بسم الله الرحمن الرحيم
[مُداهنة الشرك، د. عصام البشير نموذجًا]
فمع استمرار معاناة المسلمين الطويلة مع الجهل بالدِّين والضعف والوهن كان الغرب قد تقدَّم تقدمًا كبيرًا ماديًّا وعمرانيًّا وعسكريًّا، ولما أراد بعض المفكرين والكُتَّاب أن يُصلحوا من حال بلدانهم لاسيما بعد الاحتلال الغربي [الاستعمار] رأوا أهمية الاستفادة من هذا النموذج الغربي المُبهر، فكان أصحاب هذا التوجُّه على قسمين في الجملة:
القسم الأول: المفكرون والكُتَّاب الإسلاميين ممن تسرَّبت إليهم بعض المبادئ الغربية وأثَّرت على فهمهم وتفسيرهم للإسلام بسبب جهلهم بالاعتقاد الصحيح وقِلَّة بضاعتهم من العلم الشرعي.
القسم الثاني: المنافقون الذين تبنّوا مبادئ الغرب واعتقدوا أنَّ سبب هزيمة وتأخُّر المسلمين هو الإسلام نفسه.
والذي يهمني في هذا المقال هو القسم الأول، ومن أبرز رموزه ومنظريه: جمال الدين الأفغاني، والمودودي، وسيد قطب وحسن البنا، والسِّمة العامة لمدرسة هؤلاء المفكرين أنهم انحرفوا في تفسير الغاية من الخلق، وفهموا مراتب الشريعة فهمًا منكوسًا فجعلوا مسائل التوحيد والعقيدة في مرتبة أقل من أمور جعلتها الشريعة وسائل للغاية العظمى وهي العبودية لله، لا أنها مُرادةٌ لذاتها: كالخلافة وعمارة الأرض ونحو ذلك من الوسائل، فجعلوا الغاية وسيلة والوسيلة غاية، وتجد بيان ذلك بتفصيل في كتابٍ قيِّمٍ للدكتور عبد الحق التركماني بعنوان: (مقدمة في تفسير الإسلام)[1].
وممن تأثَّر بمدرسة هؤلاء المفكرين الدكتور عصام البشير، فقد نشأ منذ شبابه مع جماعة الإخوان المسلمين -التي أسسها حسن البنا- وكان من الطبيعي والبدَهي أن يتأثَّر بمنهجهم، قلَّ تأثُّرهُ أو كثُر، وقد اعترفَ بنفسهِ أنه انتسبَ إلى المكتب الإرشادي لجماعة الإخوان المسلمين نظاميًّا إلى أن تركه في العام 2005م، وكان انفصاله إداريًّا بحسب وصفهِ لا لشيءٍ آخر[2].
وقد أثَّرَ عليهِ منهجهُ الإخوانيّ في ترتيب الأولويات الشرعية، ومنها بطبيعة الحال أعظم قضية في الإسلام وهي إفراد الله بالعبادة، ففي لقاءٍ له في برنامج (لقاء الجمعة) عند حديثهِ عن فقه الأولويات، قال: “… حدَّثني مثلًا مفتي ليبيا عندما التقيت به في مؤتمر الأهلة في مكة أنَّ كيفَ بعضَ الشباب يرى في أولوية الخطاب في ليبيا هو هدم الأضرحة والقبور بالراجمات، وبقاذفات الآر بي جي، وبالمدفع الرشاش، هذه هي الأولوية، ليست عنده الأولوية أن يستقرّ المجتمع، أن يستتبَّ الأمن، أن تقوم الدولة، أن يُبسط القانون، أن تتحقق المصالح، المصالحة الوطنية، أن تُزال تلك الضغائن أو الألغام المعنوية في النفوس“.
ثم يُقاطعه المذيع (السعودي)[3] بقوله: “لكن الشرك والأمور الشركية مُش أخطر؟“.
