأقوال عند التطبيق ، مع النظر في مقاصد الشريعة ، وتحقيق الأقوال في علة الذهب والفضة أذكرها بإيجاز على النحو التالي:
إن العلماء سوى الظاهرية قد اتفقوا على أن الأصناف الربوية معللة ، وأن علة النقدين واحدة ، وعلة الأصناف الأربعة ( التمر والشعير والبر والملح) واحدة ، واختلفوا في العلة على أقوال: فمذهب المالكية والشافعية بأن العلة غلبة الثمنية ، والتعليل بهذه العلة تعليل قاصر من حيث المعنى ؛ لأننا نبحث عن علة يصح القياس عليها من غير الذهب والفضة ، والتعليل بهذه العلة يجعلها مقصورة على الذهب والفضة . فلا تكون هناك فائدة من ذلك . وهي كذلك منقوضة بالفلوس طردا إذا راجت فهي تكون أثمانا ولا يجرون فيها الربا ، ومنقوضة بأواني الذهب والفضة عكسا ، فهي ليست أثمانا ويجرون فيها الربا.
ومذهب الحنفية والحنابلة في المشهور عنهم أن العلة في النقدين هي الوزن ، وهذه العلة منقوضة بالإجماع ؛ لأنهم قد أجمعوا على صحة السلم في الموزونات كالحديد والنحاس ، فلو كانت العلة في النقدين هي الذهب والفضة ، لما صح أن يسلما في موزون .
القول الثالث : وهو رواية عن الإمام مالك و رواية عن الإمام أحمد -رحمهما الله- ، اختارها شيخ الإسلام بن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله بأن العلة هي الثمنية ، قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى ج 19 ص 251-252 :” وأما الدرهم والدينار فما يعرف له حد طبعي ولا شرعي ، بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح ، وذلك لأن في الأصل لا يتعلق المقصود به بل الفرض أن يكون معيارا لما يتعاملون به ، والدراهم والدنانير لا تقصد بنفسها بل هي وسيلة إلى التعامل بها ، ولهذا كانت أثمانا بخلاف سائر الأموال ، فإن المقصود الانتفاع بها نفسها فلهذا كانت مقدرة بالأموال الطبيعية أو الشرعية ، والوسيلة المحضة التي لا يتعلق بها غرض لا بمادتها ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيف ما كانت . أهـ “
وهذا القول هو الذي أخذ به أهل التحقيق من علماء العصر أمثال ” الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله تعالى انظر فتاوى اللجنة الدائمة 13/267-268 ؛ /398 ، وقرار المجمع الفقه الإسلامي في دورته الثالثة ، وهو قول الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله تعالى كما في مجموع فتاوى ورسائل ج9 /ص410 ، وهو قول أكثر علماء العالم الإسلامي في شرقه وغربه .
ثالثا : إن المرجعيات الإسلامية المعتبرة قد توصلت إلى هذا القول بعد مناقشة مستفيضة لكل الآراء المطروحة في هذه المسألة ،واعتبروا أن الورق النقدي يعتبر نقدًا قائمًا بذاته كقيام النقدية في الذهب والفضة وغيرهما من الأثمان، ومن القرارات في ذلك : قرار المجمع الفقهي الإسلامي المنضوي تحت رابطة العالم الإسلامي في دورته الخامسة ، وكذلك هو قرار مجمع الفقه الإسلامي المنبثق من منضمة المؤتمر الإسلامي في دورته الثالثة ، وهو قرار هيئة كبار العلماء في هذه البلاد المتخذ في الدورة الثالثة ، وهو قرار اللجنة الدائمة للإفتاء. وهذه القرارت كانت قرارات جماعية مبنية على النظر والتمحيص ،فيكون القول المخالف لهذه المرجعيات قولا شاذا لا يعتد به .
رابعا : لا أريد أن أدخل في نقاش جدلي حول ما نقله عن شيخ الإسلام ابن تيمية من حيث توثيق النقل عنه وعن غيره ، والتعسف في نقل النصوص ، ولكن لابد أن نستحضر في الذهن بأن هذه المسألة لم تحدث في زمن شيخ الإسلام ولا في زمن الأئمة من قبله ، فلا يسوغ أن ينسب – لهما أو لغيرهما من العلماء المتقدمين- قول في حقيقة الأوراق النقدية المعاصرة .
