الدين النصيحـة
الخطبة الأولى :
الحمد لله المتصرف في شؤون خلقه بكمال الحكمة و التقدير ,أحمده سبحانه و أشكره و أثنى عليه الخير كله و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا معقب لحكمه و لا مبدل لكلماته و هو سريع الحساب ,و أشهد أن محمداً عبده و رسوله سيد الناصحين و حامل لواء الحق المبين . نصح الأمة و بلغ من الإخلاص أرفع قمة ,إبتعثه الله تعالى بالهدى و الدين المرتضى لينذر من كان حياً و يحق القول على الكافرين , صلى الله عليه و على آله و أصحابه و من اتبع سنته و اهتدى بهداه .أما بعد أيها الناس اتقوا الله تعالى حيثما كنتم , و راقبوه فإنه يعلم ما أخفيتم و ما أعلنتم و أخلصوا له العبادة ,و توجهوا إليه و توكلوا عليه . يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته و لا تموتن إلا و أنتم مسلمون . أيها المؤمنون بالله و لقائه و بمحمدٍ صلى الله عليه و آله و سلم و رسالته ..
إن الله تعالى اختار هذه الأمة و جعلها خاتمة الأمم بما أفاء الله عليها بهذا الدين الكامل و النبي الخاتم ,لا يرسخ بنائها و لا تحمد عاقبتها و لا يظهر عزها و لا يتحقق نصرها و لا تعلوا كلمتها , إلا أن تكون موصولةً ً بمنهج الإسلام مصبوغة ً بآدابه مطبقة ً لتعاليمه , قائمة ً بأحكامه منفذة ً لأوامره ,و أن يجرى فيها روح هذا الدين القويم لتكون راشدة ً في و جهتها بالغة ً غايتها ,و أن يزداد الذين درسوا علوم الشريعة عناية ً بالقيام على ما استحفظوا من هدايته ,فلا يدعون شيئاً يشعرون بأنه موكولٌ إلى أمانتهم إلا أحسنوا أدائه , و بلغوه لهذه الأمة . ومما دعا إليه الإسلام و حث عليه و رغب فيه أن يكون المجتمع المسلم مجتمعاً يسوده التذكير و النصح , ليتعلم الجاهل و يتنبه الغافل و يتذكر العالم ,و بالنصح و النصيحه يتقرب العباد إلى خالقهم , و يدعمن إلى عمل الصالحات ,و يصلحون ما كان فاسدا ,و يصلون ما كان منقطعا.و النصح سمة الرسل جميعاً عليهم السلام ومن نهج نهجهم من المصلحين الصادقين ,ووظيفة كل رسولٍ إلى قومه نصيحتهم و إبلاغهم ببيان التوحيد و التحذير من الشرك ,و ببيان ما أمر الله و ببيان أمر الله و نهيه و عبادته و تقواه فقد قال لنوحٌ لقومه (أبلغكم رسالات ربكم و أنصح لكم و أعلم من الله مالا تعلمون ) و قال هودٌ لقومه( أبلغكم رسالة ربي و أنا لكم ناصحٌ أمين ) و قال صالح لقومه (لقد أبلغتكم رسالة ربي و نصحت لكم و لكن لا تحبون الناصحين).و ما شاعت المنكرات و فشت البدع و المعاصي التي نهى الله عنها إلا حيث قل من يعظ الناس و ينصحهم عن ارتكابها و يحذرهم من شؤم عاقبتها , و متى كانت النصيحة صفة ً من صفات ِأفراد المجتمع المسلم فسيكون لها أكبر الأثر في دحض الباطل, و اندحار الشر و تقليل المعاصي بإذن الله ,و لا يخفى أن في كل أمة ٍ فئةً ً يفتحون صدورهم لقبول كل دعوةٍ توافق أهوائهم , أو تأتيهم في حسنٍ يلائم أذواقهم , و لكن نهوض الناصحين المخلصين بعزم ٍ و حكمه يكشف عما في هذه الدعاوى من سوء, فإذا اجتهد الناصحون في النصح و اخلصوا لله تعالى فيه , نشأ المسلم في مجتمع ٍ نقي الفكر صافي البصيرة حسن السيرة ,مقبلا على الطاعة مرتدعاً و معرضاً عن المعاصي , لا يحمل في نفه