العلم والدعوة السلفية
بسم الله الرحمن الرحيم
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ………………… أما بعد ،،،
فإن فضائل العلم الشرعي كثيرة، والأدلة في علو مرتبته عديدة، وأكثرَ أهلُ العلمِ الكلامَ في فضائله في مصنفات مفردة وتبعاً ، وذكر الإمام ابن القيم في كتابه العظيم ” مفتاح دار السعادة ” أكثر من خمسين ومائة فضيلة للعلم .
ومن فضائله قوله تعالى (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُون ) فنفى التسوية بينهما، كما نفاها بين أصحاب النيران وأصحاب الجنان كما قال تعالى (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ )
ومن فضائله قوله تعالى (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ )
ومن فضائله أن أهل العلم هم أهل خشيته وهم خير البرية كما قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ . جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ )
والذين خشوا ربهم حقاً هم أهل العلم كما قال تعالى (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) فبهذا كانوا خير البرية إلى غير ذلك من الأدلة الكثيرة في فضائل العلوم الشرعية .
ومن فضائله قوله تعالى ( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)
ففيها بيان فضل العلم من أوجه:
الوجه الأول/ استشهدهم دون أحد من البشر .
الوجه الثاني/ قرن شهادتهم بشهادته .
الوجه الثالث/ قرن شهادتهم بشهادة الملائكة .
الوجه الرابع/ أن هذا الإشهاد متضمن لتزكيتهم .
الوجه الخامس/ استشهدهم على خير مشهود .
قال القرطبي في تفسيره (4/41): في هذه الآية دليل على فضل العلم وشرف العلماء وفضلهم، فإنه لو كان أحد أشرف من العلماء لقرنهم الله باسمه واسم ملائكته كما قرن اسم العلماء وقال في شرف العلم لنبيه صلى الله عليه وسلم (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا )فلو كان شيء أشرف من العلم لأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأله المزيد منه كما أمر أن يستزيده من العلم ا.هـ
قال ابن رجب في شرح حديث أبي الدرداء (1/36): وروي عن أبي الدرداء قال: مذاكرة العلم ساعة خير من قيام ليلة ” ويروى عن أبي هريرة مرفوعاً :” لأن أفقه ساعة أحب إلي من أن أحيي ليلة أصليها حتى أصبح ” وعنه قال:” لأن أعلم باباً من العلم في أمر أو نهي أحب إلي من سبعين غزوة في سبيل الله عز وجل ” وعن ابن عباس رضي الله عنه قال:” تذاكر العلم بعض ليلة أحب إلي من إحيائها “
وصح عن أبي موسى الأشعري أنه قال:” لمجلس أجلسه مع عبد الله بن مسعود أوثق في نفسي من عمل سنة ” وعن الحسن قال:” لأن أتعلم باباً من العلم فأعلمه مسلماً أحب إلي من أن تكون لي الدنيا كلها أجعلها في سبيل الله عز وجل ” وعنه قال:” إن كان الرجل ليصيب الباب من العلم فيعمل به فيكون خيراً له من الدنيا وما فيها ، لو كانت له فيجعلها في الآخرة ” وعنه قال:” مداد العلماء ودم الشهداء مجرى واحد “
وعنه:” ما من شيء مما خلق الله أعظم عند الله في عظيم الثواب من طلب علم لا حج ولا عمرة ولا جهاد ولا صدقة ولا عتق ، ولو كان العلم صورة لكانت صورته أحسن من صورة الشمس والقمر والنجوم والسماء “
