يقول السائل: قرأت لمحقق كتاب “الاعتقاد الخالص” لابن عطار أن كتابه كتاب سلفي، على معتقد أهل السنة، فما رأيك؟
يُقال جوابًا عن هذا السؤال: قد سبق وألقيت درسًا بعنوان: وقفات مع كتاب “الاعتقاد الخالص” لابن عطار، وهو موجود صوتيًا ومفرغًا بـ “موقع الإسلام العتيق”، وبينت بعض المآخذ على هذا الكتاب، وأنه على معتقد الأشاعرة الأوائل، وأنه قرر التفويض وغير ذلك، مما يخالف فيه معتقد أهل السنة.
فالقول بأنه على معتقد أهل السنة السلفيين فيه نظر كبير.
لكن مما قد يشكل لمن يقرأ هذا الكتاب، أن اعتقاد الأشاعرة اعتقاد في الجملة مخالف لما عليه المعتزلة؛ لذا إذا أجمل الأشعري، قد يُظَنُّ أن اعتقاده اعتقاد سلفي، فإذا قال الأشعري مقرِّرًا للاعتقاد: أنا أثبت الإرادة أي الكونية إلى آخره، فمن يقرأ له يظن أنه لا يلزم من إثبات الإرادة الكونية، أن ينفي الإرادة الشرعية.
ولذا إذا قال: أنه لا يجب على الله شيء، خلافًا للمعتزلة، ظن أنه يقرر هذا على معتقد أهل السنة.
لذا؛ مما يعين على معرفة معتقد هؤلاء ما يلي:
الأمر الأول: أن ابن العطار لو كان سلفيًا في الاعتقاد لرد عليه الأشاعرة المتعصبون في زمانه وممن جاء بعده، ولبينوا ذلك، ولبينوا خطأه.
فإن كلام ابن السبكي شديد في الذهبي؛ لأنه رأى له ميلًا إلى معتقد شيخ الإسلام ابن تيمية وهو الاعتقاد السلفي، ومثل ذلك كلامهم شديد على ابن كثير رحمه الله تعالى لأجل هذا.
فلو أن ابن عطار كان على اعتقاد السلف الصالح المخالف لمعتقد الأشاعرة لبين ذلك الأشاعرة المعاصرون له، ولضللوه، وكفروه، أو بدعوه لهذا؛ لأنهم يرون أن هذا الأمر خطأ ومخالف لمعتقد أهل السنة.
ومثل هذا لا أعرفه ولا أعرف أن المترجمين لابن عطار فعلوا ذلك، ولا أن المعاصرين له ومن جاء بعده وصفوه بأنه على اعتقاد ضال، وهو ما يسمونه بالتجسيم إلى غير ذلك.
الأمر الثاني: أن كثيرًا ممن هو على معتقد الأشاعرة قد يتأثر بما درسه من العلم الشرعي، فيقع في اضطراب وتناقض، بين ما درسه من الكتاب والسنة، وبين الاعتقاد الذي وَرِثه وعاشه في زمانه.
لذلك تراه يثبت تارة إثباتًا إجماليًا أو تفويضيًا، ويؤول تارة، وتراه تارة يقرر كلامًا يوافق معتقد أهل السنة، وتارة يقرر خلاف ذلك، وهذا التناقض ليس غريبًا؛ لأنه قد تعارض عنده ما تربى عليه وما وَرِث عليه مشايخه، وبين أدلة الكتاب والسنة.
وقد أشار لهذا شيخ الإسلام ابن تيمية في أكثر من موضع رحمه الله تعالى، ومما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: أن الخطابي مع علمه بعلم الحديث وإلى غير ذلك، لا يُثبِت من الصفات إلا ما دل عليه القرآن، أو دلت عليه السنة المتواترة.
لذا قد يورد أدلة ليست من السنة المتواترة في إثبات صفة، لأن هذه الصفة قد ثبتت عنده بالقرآن أو بأدلة أخرى من السنة المتواترة في نظره، ومع جلالة الخطابي وجلالة علمه إلا أنه قد تناقض واضطرب بين ما رأى من أدلة شرعية وبين ما تربى عليه من اعتقادٍ شاعَ في زمانه.
الأمر الثالث: إن لابن عطار كلامًا واضحًا في موافقة معتقد الأشاعرة، لذا إذا رأيته أجمل في مواضع وأتى بكلام قد يحمل على معتقد أهل السنة بما تقدم بيانه، لأنه في ظاهره مخالف لمعتقد الأشاعرة، فإن له كلامًا آخر ظاهرًا واضحًا في تقرير معتقد الأشاعرة، سواء في كتابه “الاعتقاد الخالص” أو في غيره، فإن في شرحه على كتاب “الأربعين النووية”، قد وقع في أخطاء ظاهرة، كتفسير “الظلم” على معتقد الأشاعرة، وهذا يدل على أنه جبري في باب أفعال الله.
أيضًا أوَّل صفة “الفرح”، فهذا يدل على أنه متناقض، تارة يؤول وتارة يفوض كما هو تأصيله في كتاب “الاعتقاد الخالص”، وهذا كحال أبي يعلى الحنبلي، فإنه متناقض، تارة يؤوِّل، وتارة يفوض.
وقد ذكر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وهذا ظاهر في كتابه “إبطال التأويلات”، فإن أكثر كتابه على عقيدة التفويض، لكن في أواخر الكتاب وقع في اعتقاد التأويل.
والأمر الرابع والأخير: لو أن ابن عطار قد خالف معتقد الأشاعرة الشائع في زمانه لبيَّن ذلك بوضوح، وبيَّن معتقد الأشاعرة، وبين الخطأ في ذلك، ولبين الكلام اللفظي والصوتي، وأن كلام الله يتجدد بالنظر لأفراده بخلاف النظر إلى نوعه، فإنه قديم إلى غير ذلك.
فلو كان مخالفًا لاعتقاد الأشاعرة في زمانه لبسط القول في ذلك وبيَّنه غاية البيان؛ لأن الحاجة ماسة إليه، كما أنه في الكتاب نفسه يرد على المعتزلة نصًا باسمهم، لكن لا تراه يرد على الأشاعرة باسمهم.
فكل هذه القرائن تدل على أن ابن عطار رحمه الله تعالى لم يكن على مذهب السلف، وأن كتابه “الاعتقاد الخالص” على مذهب الأشاعرة، لكنه فيما رأيت على مذهب الأشاعرة المتقدمين، ويقع فيه أشياء من الاضطراب، أسأل الله أن يغفر لجميع علماء المسلمين أجمعين، وأن يغفر لابن عطار، وأن يهدينا إلى سواء السبيل.
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يعلِّمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما عَلَّمنا، وجزاكم الله خيرًا.