لا يحمل في نفسه إلا عقيدة ًخالصة ,و قد حاصر النبي صلى الله عليه و آله و سلم النصيحة في الدين كله فقال فيما أخرجه مسلمٌ من حديث تميم ٍالداري رضي الله عنه ( الدين النصيحة , قلنا لمن : قال لله و لكتابه و لرسوله و لأئمة المسلمين وعامتهم ) , فالنصيحة لله الإيمان به جل جلاله و نفي الشريك عنه , و ترك الإلحاد في صفاته ووصفه بأوصاف الكمال و تنزيهه عن النقائص و طاعة أمره و اجتناب نهيه , و موالاة من أطاعه و معاداة من عصاه , و غير ذلك مما يحبه الله جل جلاله , و جميع هذه الأشياء في الحقيقة ترجع مصلحتها إلى العبد فهي نصيحة ٌ لنفسه و خير ٌ لها ,و النصيحة لكتابه الإيمان بأنه كتاب الله تعالى و تحليل حلاله و تحريم حرامه و الاهتداء بما فيه , و التدبر لآياته و القيام بحقوق تلاوته و الاتعاظ بمواعظه و الاعتبار بزواجره, و النصيحة لرسوله تصديقه فيما جاء به و إتباعه فيما أمر به و نهى عنه و تعظيم حقه و توقيره حياً و ميتا , و معرفة سنته و نشرها و العمل بها و محبة أهل بيته و محبة أصحابه و الترضي عنهم و مجانبة من ابتدع في سنته أو تعرض لأحدٍ من أصحابه بسبٍ أو أذي أو بغضٍ و كراهية , و النصيحة لأئمة المسلمين إعانتهم على الحق و طاعتهم فيه و أمرهم به و تذكيرهم بحوائج العباد و نصحهم في رفقٍ و عدلٍ و سر كما قال النبي صلى الله عيه و آله و سلم ( من أراد أن ينصح لذي سلطان بأمر ٍ فلا يبد له علانية , و لكن ليأخذ بيده فيخلو به فإن قبل منه فذا و إلا كان قد أدى الذي عليه ) أخرجه الإمام أحمد , و المراد بأئمة المسلمين قادتهم في تنظيم شؤون الدنيا و في إقامة معالم الدين و نشره بين الناس فتشمل الملوك و الأمراء و الرؤساء و العلماء و كل من له ولاية كبيره أو صغيره,فهؤلاء لما كانت مهمتهم وواجباتهم أعظم من غيرهم وجب لهم من النصيحة بحسب مراتبهم و مقامهم و ذلك باعتقاد إمامتهم و الاعتراف بولايتهم و وجوب طاعتهم في المعروف , و إعلامهم بما غفلوا عنه و تبليغهم ما للمسلمين من حقوق , و ترك الخروج عليهم و تأليف قلوب الناس لطاعتهم ,و الصلاة خلفهم و الجهاد معهم و الدعاء لهم بالصلاح و صلاح أئمة المسلمين صلاح ٌ للرعية و صلاحٌ للأمور , و استقرارٌ للأحوال , و من رأى منهم مالا يحل عليه أن ينبههم سراً لا علاناً, بلطفٍ و قولٍ حسن لأن الله تعالى أمر أن يخاطب كل الناس بذلك فقال سبحانه ( و قولوا للناس حسنا )و قال جل ذكره ( قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم ) و قال تعالى مخبراً عن موقف موسى و هارون عليهما السلام مع فرعون و دعوته ( فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ). إن واجب الرعية على ولاتهم شد أزرهم في الملمات , و إعانتهم على القيام بأعباء ما حملوا من أمانه , لتحقيق مصالح العباد و التغلب على كل المشاكل في الحياة في العسر و اليسر , و أي انفصام يكون بين الراعي و الرعية هو تدميرٌ ماحقٌ لحياة الناس و مصالح الأمة و طريقٌ لإشاعة الفتنة بين الناس , إذ تغدوا الأمة كالجسد الذى فقد روحه لا ينتفع بما حوله و لا يرد العوادي عليه , و من النصح لأئمة المسلمين صدق الحديث معهم و تجنب الملق الكاذب والنفاق الخادع والثناء السائل ، أما إذا