قال الزهري: تعلم سنة أفضل من عبادة مائتي سنة . وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة : ليس بعد الفرائض أفضل من طلب العلم . قال الثوري: لا نعلم شيئاً من الأعمال أفضل من طلب العلم والحديث لمن حسنت فيه نيته . قيل له: وأي شيء النية فيه ؟ قال: يريد الله والدار الآخرة . وقال الشافعي: طلب العلم أفضل من صلاة نافلة . ورأى مالك بعض أصحابه يكتب العلم ثم تركه وقام يصلي ، فقال : عجباً لك ! ما الذي قمت إليه بأفضل من الذي تركته . وسئل الإمام أحمد : أيما أحب إليك أن أصلي بالليل تطوعاً أو أجلس أنسخ العلم ؟ قال: إذا كنت تنسخ ما تعلم أمر دينك فهو أحب إلي . وقال أحمد أيضاً : العلم لا يعدله شيء . وقال المعافى بن عمران : كتابة حديث واحد أحب إلي من قيام ليلة . ا.هـ
وقال ابن القيم في “ مفتاح دار السعادة“ (1/503): وقال المزني سمعت الشافعي يقول: من تعلم القرآن عظمت قيمته، ومن نظر في الفقه نبل مقداره، ومن تعلم اللغة رق طبعه، ومن تعلم الحساب جزل رأيه، ومن كتب الحديث قويت حجته، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه. وقد روى هذا الكلام عن الشافعي من وجوه متعددة . وقال سفيان الثوري: من أراد الدنيا والآخرة فعليه بطلب العلم . وقال عبدالله بن داود: سمعت سفيان الثوري يقول: إن هذا الحديث عز فمن أراد به الدنيا وجدها، ومن أراد به الآخرة وجدها . وقال النضر بن شميل: من أراد أن يشرف في الدنيا والآخرة فليتعلم العلم، وكفى بالمرء سعادة أن يوثق به في دين الله، ويكون بين الله وبين عباده. وقال سهل التستري: من أراد أن ينظر إلى مجالس الأنبياء فلينظر إلى مجالس العلماء يجيء الرجل فيقول: يا فلان إيش تقول في رجل حلف على امرأته بكذا وكذا ؟ فيقول: طلقت امرأته. ويجيء آخر فيقول: حلفت بكذا وكذا؟ فيقول: ليس يحنث بهذا القول. وليس هذا إلا لنبي أو عالم فاعرفوا لهم ذلك ا.هـ
وقال في ” مدارج السالكين “ (2/471): ويكفي في شرفه أن فضل أهله على العباد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب. وأن الملائكة لتضع لهم أجنحتها وتظلهم بها . وأن العالم يستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في البحر، وحتى النمل في جحرها. وأن الله وملائكته يصلون على معلمي الناس الخير. ولقد رحل كليم الرحمن موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام في طلب العلم هو وفتاه حتى مسهما النصب في سفرهما في طلب العلم حتى ظفر بثلاث مسائل وهو من أكرم الخلق على الله وأعلمهم به ، وأمر الله رسوله أن يسأله المزيد منه فقال (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ) ا.هـ
وإن أحرص الناس على العلم الشرعي واعتقاد الحق والعمل به هم السلفيون لعلمهم أن دعوتهم قائمة على الاتباع وعلى تحقيق مراضي الله، وهذا لا يحصل إلا بالعلم الذي به يعرف الاتباع وتحقيق مراضي الله .
وأنبه على بعض المهمات في العلم وطلبه :
التنبيه الأول/ أهم العلوم علم التوحيد بأنواعه الثلاثة لأنه متعلق بالباري سبحانه ، وشرف العلم بشرف المعلوم
قال ابن تيمية في كتابه النبوات : وأن شرف العلم بشرف المعلوم وهو الرب ا.هـ
قال ابن القيم في ” مفتاح دار السعادة ” (1 / 86): وهو أن شرف العلم تابع لشرف معلومه لوثوق النفس بأدلة وجوده وبراهينه، ولشدة الحاجة إلى معرفته وعظم النفع بها. ولا ريب أن أجل معلوم وأعظمه وأكبره فهو الله الذي لا إله إلا هو رب العالمين وقيوم السموات والأرضين الملك الحق المبين الموصوف بالكمال كله المنزه عن كل عيب ونقص وعن كل تمثيل وتشبيه في كماله ولا ريب أن العلم به وبأسمائه وصفاته وأفعاله أجل العلوم وأفضلها ونسبته إلى سائر العلوم كنسبة معلومه إلى سائر المعلومات ا.هـ
وكم يكون نقصاً أن ترى أقواماً يشار إليهم بالبنان في علم أصول الفقه أو الفقه أو الحديث أو مصطلح الحديث، وإذا باحثتهم في مسائل توحيد الإلهية أو الأسماء والصفات رأيت ضعفاً وإجمالاً في معرفة ومسائله.