خامسا : إن نقله عن الشيخ ابن سعدي -رحمه الله- لم يكن دقيقا ، فإن الشيخ-رحمه الله- لم يلتزم بلوازم القول إن الأوراق النقدية عروض ، فهو مناقض لقوله بأنها عروض ، فقد قال رحمه الله “إن الأنواط حكمها حكم فلوس المعدن تجب فيها الزكاة وغيرها من العبادات المالية، وتتمول في جميع المعاملات، فلا يجري فيها ربا الفضل ، فيجوز بيع بعضها ببعض بالنقد متماثلاً ومتفاضلاً، إذا لم يكن في ذلك أجل، وهذا حاصل حكمها على وجه الإيجاز” .اهـ. ثم قال فضيلة الشيخ عبد الرحمن السعدي : “وأما منعي لبيع بعضها ببعض أو مع أحد النقدين مؤجلاً ، فهو لسد باب الربا النسيئة، ومن أصول الشريعة سد أبواب الربا الصريح بكل طريق”. اهـ . ينظر رسالة (زكاة الأوراق) للأستاذ محمد نبهان الخباز : 40.
سادسا: إن القول الذي يراه الدكتور حمزه -وفقه الله- بـأن الأوراق النقدية مجرد عروض يلزم منه مايلي:
•1- عدم جواز السلم بها لدى من يقول باشتراط أن يكون رأس مال السلم نقدا من ذهب أو فضة أو غيرهما من أنواع النقد ؛ لأن الأوراق النقدية بمقتضى هذا القول عروض ، وليست أثمانا .
•2- عدم جريان الربا بنوعيه فيها ، فلا بأس ببيع بعضها ببعض متفاضلة يدا بيد أو نسيئة ، فيجوز بيع العشرة بخمسة عشر أو أقل أو أكثر كما يجوز بيع بعضها ببعض أو بثمن من الأثمان الأخرى كالذهب أو الفضة نسيئة
•3- لا مانع من أخذ الفوائد على الودائع النقدية .
•4- عدم وجوب الزكاة فيها ما لم تعد للتجارة ؛ لأن من شروط وجوب الزكاة في العروض إعدادها للتجارة .
ومن القواعد المقررة في الشريعة بأن لازم القول إذا كان باطلا دل على بطلان القول ، وليس بطلان القول طعنا فيمن قال به من العلماء ، فهم علماء مجتهدون يصيبون ويخطئون ، فهم بين أجر أو أجرين ، إذا اجتهدوا وسعهم في طلب الحق ، ومع هذا فإنه إذا تبين خطأ هذا الاجتهاد وجب رده عليه كائنا من كان .
ويكفي في بطلان هذا القول : أن تعامل الناس في العصر الحاضر ليس ذهبا ولا فضا ، بل لو أنك أعطيت أحدا أجره ذهبا أو فضة لما قبل منك ذلك ، والمال إذا أطلق الآن ينصرف إلى الأرصدة في البنوك . فلو قيل بهذا القول ، لبطل ربا البيوع في الأوراق النقدية التي هي غالب أموال الناس . والأخذ بهذا القول يفتح باب الربا على مصراعيه، فتصبح كل معاملة ربوية حلالا تحت هذا الستار، فإن المقرض إن أراد الربا ، باع نقوده الرمزية من الآخر بنقود رمزية أكثر من قيمة ما دفعه.
سابعا : إن القول بأن الأوراق النقدية عروض مبني على القياس على الفلوس ، وهو قياس مع الفارق الكبير، وإذا كان أصحاب هذا القول يزعمون أن قياس الأوراق النقدية على الذهب والفضة بجامع الثمنية – قياس مهترئ ، فإن قياس الأوارق النقدية على الفلوس أشد اهتراء من وجوه :
•1- أن الأوراق النقدية بمزيد قبولها وكثرة رواجها في المعاملات ، وطغيانها على سائر الأثمان في سوق المعاوضات ، صارت موغلة في الثمنية إيغالا لا تقصر دونه الفلوس-فحسب- بل نقود الذهب والفضة ، بعد ندرة التعامل بهما في المعاوضات .
•2- إن في انتقال الأوراق النقدية من أصلها العرضي إلى الثمنية ، قوة أفقدتها القدرة على رجوعها إلى أصلها في حال إبطالها ، بخلاف الفلوس ، فهي إذا كسدت أو أبطل السلطان التعامل بها ، فلها قيمة في نفسها كسائر العروض .