كانت النصيحة لأئمة المسلمين في ضوضاى و فوضى و تجمهر و تهيج للناس و تفلتٍ للأنظمة بصخبٍ و لغبٍ , فليست هذه و الله من النصيحة و ليست من آداب الإسلام و أخلاقه و ليست من العقل و الرشد في شئ , و ما أبعدها عن تحقيق الخير و المصلحة و الإجتماع و الائتلاف و أقربها من الشر و الفساد و الإختلاف و ضياع الحقوق, و النصيحة لعامة المسلمين تكون بإرشادهم إلى مصالح في دنياهم و أخراهم و كف الأذى عنهم و تعليمهم ما جهلوه و أمرهم بالمعروف و نهيهم عن المنكرو هذا يمثل التضامن بين أفراد الأمة الذي يحقق المحبة و الإلفة و الإخلاص بين المسلمين , و اعلم أخ الإسلام أن نصيحة المسلمين فرض كفاية على من هو أهلٌ له و هي واجبة ٌ على قدر طاقة البشرية مادام هناك أملٌ في قبولها , فيا أيها المؤمنون بالله و لقائه على الناصح أن يخلص لله في نصحه ليقع له القبول لأن أصل النصيحة معناه الإخلاص فمن فعل ذلك على وجهٍ صحيح موافقٌ لأمر الله تعالى و هدى نبيه صلى الله عليه و آله و سلم يرجى له القبول في دعوته و نصحه إن شاء الله , و يتحقق له التعاون و الوفاق و التآلف و التأزر فلا يرضى أحدق لأحدٍ إلا ما يرضاه لنفسه و في هذا مصلحة كبرى للبلاد و العباد و إعانة للولاة في أداء رسالتهم و القيام بواجبهم في تطبيق العدل و رفع الظلم و الحكم بين الناس بما أنزل الله , لأن العدل إن دام عمر و الظلم إن دام دمر , و بالنصيحة المصحوبة بالعلم و الحكمة تزول معظم أسباب التظالم بين العباد, و ينزجر العصاة و الفسقة عن المعاصي , و يقوى أهل الخير في مقاومة الشر و يظهر دين الله الحق على كل الأديان الباطلة (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهقٌ ).
و كل مسلم ٍ عليه من النصح على قدر طاقته في خاصة نفسه و أهل بيته و بين إخوانه المسلمين لقول النبي صلى الله عليه و آله و سلم في الحديث الصحيح ( من رأى منكم منكر فليغره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه و ذلك أضعف الإيمان) , و على العلماء من واجب النصح للمسلمين أن لا يغفلوا عن تذكير الناس و إرشادهم و هدايتهم إلى صراط الله المستقيم حتى إذا ما أبصروا بين الناس عوجاً نصحوا لهم أو رأو حقا ً مهملا ً لفتوا إليه أنظار الناس و أعانوهم على إقامته . و على الناصح أن يكون رفيقاً في خطابه ,ليناً في إرشاده , مثالاً للاستقامة و الصلاح , قدوةً في قوله و فعله و عمله , و عليه أن يحتمل ما يناله في سبيل النصيحة من مكروه متأسياً بقول النبي صلى الله عليه و آله و سلم حينما دعاه قومه و آذوه قال لهم ( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ) و لا يليق بالناصح أن يدعوا الناس الى العمل الصالح و يقبض عنه يده ,أو ينهاهم عن العمل السيئ و لا يصرف عنه وجهه , فمن أدب النصيحة أن يسابق الناصح الأمة إلى اجتناب ما يؤاخذ به و عمل ما يحمد عليه , فإن ذلك أدل على الإخلاص و أقرب للقبول و أدعى إلى توقير الناصح و قبول قوله ( قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرةٍ أنا و من اتبعني و سبحان الله و ما أنا من المشركين ) , أقول هذا القول و أستغفر الله لي و لكم من كل ذنب فاستغفروه و توبوا إليه إنه كان غفارا .