إن أحق ما يعتنى بمسائله ويكثر من تدريسه علم التوحيد بأنواعه الثلاثة وخير ما كتب من المتون في توحيد الإلهية كتب الإمام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – ككتاب التوحيد وكتاب القواعد الأربعة وثلاثة الأصول وكشف الشبهات .
أما في توحيد الأسماء والصفات فخير ما كتب من المتون المختصرة العقيدة الواسطية.
وطالب العلم لا يقف عند هذا الحد بل يقرأ بعد ذلك كتباً أخرى لشيخ الإسلام ثم كتب الذين جاؤوا بعد السلف وجمع شتات كلامهم ككتاب الإبانة الكبرى والصغرى لابن بطة، والشريعة للآجري، ثم الكتب التي قبلها ككتاب السنة لابن أبي عاصم، والسنة لعبد الله بن الإمام أحمد وأمثالها، وبينت هذا أكثر في مناقشة أحد إخواننا السلفيين في رده على كتابي قواعد ومسائل في توحيد الإلهية
http://www.islamancient.com/books,item,65.html
فكان مما ذكرته: إن من أهم المهمات أن يعتني طلاب علم أهل السنة السلفيين بدراسة مسائل التوحيد والاعتقاد ؛ دراسة تحقيق وتمحيص ، وأن يتمكنوا أشد التمكن فيقرؤوا ” كتاب التوحيد ” للإمام محمد بن عبدالوهاب – رحمه الله ، وشروحه كـ “تيسير العزيز الحميد ” و” فتح المجيد ” و” قرة عيون الموحدين ” و” القول المفيد ” . وأن يكثروا من قراءة كتب أئمة الدعوة النجدية السلفية كـ” الدرر السنية ” و”الرسائل والمسائل النجدية ” ، وكتب الردود التي أفردوها على المخالفين كـ” مصباح الظلام ” وكتاب ” التأسيس والتقديس ” وكتاب ” القول الفصل النفيس ” . ويقرؤوا كتاب “صيانة الإنسان ” للهندي محمد بشير السهسواني، فما أحسنه من كتاب، ويقبلوا بكليتهم على كتب الإمام المحقق شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -، فيقرؤوا العقيدة الواسطية وشروحها مثل ” التنبيهات السنية ” و” الروضة الندية ” وشرح شيخنا العلامة محمد بن صالح العثيمين ، ويقرؤوا ” الفتوى الحموية ” ويتفهموا كتاب ” التدمرية ” فهو خلاصة ردوده على المتكلمين ، ثم يقبلوا على كتبه العظام مثل ” منهاج السنة ” و” درء تعارض العقل والنقل” و” بيان تلبيس الجهمية ” و” الجواب الصحيح ” و”مجموع فتاواه” و”الرد على البكري ” و” الأخنائية ” و” الاستقامة” وكل ما تيسر من تأليفه وتصنيفه .
ويقرؤوا كتب الإمام ابن القيم ومن أنفسها ” الصواعق المرسلة ” مع مختصرها ، ويقرؤوا ” شرح الطحاوية ” لابن أبي العز الحنفي ، ثم بعد ذلك ينهلوا من علم السلف وكتبهم مثل ” الإبانة الكبرى ” ” والصغرى ” و” الشريعة ” للآجري وكتاب ” السنة ” للخلال و” السنة ” لعبدالله بن الإمام أحمد و” كتاب التوحيد ” لابن خزيمة و” الإيمان ” لابن منده ، وكتابي الإمام عثمان بن سعيد الدارمي ” الرد على الجهمية ” و” الرد على بشر المريسي ” فهما من أنفس الكتب وأقواها حجة وبياناً للمحجة . وقد أوصى الإمام ابن تيمية تلميذه ابن القيم بهما .
وما تيسر من كتب أئمة السنة السابقين واللاحقين ، فإن من وفق لهذا مع الضبط والتحرير ، وفق لخير كثير .
فهلموا إلى ذلك يا شباب السنة فما أحوج السنة وأهلها إليكم ا.هـ
يا لله كم هو نقص أن ترى معلماً سلفياً لا يربى طلابه على الحماسة والحرقة على التوحيد تعلماً وتعليماً .
