يقال جوابًا على هذا السؤال: إنَّ المراد بصلاة الليل هو المراد بصلاة التهجد، فصلاة الليل هي صلاة التهجد، كما يدل عليه صنيع العلماء، وفي كلامٍ لابن جرير الطبري: أن التهجد يكون بعد نومٍ، فالتهجد هو السَّهْر، فإذا سهر بصلاةٍ، فيسمى قيام ليلٍ، ففي كلام ابن جرير كما تقدم ما يدل على أنه بعد نومٍ.
لكن صنيع العلماء أن التهجد وقيام الليل بمعنى واحد، لكن اختلفوا هل الوترُ من قيام الليل؟ أو هو شيءٌ مغاير لقيام الليل؟
للعلماء قولان في هذه المسألة، وأصح القولين -والله أعلم- أن الوتر من قيام الليل، كما ذهب إلى ذلك الشافعيُ، وإسحاقُ بن راهويه، وهو قولٌ عند الحنابلة.
ويدل لذلك: أنه ثبت عن عثمان رضي الله عنه، كما رواه غيرُ واحدٍ: ((أنه قام الليل بركعةٍ واحدة)).
فدل هذا على أن الوتر من قيام الليل، ذلك أنه ليس لأحدٍ أن يقول: إن عثمان رضي الله عنه لم يقم الليل، لما صلى الليل كله في ركعةٍ واحدة.
فلذا؛ الأظهر أن الوتر من قيام الليل.
ويوضّح هذا من وجه حديث ابْنِ عُمَرَ، لما سُئِلْ النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَيْف صَلَاةُ اللَّيْلِ، قَالَ: «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ، صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً، تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى»، فقد جعل الوتر من صلاة الليل؛ لأن السؤال كان عن صلاة الليل.
ثم ينبغي أن يُعلَم أن الصلاة بعد المغرب يُعدُّ من قيام الليل، لذا؛ يستحب أن يُتنَفَّل وأن يصلى بين العشائين أي: المغرب والعشاء.
ويدلُّ لذلك قول الله عزَّ وجل: {كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17].
ثبت عند ابن جريرٍ عن أنسٍ وعن قتادةَ أنهما قالا: ((كانوا يتنفَّلون ما بين صلاة المغرب وصلاة العشاء)).
قد يدخل في صلاة الليل بالمعنى العام، أما قيام الليل بالمعنى الخاص، إذا أطلق لفظة قيام فيراد به من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، على تفصيلٍ في صحة الوتر بعد طلوع الفجر وقبل صلاة العشاء.
فالمقصود: أن الوتر من قيام الليل على الصحيح.
ثم يستحب أن تصلى ركعتا العشاء الراتبة بعد صلاة العشاء، وهذه ليست من قيام الليل بالمعنى الخاص الذي تقدم في حديث عمر لما سئل كَيْف صَلَاةُ اللَّيْلِ، قَالَ: «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى » بل هي صلاة مقيدة بالفريضة.
وكذلك يستحب أن يصلى بعد العشاء أربع ركعاتٍ، ويدل لذلك ما ثبت عن الصحابة كعبد الله بن عمرو بن العاص وعائشة رضي الله عنه وابن مسعود أنهم قالوا: (( أربعٍ بعد العشاء يعدلن بمثلهن من ليلة القدر)) أخرجه ابن أبي شيبة.
وهذا نفلٌ مطلق، وهو أيضًا ليس من قيام الليل بالمعنى الخاص الذي تقدم ذكره، وقد ذكر هذا الحنابلة، كما ذكره البهوتي في “كشاف القناع“.
والقيام بالمعنى الخاص هو أن يصلي ما شاء الله بهذه النيَّة ركعتين ركعتين، ثم يوتر.
وأَقَلُّ الوتر أن يكون ركعةً، ذهب إلى هذا جماهير أهل العلم، كما هو قول الشافعي وأحمد.
وثبت في صحيح مسلم عن ابن عباس وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الْوِتْرُ رَكْعَةٌ».
ثم يليه أن يوتر بثلاث ركعاتٍ، واختلف العلماء في هذه الثلاث، هل الأفضل أن تكون متصلة؟ أو أن تكون منفصلة؟
وأصح القولين، وذهب إليه الإمام أحمد، ورجَّحه النووي: أن الأفضل أن تكون منفصلةً، قال الإمام أحمد: ((لأن أكثر الأحاديث جاءت بذلك))، وقال النووي: ((لأن العمل في الانفصال أكثر من العمل في الاتصال))؛ لأنه يُزاد فيها تسليمتان.
فإذًا: ظاهر كلام العلماء لما بحثوا في الوتر بثلاث، هل الأفضل أن تكون متصلة أو منفصلة؟
ذكر هذا الشافعية والحنابلة، ظاهر كلامهم: أن ما يسميه الفقهاء قديمًا، وإلى اليوم بالشفع والوتر، أن جميعه وترٌ بثلاث، لكنه وترٌ بثلاث على وجه الانفصال، لا أن يقال: إنه وترٌ بواحدة، بل إنه -والله أعلم- وترٌ بثلاث على وجه الانفصال؛ لذلك يصح له أن يَصِلَها، وأن تكون بتسليمةٍ واحدة.
ويستحب في هذه الركعات الثلاثة أن يقرأ في الأولى بـ {سبح} وفي الثانية بسورة الكافرون، نصَّ على هذا الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وثبت بذلك الحديث عند النَّسائي عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، وجاء عن أبي بن كعب، لكن رجح المزي وغيرُه أن الصواب أنه من رواية عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى.
ووقع بعض المعاصرين في قولٍ شاذٍ، وقال: إنه لا يستحب أن تُقرأ {سبح] في الركعة الأولى ثم الكافرون في الركعة الثانية إلا إذا وصل الثلاث، أما إذا فصلها فلا يستحب هذا، وقوله قولٌ شاذٌ مخالف لما ذكره الإمام أحمد وغيره من أهل العلم، وقد ذكر هذا عبد العزيز الطريفي -هداه الله- وليست هذه بأوَّل شذوذاته العلمية، فبما تقدم ذكره ينجلي الإشكال -إن شاء الله تعالى- عند السائل.
أسال الله أن يفقهنا في الدين، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه الرحمن الرحيم، وجزاكم الله خيرًا.