•3- ولأن قيمة العروض تنبع من ذاتها وليس من أمر خارج ، والأوراق النقدية ليس لها قيمة ذاتية ، فإنها مجرد أوراق فكيف يصح القول بأنها عروض ؟
•4- ولأن المقيس عليه وهو الفلوس محل خلاف بين العلماء ، فإن هناك من ألحقها بالذهب والفضة ، فلا يجيز النساء ، ولا يجوز التفاضل بينهما إلا يدا بيد ومنهم الإمام مالك-رحمه الله- حيث جاء عنه في المدونة ج8 ص 305″ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود، حتى يكون لها سكة وعين، لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة ؛ لأن مالكًا قال : لا يجوز فلس بفلسين، ولا تجوز الفلوس بالذهب والفضة ولا بالدنانير نظرة قلت : أرأيت إن اشتريت خاتم فضة أو خاتم ذهب أو تبر ذهب بفلوس فافترقنا قبل أن نتقابض أيجوز هذا في قول مالك ؟ قال : لا يجوز هذا في قول مالك لأن مالكا قال : لا يجوز فلس بفلسين ، ولا تجوز الفلوس بالذهب والفضة ولا بالدنانير نظرة . ” أهـ. فكيف بالإمام مالك لو رأى تعامل الناس بالأوراق النقدية في العصر الحاضر؟
•5- إن إلحاق الفرع بالأصل في الحكم لايلزم منه التطابق مع الأصل في الشكل والصورة ، وإنما المقصود به الإلحاق بعلة حكم الأصل وهو المقصد من الذهب والفضة ، قال شيخ الإسلام -رحمه الله- في مجموع الفتاوى – (ج 29 / ص 471-472) :”والمقصود هنا الكلام فى علة تحريم الربا فى الدنانير و الدراهم و الأظهر أن العلة فى ذلك هو الثمنية … و التعليل بالثمنية تعليل بوصف مناسب فان المقصود من الأثمان أن تكون معيارا للأموال يتوسل بها الى معرفة مقادير الأموال و لا يقصد الانتفاع بعينها ” أهـ ومما لاشك فيه -للمتأمل- أن إلحاق الأوراق النقدية بالذهب والفضة ألصق بكثير من إلحاقها بالفلوس التي حتى لو راجت فهي رديئة القيمة ، فالأوراق النقدية الآن هي السائدة في تعامل أهل الأرض كلهم ، وهذا هو الذي يقتضيه النظر الصحيح .
ثامنا: إن القول بأن الأوراق النقدية عروض قد انبنى على أصل آخر وهو التضخم ، كما في بحث الدكتور محمد بن سليمان الأشقر-حفظه الله- ، والمقال الثاني للدكتور حمزة -وفقه لله- ، بحكم أن النقود تنخفض بشكل مطرد بخلاف الذهب فإنه مستقر نسبيا ، ويجاب عن ذلك بعدة أمور:
•1- إن القول بأن الأوراق النقدية نقد مستقل بذاته كالذهب والفضة ليس مبنيا على أنه فرع عن الذهب والفضة ، بل على أنه يأخذ حكمهما في الصرف وغيره ، ومادامت العملة النقدية رائجة فلا يلتفت إلى مايعتريها من نقص أو زيادة لأنه أمر معتاد ، ولايغير من كون الأوراق النقدية قيم الأشياء كالذهب والفضة.
•2- إن اعتبار القيمة في رد الدين الناتج عن القرض أو البيع ونحوه ، قول ضعيف مخالف للمشهور من مذاهب الأئمة الأربعة بأن الاعتبار هو بالمثل ، وبه أخذ مجمع الفقه الإسلامي في دورته الخامسة المنعقدة في الكويت ، بعد مناقشة البحوث المقدمة في ذلك ، فهو أمر مستقر عند العلماء قديما وحديثا بأنه لا أثر للإرتفاع أو الانخفاض في سعر الصرف على الدين الثابت في الذمة سواء كان محل العقد قرضا أو ثمنا في بيع مؤجل ، وإنما يلزم المدين برد مثل ما أخذ أو التزم سواء زاد السعر أو نقص ،مادامت العملة رائجة ، وإنما يصار إلى القيمة عند تعذر المثل ، أو بطلان العملة.
•3- ولأن هذا الاعتبار لمسألة التضخم ، تم النظر فيه إلى جانب واحد ، وهو:جانب الدائن ؛ بحجة رفع الظلم عنه ، ولكن هذا النظر قد قصر عن: نظر آخر وهو : أن دفع هذا الظلم لايكون إلا بظلم المدين ، فلو باعه ما يساوي عشرة آلاف ريال مؤجلة ، وحين حل السداد صارت القيمة الفعلية للدين عشرين ألف ريال ، فكيف يكون عدلا أن يقال له ادفع عشرين ألف ريال ؟ فالضرر اللاحق بأحد طرفي العقد لايجوز إزالته بضرر مثله ، فالظلم لايزال بالظلم.