التنبيه الثاني/ إن تحقيق العلم وضبط مسائله والتأصيل فيه من أهم المهمات كما أخرج ابن عبد البر في جامع بيان العلوم وفضله عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال: قيمة كل امرئ ما يحسنه .
وقد ظن بعض من لا يدري أن طريقة السلف إجمال في العلم وعدم تحقيق مسائله وطلب دقيقه وهذا ظن سوء بهم وتنقص لهم فجعلهم كالأميين الناقصين في العلم كما قال تعالى (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيّ ) وهؤلاء لم يقفوا عند حد هذا الظن بل صاروا يدعون إلى طريقة الإجمال في العلم وعدم طلب دقيقه .
فهم جمعوا بين الكذب على السلف والدعوة إلى ما يخالف حال العلماء من السلف ومن بعدهم من التابعين لهم بإحسان .
وإن من ظن هذا بالسلف فقد نادى على نفسه بالجهل وأظهر سوءة جهله ، قال الإمام الشافعي : من طلب علماً فليدقق لئلا يضيع دقيق العلم . “ البيان “للعمراني (1/60)
ولا أدل على ذلك من مطالعة كلام الإمام مالك في المدونة والشافعي في الأم والإمام أحمد في مسائله المتعددة ، ثم من تبع السلف بإحسان كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه الإمام ابن القيم .
يا سبحان الله ألم ير مدعي هذه المقالة حجج الإمام أحمد في الرد على الزنادقة والجهمية والإمام عثمان بن سعد الدارمي في رده على بشر المريسي .
إن الذي دفع بعضهم إلى نسبة هذا إلى السلف هو الإعذار والمخادعة لنفسه الكسولة الجهولة بأنه يكفي الإجمال وعدم التدقيق في العلم، وأن هذا هو حال السلف – كما يزعم –
أعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في ” الرد على البكري” (2 / 729): والعلم شيئان إما نقل مصدق وإما بحث محقق وما سوى ذلك فهذيان مسروق ا.هـ
فاحرصوا طلاب العلم على النقولات المصدقة وتحصيل الأقوال المحققة .
التنبيه الثالث/ إن من أهم العلوم لإدراك منزلة الاجتهاد هو معرفة علم أصول الفقه ومعرفته هو الشرط الأساس لكل مجتهد.
قال الشوكاني في ” إرشاد الفحول ” (1/421): الشرط الرابع: إن يكون عالماً بعلم أصول الفقه لاشتماله على نفس الحاجة إليه، وعليه إن يطول الباع فيه، ويطلع على مختصراته ومطولاته بما تبلغ به طاقته، فان هذا العلم هو عماد فسطاط الاجتهاد وأساسه الذي تقوم عليه أركان بنائه، وعليه أيضا أن ينظر في كل مسألة من مسائله نظراً يوصله إلى ما هو الحق فيها فإنه إذا فعل ذاك تمكن من رد الفروع إلى أصولها بأيسر عمل، وإذا قصر في هذا الفن صعب عليه الرد وخبط فيه وخلط . قال الفخر الرازي في المحصول وما أحسن ما قال: أن أهم العلوم للمجتهد علم أصول الفقه انتهى. قال الغزالي إن أعظم علوم الاجتهاد يشتمل على ثلاثة فنون الحديث واللغة وأصول الفقه ا.هـ
ومرادي علم أصول الفقه العملي لا النظري ولا الكلامي، فإنه يصح للمجتهد أن يكون مجتهداً مع كونه مقلداً في علم الحديث بخلاف علم الأصول، فإنه لا يصح أن يكون مجتهداً وهو لا يعرف أصول الفقه العملي .
وليس معنى هذا التزهيد في علم المصطلح وبقية علوم الآلة ، ولكن بيان منزلة علم أصول الفقه وقد حاولت تقريبه بشرح ميسر على كتاب الأصول من علم الأصول لشيخنا محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله –
http://www.islamancient.com/lectures,item,242.html
ثم بشرح أوسع وأكثر في إيراد المسائل الأصولية في شرح على متن الورقات
http://www.islamancient.com/lectures,item,249.html
التنبيه الرابع / إن دراسة الفقه على المتون الفقهية أنفع من دراسته على كتب أحاديث الأحكام كبلوغ المرام وعمدة الأحكام .
