شهد التاريخ؛ ودوّنت كتب الفرق والمذاهب والنّحل أسماء فرق متنوّعة من الخوارج، يعجب المرء من أفكارها ومعتقداتها، ما زال العلماء الربانيون وإلى اليوم يضربون بتصرفاتها وجنونها وعبثها المثل في الغلو، والتنطّع، وتجاوز حدود الله.
تُبادر هذه المناهج الضالة، ومن غير سابق إنذار أو إعذار إلى تكفير أعيان المسلمين ومجتمعاتهم بحجج ركيكة ودعاوى غريبة، ليعبّدوا الطريق لأشياعهم ومن يأتي من وراءهم من حدثاء الأسنان وسفهاء الأحلام لسفك الدماء المعصومة، واستباحة الحُرمات المصونة.
وانقسمت الخوارج كحال أهل البدع في كلّ زمان ومكان إلى فرق متناحرة وتيارات متصارعة بين حرورية ونجدات وأزارقة وصُفرية، يكفّر بعضها بعضا، ويستبيح بعضها دماء بعض، بأوهى الحيل وأدنى الشُّبه.
والمشكلة أنّ ورّاثهم لا يتعلمون من أخطائهم وعثراتهم، فتجدهم في كل نازلة تحلُّ بالمسلمين يجترّون تلك الضلالات ويكررون عين الانحرافات، فلا يقرءون التاريخ، ولا يستفيدون من شيء من عبرهِ ودروسهِ ومآسيه.
ومهما قرعتهم بالحجج والبيّنات، أو ضربت في رؤوسهم بالأدلة الدامغات، أو ذكّرتهم بالمواعظ المُبكيات، فلن يحُركوا ساكنا أو يُرعوا كلامك سمعا، فقد أُشربوا من سموم الغلو الفتّاكة حتى الثُمالة، فلم يبق فيهم عرقا ولا مفصلا إلا دخلته أهواؤهم، واقتحمته ضلالتهم.
فلا هم للإسلام نصروا، ولا هم للكفر كسروا، إنما صاروا على مرّ التاريخ خنجرا مسموما وسهما غائرا في خاصرة المسلمين، وذلك لتشتيتهم جهود المسلمين وإشغالهم عن كل معركة وجوديّة، ومواجهة مصيريّة يخوضونها.
فأنهكوا بإفسادهم ومحاربتهم مجتمعات المسلمين في معارك دموية لا يجني أرباحها ولا يستفيد من مكاسبها إلا الأعداء المتربصون والخصوم الحاقدون.
وهذه سُنّةُ الله في هذه الأمة قرنا بعد قرن، ابتلاها الله سبحانه بهذا النوع الغريب من الناس، الذين لا يصوّبون عدوانهم ولا يوجّهون شرورهم إلا على هذه الأمة، فيُعظّمون أخطاءها، ولا يرون شيئا من أعمالها وتصرفاتها صوابا.
وقد كان الخوارج الأولون يُكفّرون مخالفيهم بالكبائر، أما هؤلاء فقد فاقوا سلفهم بمراحل زمنية وسنين ضوئية، فصاروا يكفرون المسلمين بأمور مباحة وأعمال مشروعة لا غضاضة فيها.
وقد ظهرت شرذمةٌ منهم في هذا الزمان يكفّرون المسلمين بالصور الفوتوغرافية والمقاطع المرئية، راق لي أن أُسمّيهم تجوّزا بالخوارج الصُّوَريّة .. !
وهم الذين إذا رأوا صورة لمسؤول أو ذي شأن من المسلمين مع نظيره من غير المسلمين، وهو يصافحهُ أو يتبسّمُ في وجهه، فرحوا بذلك وتناقلوه في كل مكان، وظنوا أنّ هذه الصورة أو هذا المقطع حجة قاطعة لهم في تكفير المسلمين، والحكم بالردة على مجتمعاتهم وراياتهم.
وهذا نوعٌ من الخَبال الذي لا حيلة فيه، ومن البلاء الذي يعسُر الشّفاء منه.
فكيف لو رأى هؤلاء أهل الكتاب بل أحبارهم ورهبانهم يدخلون بيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ويجتمعون به، ويحدثونه ويحدثهم، ويسألونه ويُجيبهم، وقد يستضيفونه في بيتوهم ويُطعمونه مما في أيديهم، وقد يحتاج منهم إلى شيء من أمر الدنيا فلا يرى حرجا في ذلك، فقد مات صلى الله عليه وسلم ودرعهُ مرهونةٌ عند يهودي بعشرين صاعا من طعام أخذهُ لأهله.
وكيف لو رأى هؤلاء جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ومن كان معه من المسلمين عند النجاشي رحمه الله، ذلك الحاكم العادل الذي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة إليه في أرض الحبشة فرارا من بطش قريش وظلمهم، وأخبر أنّ فيها ملكا لا يُظلم أحدٌ عنده.
إنّ تكفير المسلمين وأئمتهم بهذه الصور والمقاطع المتداولة، نوع متطورٌ من الغلو والجفاء الذي لم يُسبقوا إليه، ولم تتفتّق أذهان الخوارج الأولين عن مثل هذه الأفكار الغالية والاشتراطات العسرة التي يشترطونها للحكم بإسلام المجتمعات، والتي لن ينجو منها أحد، ولن يسلم من تشديدها وأحكامها الجائرة أحدٌ حتى أفضل الخلق وأكرمهم على الله.
كتبه محمد بن علي الجوني