•4- ولأن حصول النقص على أحد الطرفين بسبب تغير القيمة من باب الجوائح التي تصيب المال ، وهذا لايبيح المحرم وهو الربا. وقد ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري،وأبي هريرة رضي الله عنهما {أن eوسلم استعمل رجلا على خيبر فجاءه بتمر جنيب فقال e أكل تمر خيبر هكذا قال لا والله يا رسول الله إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة فقال e لا تفعل بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا} ، فقد اعتبر في هذا الحديث التماثل في القدر ولم يعتبر القيمة ؛ لأن الجنيب كان أغلى من الجمع بكثير وأكثر قيمة وأجود ولكن e أهدر الجودة والرداءة في مبادلة بعضها ببعض وأوجب التماثل في القدر ؛ فدل على عدم اعتبار القيمة فيما كان ربويا.
•5- ولأن مقتضى هذا القول -باعتبار القيمة في سداد الدين- تحليل لربا الديون المجمع على تحريمه.
تاسعا : إن وجود الخلاف ليس مسوغا لأن يكون الاختيار مبنيا على الأهواء ، فقد قال الشاطبي -ر حمه الله -في الموافقات ج 4 ص141-142 :”…ووقع فيما تقدم وتأخر من الزمان الاعتماد فى جواز الفعل على كونه مختلفا فيه بين أهل العلم ، لا بمعنى مراعاة الخلاف ، فإن له نظرا آخر ، بل فى غير ذلك. فربما وقع الإفتاء فى المسألة بالمنع فيقال: لم تمنع والمسألة مختلف فيها ؟ فيجعل الخلاف حجة فى الجواز ؛ لمجرد كونها مختلفا فيها ، لا لدليل يدل على صحة مذهب الجواز ، ولا لتقليد من هو أولى بالتقليد من القائل بالمنع ، وهو عين الخطأ على الشريعة حيث جعل ما ليس بمعتمد معتمدا وما ليس بحجة حجة ….ومن هذا أيضا جعل بعض الناس الاختلاف رحمة للتوسع فى الأقوال وعدم التحجير على رأي واحد…وربما صرح صاحب هذا القول بالتشنيع على من لازم القول المشهور أو الموافق للدليل أو الراجح عند أهل النظر والذي عليه أكثر المسلمين ويقول له لقد حجرت واسعا وملت بالناس إلى الحرج وما فى الدين من حرج وما أشبه ذلك وهذا القول خطأ كله وجهل بما وضعت له الشريعة والتوفيق بيدالله”أ هـ.
عاشرا : لم يكن من السائغ تسفيه الرأي المقابل لما يراه الكاتب ، حيث جعل العامي الأعجمي البسيط أقدر في الإدراك من العلماء الكبار الذين ينضوون تحت هذه المراجع العلمية الكبرى . فوصفهم بالعجز عن إدراك هذا الرأي المرجوح عقلا وشرعا وعرفا ، وقد كان الواجب التأدب مع العلماء واحترام آرائهم وإن كان يخالفهم في ذلك ، على أن هذا الطرح لم يكن مناسبا فهو جاء على هيئة الفتوى للناس ، وكم تمنيت أن لو تركت الفتوى لأهلها .
وهذان المقالان بالرغم من تلك السلبيات ، لم تخلو من أمور إيجابية أشد فيها على يد الدكتور حمزة ، وأشيد برأيه فيها . خاصة فيما يتعلق بالصيرفة الإسلامية واعتمادها في كثير من العقود على صورية العقد تحيلا على الوقوع في الربا ، من خلال عقود التورق الإسلامي ، أو من خلال عقود بيع المرابحة للآمر بالشراء ، فإن الكثير من هذه العقود في حقيقتها تحيل للقرض بفائدة ، أو الإيداع بفائدة ، وهذه هي حقيقة الربا ، ولكن هذه الصورية في العقود ، ليست مبررا لأن نأخذ بقول يفتح باب الربا على مصراعيه ؛ لأننا إذا اعتبرنا التضخم في سداد الديون، أبطلنا ربا الديون ، وإذا اعتبرنا الأوراق النقدية عروضا ، أبطلنا ربا البيوع ، فلم يبق شيء اسمه “ربا” فيصبح -الربا بنوعيه- بمقتضى هذا القول مجرد تاريخ . والله تعالى أعلم .
د. خالد بن مفلح آل حامد
الأستاذ المساعد بقسم الفقه المقارن / المعهد العالي للقضاء
kmahamed@imamu.edu.sa