وذلك لأمور منها أن الفقه أرتب في ذكر المسائل، فتجد مسائل المياه مجموعة مرتبة. وأيضاً مسائل المتون الفقهية أكثر من مسائل الكتب الحديثة، وذلك أنها تذكر المسائل التي دل عليها القرآن والسنة والإجماع والقياس الصحيح وهكذا …
أما متون أحاديث الأحكام؛ فإنها تذكر المسائل التي دل عليها دليل السنة فحسب . إلى غير ذلك من الأسباب في تفضيل دراسة الفقه عن طريق المتون الفقهية مع العلم أن حفظ كتب أحاديث الأحكام أولى من حفظ متون الفقه، ثم إن تعصب دارس هذه المتون إليها لا يجوز بحال وإنما يدرسها صاحبها كالفهرس الجامع المرتب لمسائل الفقه .
وقد بينت ذلك وبعض ما يعين على تأصيل العلم في درس مسجل بعنوان ( مهمات في طلب العلم )
http://www.islamancient.com/lectures,item,239.html
ومما ينبغي أن يعلم أن انتساب الرجل إلى مذهب معين لبيان أنه تفقه عليه بلا تعصب ليس مذموماً ، فإن هذا من باب الإخبار كانتساب الرجل إلى قبيلته ، وقد درج على هذا كثير من العلماء المحققين السلفيين من الماضين والمعاصرين .
وكثير ممن يدرس الفقه على أحاديث الأحكام فحسب يحصل عنده نقص كبير في تصور مسائل الفقه ولا يستطيع في كثير من الحالات إفادة العامة وإفتائهم لأنه لم يدرس أكثر مسائل الفقه .
التنبيه الخامس/ إن الرد على المخالف أصل عظيم من أصول الإسلام وهو من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ودرج عليه سلفنا تبعاً لنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ، لكن هذا الرد لا يكون إلا بسلاح العلم ومن لم يكن ذا علم لم يجز له ركوب هذا المركب الصعب العظيم الأجر .
إنه بنور العلم والوحي يتبين ما يلزم الرد عليه مما لا يلزم، وبنور العلم والوحي يكون الرد مقنعاً ،وبنور العلم و الوحي يكون الرد موافقاً للشريعة بعيداً عن الأخطاء العقدية والعلمية .
إنه بنور العلم والوحي لا يكون الرجل مقلداً غيره ، ومن أسوأ مضار التقليد غير المشروع أن يكون المرء غالياً في الأشخاص متعصباً لهم .
اللهم إنا نسألك بما أنت أهله أن تجعلنا وإخواننا فرساناً للسنة نذود عن حياضها على ما يرضيك عنا .
التنبيه السادس/ إن العلم إذا أطلق في الشرع على وجه الثناء والمدح فإن المراد به علم الكتاب والسنة كقوله (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ) فلا يطلق على علم الطب ولا علم الهندسة ولا غيرهما .
ومما يوضح أن العلم الشرعي لا يطلق على هذه العلوم الدنيوية أن رسول اله صلى الله عليه وسلم لم يرسل طبيباً ولا مهندساً وإنما أرسل بالوحي وهو العلم الشرعي قال تعالى (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ )
ومما أحب تأكيده أنه بمقتضى الوحي -وهو العلم الشرعي- لا بمقتضى الحماسة والعاطفة يكون الحكم على الناس سواء كانوا جمعات أو أفراداً .
وكم ضل أقوام في هذا الباب بسبب حماساتهم وغلوهم في تقليد بعض المشايخ التقليد المذموم حتى أخرجوا من ثبتت سلفيته عن السلفية والسنة مع أنه لا حجة معهم إلا الغلو في التقليد، وإذا أبينت لهم الحجة ردوها بحجة التقليد الذي لا قيمة له في مقابل الأدلة الشرعية .
