الخطبة الأولى:
إنّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شُرورِ أنفُسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادِيَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتَّقوا الله – عباد الله – حقَّ التقوى، واستمسِكُوا من الإسلامِ بالعُروَةِ الوُثقَى.
عباد الله: إنَّ من نِعم الله تعالى علينا في هذه الشريعة المباركة أن ألف بين قلوب المؤمنين وجمع شتاتها ولمَّ شعثها.
وقد شرع الله سبحانه وتعالى لتحقيق ذلك شرائع وحدَّ حدودًا، ففرض سبحانه وتعالى على المؤمنين واجبات وحقوقًا لبعضهم على بعض، تُصلح ذات بينهم، وتجمع قلوبهم، وتؤلف بين صدورهم، فكان من تلك الشرائع حق الجوار.
عباد الله: إنَّ حق الجار على جاره مؤكدٌ بالآيات البيِّنات والأحاديث الواضحات، فهو شريعة محكمة وسنة قائمة، قال الله تعالى: «وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا». ففي الآية الوصية بالجيران كلهم قريبهم وبعيدهم، مسلمهم وكافرهم.
عباد الله: إنَّ حقوق الجار كثيرة عديدة، وهي في الجملة دائرة على ثلاثة حقوق كبرى: الإحسان إليهم، وكف الأذى عنهم، واحتمال الأذى منهم.وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم حق الجار تأكيدًا عظيمًا، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر وعائشة رضي الله عنهم قالا: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)). وهذا يدل على تأكيد حق الجار؛ فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ظنَّ أنَّ نهاية هذا الحرص وتلك الوصايا من جبريل عليه السلام أن يكون للجار نصيب من الميراث.
أما الحق الأول: فإنَّه الإحسان إلى الجيران، فقد أمر الله سبحانه وتعالى بذلك في كتابه فقال سبحانه: «وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ».
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره)). وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإكرام الجار وجعل ذلك من لوازم الإيمان، فقال صلى الله عليه وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره)).
عباد الله: إنَّ من الإحسان إلى الجيران سلامة القلب عليهم، وحب الخير لهم، ففي البخاري ومسلم من حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده، لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره ما يحب لنفسه)).
وفي هذا تأكيد حق الجار، وأن الذي لا يحبّ لجاره ما يحبّ لنفسه من الخير فإنَّه ناقص الإيمان، وفي هذا غاية التحذير ومنتهى التنفير عن إضمار السوء للجار قريبًا كان أو بعيدًا.
والمقصود أن يتواصل الخير والود والبر بين الجيران، ففي صحيح مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا ذر: إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك)).عباد الله: إنَّ من الإحسان إلى الجار الحرص على بذل الخير له قليلاً كان أم كثيرًا، كما قال الله تعالى: «لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا» ، وفي صحيح البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: ((يا نساء المسلمات: لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة)). فرسنُ الشاة هو حافرها. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “أي: لا تحقرن أن تهدي إلى جارتها شيئًا ولو أنها تهدي ما لا ينتفع به في الغالب“.
وأولى الناس بالإحسان من الجيران أقربهم منك بابًا، ففي البخاري من حديث عائشة قالت: يا رسول الله: إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟! قال صلى الله عليه وسلم: ((إلى أقربهما منك بابًا)).
وأما ثاني الحقوق: فهو كف الأذى عنهم، ففي الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعًا: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره)). ولهما عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن. قيل: من يا رسول الله؟! قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه)). أي: لا يأمن شره وخطره، وفي رواية لمسلم قال صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه)).
وهذا فيه تعظيم حق الجار ووجوب كف الأذى عنه، وأنَّ إضراره من كبائر الذنوب وعظائم المعاصي، وقد عظَّم الله –جلَّ وعلا– إلحاق الأذى بالجار، وغلظ فيه العقوبة، ففي الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم؟! فقال: ((أن تجعل لله ندًا وهو خلقك))، قلت: ثم أي؟! قال: ((أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك))، قلت: ثم أي؟! قال: ((أن تزاني حليلة جارك)).