فأجابهُ عصام البشير مُعارضًا: “يا أخي النبي ﷺ صبرَ على ثلاثمائة وستين صنم كانت حول الكعبة إلى أن حطَّم الأصنام التي في القلوب ثم حانَ الوقت الذي جاء فيه تحطيم الأصنام التي على الأرض، لابد أن نُرتِّب الأولويات! هارون صبرَ على فتنةِ عبادةِ العجل وهو من الشرك الأكبر حتى يشد عضده بأخيه، قال: (إني خشيتُ أن تقولَ فرَّقتَ بينَ بني إسرائيل ولم ترقب قولي) ليس هذا إقرارًا بالمنكر وليس هذا رضى بالخطأ، ولكن أن نُرتب الأسبقيات وأن نحشد طاقات الأمة وأن نعمل على تعبئتها وأن نستنهض همتها لتُواجه كل هذه القضية حسب ترتيب الأسبقيات“[4].
والرد على كلامه هذا من أربعة أوجه:
الوجه الأول: أنَّ النبي ﷺ لم يصبر على الأصنام إلى أن اقتنعَ الناسُ ببطلانها ثم قام بإزالتها، بل كسرها في فتح مكة مع وجود من يعبدها، أي كسرها رُغمًا عنهم! وأما صبرهُ ﷺ هذا الوقت فكان بسبب ضعف المسلمين على المواجهة وعلى إزالة هذا المنكر، ثم لمَّا مَنَّ الله عليه بالقوة بعد الهجرة إلى المدينة ثم جاءَ لفتح مكة قام بكسرها دون تردد ودون مُراعاة لهذه المصلحة التي يدَّعيها عصام البشير.
بل علَّم النبيُّ ﷺ أصحابه أهمية وأولوية تكسير هذه الأوثان تعظيمًا لحقِّ الله تعالى، كما روى مسلم (969) عن أبي الهياج الأسدي، قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ﷺ؟ «أن لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته».
فأمر النبيُّ ﷺ بطمس الصور والقبور المشرفة سدًّا لذريعة الشرك، فكيف والشرك موجود وهذه والصور والقبور تُعبد من دون الله؟! فطمسها وهدمها حين ذلك من باب أولى.
وأما وصفهُ لمن يُحرِّض المسلمين على إزالة الأوثان بقوله: “ هدم الأضرحة والقبور بالراجمات، وبقاذفات الآر بي جي، وبالمدفع الرشاش ” أستبعد أن يكون خطاب هؤلاء الموحدين بهذه الصيغة المليئة بالأسلحة، وإنما هذا الأسلوبٌ يُستعمَل للتهويل والتشويه، فكان الواجب عليه تشجيعهم وتشجيع ولاة أمورهم على هذا الفعل العظيم لا أن يخذلهم ويُشوّه صورتهم!
الوجه الثاني: أنَّ استدلاله بقصة هارون مع موسى -عليهما السلام- استدلالٌ في غير محله؛ فإنَّ هارون -عليه السلام- لم يسكت لأجل المصالح الدنيوية التي سَرَدها عصام البشير، وإنما لكونه مستضعفًا وأُكره بالقتل! قال تعالى عنه: ﴿قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي﴾ [الأعراف: 150] فتبيَّن أنَّ استدلالهُ باطلٌ.
الوجه الثالث: من شواهد استهانة عصام البشير بالتوحيد، وفهمه المنكوس للغايات والوسائل قوله: “ الأولوية أن يستقرّ المجتمع، أن يستتبَّ الأمن، أن تقوم الدولة، أن يُبسط القانون، أن تتحقق المصالح، المصالحة الوطنية ” فما ذكرهُ من المصالح الدنيويَّة لا تتعارض أصلًا مع إقامة التوحيد وهدم الأوثان التي تُعبد من دون الله، بما أنَّ للمسلمين قوة لإزالتها بلا مفسدة حقيقيَّة تترتَّب على ذلك!
الوجه الرابع: لو تنزَّلنا بأنَّ المصلحة التي يزعمها عصام البشير صحيحة، إلا أنه ليس صادقًا فيما يدَّعيه! وشاهد ذلك: أنه بعدَ هذا اللقاء بفترة ليست بطويلة قام بافتتاح مسجدٍ بمدينة طابت الشيخ عبد المحمود بولاية الجزيرة في السودان، والقيِّم على هذا المسجد مشايخ الطرق الصوفية القبورية.