وأذكر إخواني بعدم إكثار المجادلة في مسائل العلم وأن يكونوا حذرين في هذا فإنه يقسي القلوب من جهة ويورث البغضاء والانتقام للنفوس من جهة أخرى إلا من رحم الله وقليل ما هم ، وليس معنى هذا عدم مباحثة العلم ومذاكرته فإنه مطلب عظيم لكن المجادلة والمطالبة شيء والمباحثة شيء آخر .
قال الإمام الآجري في كتابه “الشريعة” (1 / 63): قال محمد بن الحسين : فإن قال قائل : هذا الذي ذكرته وبينته قد عرفناه ، فإذا لم تكن مناظرتنا في شيء من الأهواء التي يذكرها أهل الحق ، ونهينا عن الجدال والمراء والخصومة فيها ، فإن كانت عن الفقه في الأحكام مثل الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والنكاح والطلاق ، وما أشبهه ذلك من الأحكام ، فهل مباح لنا أن نتناظر فيه ونتجادل ، أم هو محظور علينا ، عرفنا ما يلزم فيه؟ كيف السلامة منه؟
قيل له : هذا الذي ذكرته ما أقل من سلم من المناظرة فيه ، حتى لا يلحقه فيه فتنة ولا مأثم ، ويظفر به الشيطان .
فإن قال : كيف ؟ قيل له : هذا ، قد كثر في الناس جداً في أهل العلم والفقه في كل بلد يناظر الرجل لرجل يريد مغالبته ، ويعلو صوته ، والاستظهار عليه بالاحتجاج ، فيحمر لذلك وجهه ، وتنتفخ أوداجه ، ويعلو صوته ، وكل واحد منهما يحب أن يخطىء صاحبه ، وهذا الرأي من كل واحد منهما خطأ عظيم ، لا تحمد عواقبه ولا تحمده العلماء من العلماء ، لأن مرادك أن يخطىء مناظرك خطأ منك ، ومعصية عظيمة ، ومراده : أن تخطىء خطأ منه ، ومعصية ، فمتى يسلم الجميع له ؟
فإن قال قائل : فإنما نتناظر لتخرج لنا الفائدة ؟ . قيل له : هذا كلام ظاهر، وفي المناظرة غيره . وقيل له : إن أردت وجه السلامة في المناظرة لطلب الفائدة ، كما ذكرت ، فإذا كنت أنت حجازياً ، والذي يناظرك عراقياً ، وبينكما مسألة ، تقول أنت ، ويقول هو، بل هو حرام ، فإن كنتما تريدان السلامة ، وطلب الفائدة ، فقل له : رحمك الله ، هذه المسألة ، قد اختلف فيها من تقدم من الشيوخ ، فتعال حتى نتناظر فيها مناصحة ، لا مغالبة ، فإن يكن الحق فيها معك اتبعتك ، وتركت قولي ، وإن يكن الحق معي اتبعتني وتركت قولك ، لا أريد أن تخطىء ولا أغالبك ، ولا تريد أن أخطىء ولا تغالبني .
فإن جرى الأمر على هذا فهو حسن جميل ، وما أعز هذا في الناس .
فإذا قال كل واحد منهما : لا نطيق هذا ، وصدقا عن أنفسهما . قيل لكل واحد منهما : قد عرفت قولك وقول أصحابك واحتجاجهم ، وأنت فلا ترجع عن قولك ، وترى أن خصمك كذلك ، فما بكما إلى المجادلة والمراء والخصومة حاجة إذاً . كل واحد منكما ليس يريد الرجوع عن مذهبه ، وإنما مراد كل واحد منكما أن يخطىء صاحبه، فأنتما آثمان بهذا المراء ، وأعاذ الله تعالى العلماء الفضلاء عن هذا المراد .
فإذا لم تجر المناظرة على المناصحة فالسكوت أسلم ، قد عرفت ما عندك وما عنده وعرف ما عنده وما عندك . والسلام ا.هـ
التنبيه السابع/ إننا مأمورون أن نقيد أفهامنا للقرآن والسنة بفهم السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان كما قال تعالى (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا )
وهذا شامل لمسائل الاعتقاد والفقه والتعبد والسلوك ، ومن التناقض أن نتمسك بفهم السلف في باب الاعتقاد والدعوة إلى الله ونهمله أو نكاد في باب الفقه .