وفي مسند الإمام أحمد قال صلى الله عليه وسلم: ((لأن يسرق من أهل عشرة أبيات أيسر من أن يسرق من بيت جاره)).
باركَ الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفَعَني الله وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ الله لي ولكم ولجميعِ المُسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه، إنه هو الغفورُ الرحيم.وأما ثالث الحقوق الكبرى: فهو احتمال الأذى منهم، والصبر على خطئهم، والتغافل عن إساءتهم، ففي مسند الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الله –عزَّ وجل– يحب ثلاثة ويبغض ثلاثة))، وذكر في الثلاثة الذين يحبهم: ((رجل كان له جار سوء يؤذيه فيصبر على أذاه حتى يكفيه الله إياه بحياة أو موت)).
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانِه، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريكَ له تعظِيمًا لشأنِه، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آلهِ وأصحابِه، وسلَّمَ تسليمًا مزيدًا.
عباد الله: ومن مظاهر التقصير في حقوق الجار: مضايقته، كإيقاف السيارات أمام منزله، ووضع مخلفات البناء والزبائل أمام بيته ، وأشد من ذلك رفع مزامير الشيطان حتى تصل إلى منزله، ووصول روائح التدخين إلى منزله أو استراحته.
ومنها: إفشاء أسرار بيت جاره، فالجار أقرب الناس إلى جاره، وهو أعرفهم في الغالب بأسراره؛ فمن اللؤم والأذية للجار كشفُ سرِّه، وهتكُ ستره، وإشاعة أخباره الخاصة بين الناس، والتجسس عليه.
ومنها: تتبع عثرات الجار، والفرح بزلاته، ومنها: تنفير الناس من الجار، ومنها: التعدي على حقوق الجار وممتلكاته، ومنها: عدم تعليم الزوجة والأولاد حقوق الجار، ومنها: تأجير من لا يرغب الجيران في إسكانه، ومنها: قلة الحرص على التعرف على الجيران، ومنها: قلة التفقد لأحوال الجيران، ومنها: الغفلة عن تعاهد الجيران بالطعام، ومنها: التكبر عن قبول هدية الجار، ومنها: منع الجار ما يحتاج إليه، ومنها: عدم دعوة الجار إلى الولائم والمناسبات، ومنها: عدم الاستجابة لدعوة الوليمة عند الجار، ومنها: قلة التناصح بين الجيران، ومنها: التكبر عن قبول النصيحة.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ؛ فَقَالَ: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:« مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْراً».
اللهُمَّ وَفِّق إمَامَنَا خَادِمَ الْحَرَمَيْنِ لِما فِيه عِزُّ الْإِسْلَامَ وَصَلَاحُ الْمُسْلِمِين.اللهُمَّ أعزَّ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الـشِّـرْكَ والمُـشـْرِكِين، وَاحْمِ حَوْزَةَ الدِّين.
اللهُمَّ وَفِّقْهُ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ وَإِخْوَانَه وَأَعْوَانَه لِما تُحِبُهُ وتَرْضَاه.
اللهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتَك، وَتَحَوُّل عَافِيَتك، وَفُجَاءَة نَقِمَتِك، وَجَمِيعِ سَخَطِك.
اللهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِن البَرَصِ وَالْجُذَام وَالْجُنُونِ وَسَيِّئ الْأَسْقَام.
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُ بِالعَدلِ وَالإِحسانِ وَإيتاءِ ذِي القُربى وَيَنهى عَنِ الفَحشاءِ وَالمُنكَرِ وَالبَغيِ يَعِظُكُم لَعَلَّكُم تَذَكَّرونَ﴾ .
جمع وتنسيق/ عبدالله بن مـحمد حسين النجمي
إمام وخطيب جامع الحارة الجنوبية بالنجامية بمنطقة جازان
حقوق الجار في الإسلام – خطبة جمعة للشيخ عبدالله النجمي 13-5-1443