وكان من كلمات عصام البشير في افتتاحه لهذا المسجد قوله: “طابت الشيخ عبد المحمود التي طابت بصالحي أهلها، ونشهد شرفَ المغزى والمعنى والمبنى، أن نلتقي لنُجدد هذا الصرح الإسلامي العظيم الذي هو ميراثُ سليلٍ من رهط الأولياء والصالحين من أهل العلم والعرفان ومن أهل الشهود والإحسان، الذين زاوجوا العلم والعمل، والحكمة والرشد والبلاغة والهداية للناس جميعًا، الذين زكّوا في الأمة علم الفقه الأكبر العلم الذي يُورث محبة الله وخشيته وخوفه ورجاءه والرضى بقضائه والشوق إلى لقائه والأُنس به سبحانه، هذا العلم الذي كان بمثله يتلذذ العارفون ويقولون: نحن في نعمةٍ لو علمها الملوك وأبناءُ الملوك لجالدونا عليها بالسيوف، إنه لتمرُّ بالقلب أوقات يرقص فيها طربًا ويقول: إن كان أهل الجنة في مثل ما نحن عليه من النعيم إنهم لفي عيشٍ طيب.
إنه سليل هذه الأسرة المباركة التي أحيت نار القرآن ونوره، وأحيت الفقه والسيرة والسنة، وأحيت حقائق العرفان،
إذا سكن الغدير على صفاءٍ … وجُنِّبَ أن يُحركهُ النسيمُ
بدتْ فيهِ السماءُ بلا امتراءٍ … كذاك الشمسُ تبدو والنجومُ
كذاكَ وجوهُ أربابِ التجلِّي … يُرى في صفوها الله العظيمُ
هكذا هو المعنى والمغزى والمبنى، الطرق الصوفية لها تاريخٌ ممتد في عطاء أهل الإسلام فتحًا حضاريًّا، فتحًا للعقول بالفكر، وللقلوب بالهداية، وللصدور بالطمأنينة والسكينة والإيمان، لها مجاهدات في جلاء المستعمر، لها مجاهدات في إحياء العلم النافع والعمل الصالح، لها مجاهداتٌ في إحياءِ الوحدة الإسلامية والتواثق على الخير، والتسامح الديني والسلام الاجتماعي، ذلك تاريخٌ باذخٌ مُنيرٌ مُضيء لا تُخطئه عينٌ فاحصة، فالله نسأل أن يجزي هذه المشيخة من الشيخ الجيلي إلى سليله من الآباء والأجداد خيرَ ما يجزي عباده الصالحين“[5].
هذا هو مشروع عصام البشير تجاه التوحيد وهدم الأوثان، وصنيعهُ تجاه هؤلاء القبوريين نابعٌ من استهانته بالتوحيد والعقيدة، ثم الغش وكتمان الحق وخيانة الأمانة التي أخذها الله على أهل العلم! فتبيَّن كذبه ودجله باسم الوسطية والحكمة والكلام المعسول، وتبيَّنَ أنَّ تأصيله لمسألة الأولويات ليس إلا مراوغةٌ ومداهنةٌ لأهل الشرك وتخذيلٌ للموحدين، ولا تزيدُ وسطيَّتهُ الشركَ والأوثانَ إلا انتشارًا.
قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ [آل عمران: 187].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم
وبارك على عبده ورسوله محمد
وعلى آله وصحبه
أجمعين
محمد عبد الحفيظ محمد إبراهيم
6 / شعبان / 1443هـ
9 / 3 / 2022م
[1] كتاب: مقدمة في تفسير الإسلام، رابط الكتاب:
https://csiislam.org/img/versions/13d170af8ccc.pdf
[2] برنامج: (لقاء الجمعة) مع الإعلامي عبد الله المديفر، بتاريخ: 10 / 3 / 2012م [الدقيقة: 58:55]
https://youtu.be/lJu2mK87QME
[3] عامة السعوديين تربّوا على كتب الإمام محمد بن عبد الوهاب المقررة في مدارسهم، لذلك تجد عامتهم عقيدته نقية وإن انحرفَ أخلاقيًّا ومنهجيًّا.
[4] برنامج: (لقاء الجمعة) مع الإعلامي عبد الله المديفر، بتاريخ: 10 / 3 / 2012م [الدقيقة: 2:27]
https://youtu.be/lJu2mK87QME
[5] مُداهنة عصام البشير للقبوريين عند افتتاح مسجد طابت:
https://youtu.be/6J_3ZIbrwCQ