الخطبة الثانية :
الحمد لله على إحسانه و الشكر له على توفيقه و امتنانه و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه , و أشهد أن محمداً عبه و رسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه و على آله و أصحابه و إخوانه و سلم تسليما كثيرا .. أما بعد أيها الناس و لما للنصيحة من أهميةٍ على مستوى الأفراد و الجماعات و الدول عمل الإسلام على تربية الأمة عليها فمن ذلك أنه جعل من حق المسلم على المسلم أن ينصح له ففي صحيح مسلم قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم ( حق المسلم على المسلم ست و ذكر منها و إذا استنصحك فانصح له ) . و النصح للمسلمين مهمٌ جدا يؤكد أهميته أنه جاء ضمن مبايعة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فعن جرير ابن عبد الله رضي الله عنه قال بايعت رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم على إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة و النصح لكل مسلم و النصيحة تنبئ عن شعور ٍ بالمسؤولية و الاهتمام بالآخرين و هي سعىٌ لبناء مجتمع ٍ على أسس ٍ قويمة و ترك النصيحة أو إغفالها أو استثقالها أو المجاملة فيها يؤدي إلى التهاون بأمور الدين و التساهل في حقوق المسلمين , و عدم الاكتراث بشؤون الآخرين ,و هذا يؤدي إلى تفشي المعاصي و المنكرات في مجتمع المسلمين و اعتداء بعضهم على بعض , و خذوا أيها المسلمون العبرة من غيركم من الذين أهملوا النصيحة و تركوا التناصح فيما بينهم حيث قست قلوبهم , و تفشت فيهم الرذيلة و اختفت من بينهم الفضيلة , و انتشرت بينهم البدع و الضلالات و الخرافات و تمرد كثيرٌ من الناس على الناصحين و الآمرين , فتحولوا إلى مجتمع ٍ مفكك الأواصر منقطع الروابط شعاره التمرد و الهدم و مآله إلى الضياع و الانحطاط. فيا أيها المؤمنون بالله و لقائه إن النصح للمسلم و السعي لإصلاحه و دفع الفساد عنه و من أهم ذلك أن يرشده أخوه إلى عيوبه برفق ٍ ليصلحه , و لا يجوز له الغش له أو المكر به أو التلبيس عليه فكل ذلك مخالفٌ للنصح و الإرشاد الصحيح و إبداء النصح لا يكون إلا سراً لأن من وعظ أخاه علانية ً فقد شانه و من وعظه سراً فقد زانه , و إذا كانت النصيحة كذلك فإنها تقيم الألفة و تؤدى حق الأخوة قال عبد الله ابن المبارك ( كان الرجل إذا رأى من أخيه ما يكره أمره في ستر ٍ و نهاه في ستر ٍ فيؤجر في ستره و يؤجر في نهيه ) .
فاتقوا الله أيها المسلمون و تمسكوا بدينكم تسعدوا و طبقوا هدي نبيكم صلى الله عليه و آله وسلم تهتدوا و ترشدوا , و تناصحوا فيما بينكم تفلحوا و تعاونوا علة البر و التقوى و لا تعاونوا على الإثم و العدوان و اتقوا الله إن الله شديد العقاب ,و اتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ثم صلوا و سلموا على الهادي البشير و السراج المنير فقد أمركم بذلك رب العالمين في كتابه المبين فقال عز من قائل ٍ عليما (إن الله و ملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه و سلموا تسليما ) , اللهم صلى و سلم و بارك على عبدك و رسولك محمد النبي الصادق الأمين و أهل بيته الطيبين و خلفائه الراشدين أبي بكرٍ و عمر و عثمان و على و سائر الصحابة و التابعين و عنا معهم بعفوك و كرمك يا أرحم الراحمين .