ومن المذاهب البدعية التي أنكرها السلف مذهب داود الظاهري ومن تبعه من الظاهرية لأسباب أربعة ذكر ابن القيم في ” أعلام الموقعين ” وهي رد القياس الصحيح والجمود على ظاهر النص والتوسع في الاستصحاب وجعل عقود المسلمين وشروطهم على البطلان حتى يدل دليل على ذلك .
وزاد ابن رجب في ” فضل علم السلف على الخلف ” سبباً خامساً مهماً وهو ترك اتباع السلف وإحداث أقوال خلاف أقوالهم ، فقال ص44: وليكن الإنسان على حذر مما حدث بعدهم، فإنه حدث بعدهم حوادث كثيرة وحدث من انتسب إلى متابعة السنة والحديث من الظاهرية ونحوهم وهو أشد مخالفة لها لشذوذه عن الأئمة وانفراده عنهم بفهم يفهمه أو يأخذ ما لم يأخذ به الأئمة من قبله. ا.هـ
ويزاد على ذلك سببٌ سادسٌ وهو توسعهم في العموم . لذا قال الإمام ابن تيمية في الظاهرية في كتابه ” منهاج السنة ” (5/ 178) : وكذلك أهل الظاهر كل قول انفردوا به عن سائر الأمة فهو خطأ. ا.هـ
وإذا أردت أن تقف على إنكار أئمة السنة على داود الظاهري مذهبه الفقهي فطالع ترجمته في ” الجرح والتعديل” لابن أبي حاتم وهي موجودة في ” لسان الميزان” لابن حجر فلا أدري كيف يرضى من جعل السلف الصالح قدوته منهج داود بن علي الظاهري والظاهرية كابن حزم .
التنبيه الثامن/إن من أوتي همة وفهماً الأحرى به أن يستغل عمره وحياته وأنفاسه في تحصيل العلم الذي هو ميراث الأنبياء ، يا له من تضييع فرصة عظيمة كان بالإمكان تداركها وتحصيلها ألا وهو طلب العلم لمن كان قادراً مهيئاً .
وأشد من هذا تضييعاً وتفويتاً للفرصة أن يكسل في طلب العلم من حصل كثيراً من العلم وأصل نفسه ، قال الإمام ابن القيم في “مفتاح دار السعادة” (1 / 110): وأعظم النقص وأشد الحسرة نقص القادر على التمام وحسرته على تقويته، كما قال بعض السلف: إذا كثرت طرق الخير كان الخارج منها أشد حسرة، وصدق القائل :
ولم أر في عيوب الناس عيباً … كنقص القادرين على التمام
فثبت أنه لا شيء أقبح بالإنسان من أن يكون غافلاً عن الفضائل الدينية والعلوم النافعة والأعمال الصالحة، فمن كان كذلك فهو من الهمج الرعاع الذين يكدرون الماء ويغلون الأسعار إن عاش عاش غير حميد، وإن مات مات غير فقيد فقدهم راحة للبلاد والعباد، ولا تبكي عليهم السماء، ولا تستوحش لهم الغبراء ا.هـ
التنبيه التاسع/أدعو نفسي وإخواني إلى استغلال الأوقات والتجمعات في إثارة مسائل العلم وتذاكرها حتى تصير مجالسنا مجالس علم مع عدم إغفال تذاكر أحوال المخالفين ليجتنبوا وتزداد بغضاؤهم .
فإن مما تمايز به مشايخ السلفيين وطلابهم العناية بالعلم تعلماً وتعليماً وإقامة الدروس وحفظ القرآن والحديث ومتون العلم في التوحيد وغير ذلك، فدوموا على ذلك أيها السلفيون واجعلوا دراسة العلم شعاركم ومذاكرته دأبكم .
أسأل الله أن يرزقنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً ودعوة إليهما وصبراً على الأذى فيه إنه ولي ذلك.
وجزاكم الله خيراً
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كتبه
عبد العزيز بن ريس الريس
المشرف على موقع الإسلام العتيق
http://www.islamancient.com/
24/ 2 / 1431 هـ