أتاكم شهر البركات
الحمد لله ، والصَّلاة والسَّلام على رسوله ومُصطفاه ٬ أما بعد : فإن الفرح بقدوم شهر رمضان المبارك ٬ وتهنئة الناس بذلك ٬ لَمِن الإيمان الذي يرجو به صاحبه النَّجاح والفلاح في الدَّارين
🔹 قال اللَّه تعالى : { قل بفضل اللَّهِ وبرحمتِه فبذلك فليفرحوا هو خيرٌ ممَّا يَجمعون }
🔹 قال الإمام الطَّبري رحمه اللَّه : فإنَّ الإسلام الَّذي دعاهُم إليه ، والقرآن الَّذي أنزلَه عليهم خيرٌ ممَّا يَجمعون من حُطام الدُّنيا وأموالِها وكنوزِها .
[ تفسير الطبري (15/105) ]
🔹 وقال العلامة ابن سعدي رحمه اللَّه : وإنَّما أمر اللَّهُ تعالى بالفرح بفضلِه ورحمتِه لأنَّ ذلك ممَّا يُوجبُ انبساطَ النَّفْسِ ونشاطَها ، وشكرَها للَّه تعالى ، وقوَّتَها ، وشدَّةَ الرغبةِ في العلم والإيمان الدَّاعي للازدياد منهما .
💡 وهذا فرح محمودٌ ؛ بخلاف الفرح بشهوات الدُّنيا ولذَّاتِها ، أو الفرحِ بالباطل ؛ فإنَّ هذا مذمومٌ .
[ تيسير الكريم الرحمن (366) ]
🔹 وقد كان النَّبيُّ ﷺ يُبشِّر أصحابَهُ بقُدوم الشَّهر المبارك فيقولُ لهم : أتاكم رمضانُ شهرٌ مباركٌ ؛ فرضَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ عليكم صيامَهُ ٬ تُفتح فيه أبوابُ السَّماء ؛ وتُغلق فيه أبواب الجحيم ؛ وتغلُّ فيه مَردةُ الشَّياطين ؛ للُّهِ فيه ليلة خيرٌ من ألف شهرٍ ٬ مَن حُرم خيرَها فقد حُرِم .
[ صحيح سنن النسائي (2106) ]
🔹 قال بعض العلماء : هذا الحديث أصلٌ في تهنئة النَّاس بعضهم بعضًا بشهر رمضان ٬ كيف لا يُبشَّر المؤمنُ بفتح أبواب الجِنان ؟ كيف لا يُبشَّر المذنبُ بغلق أبواب النِّيران ؟ كيف لا يُبشَّر العاقلُ بوقتٍ يُغَلُّ فيه الشَّياطين ؟ من أين يُشبهُ هذا الزَّمان زمان ؟!
[ لطائف المعارف (148) ]
جاء شهر الصيام بالبركات
فأكرم به من زائر هو آت
🔹 ومن عظيم هذا الشهر قول النَّبيِّ ﷺ : إذا كان أوَّلُ ليلةٍ من شهر رمضان صُفِّدت الشَّياطين مَردة الجنِّ ؛وغُلِّقت أبواب النَّار فلم يُفتح منها بابٌ ؛ وفُتحت أبواب الجنَّة فلم يُغلق منها بابٌ ؛ ويُنادي مناد : يا باغيَ الخير أَقبل ٬ ويا باغيَ الشَّرِّ أَقصر ٬ وللَّهِ عُتقاءُ من النَّار [ وذلك كلَّ ليلة ] .
[ صحيح ابن خزيمة (١٨٨٣) والزيادة في صحيح سنن الترمذي (٦٨٢) ]
🔹 قال الحافظ ابن حجر رحمه اللَّه : صُفدِّت : أي شدت بالأصفاد وهي الأغلال .
[ فتح الباري (4/114) ]
🔹 وقال القرطبي رحمه اللَّه : فإنْ قيل : كيف نرى الشُّرور والمعاصي واقعة في رمضان كثيرًا ؛ فلو صُفِّدت الشَّياطين لم يقع ذلك ؟! فالجواب :
١) أنَّها إنَّما تقلُّ عن الصَّائمين الصَّوم الَّذي حُوفظَ على شروطِهِ ، ورُوعيت آدابه .
٢) أو المصفَّد بعض الشَّياطين ٬ وهم المردَةُ لا كلُّهم ، كما تقدَّمَ في بعض الرِّوايات .
٣) أو المقصود تقليلُ الشُّرور فيه ، وهذا أمرٌ محسوسٌ ؛ فإنَّ وقوعَ ذلك فيه أقل من غيره ؛إذ لا يلزم من تصفيد جميعهم أن لا يقع شرٌّ ولا معصيةٌ ؛ لأنَّ لذلك أسبابًا غير الشَّياطين ، كالنفوس الخبيثة ، والعادات القبيحة ، والشَّياطين الإنسيَّة .
ثم عقب الحافظ ابن حجر رحمه الله بقوله : وقال غيره في تصفيد الشَّياطين في رمضان إشارةٌ إلى رفع عُذرِ المكلَّف ، كأنَّه يُقالُ له : قد كفَّت الشَّياطين عنك فلا تعتلَّ بهم في ترك الطَّاعة ، ولا فعل المعصية .
[ فتح الباري (4/114-115) ]
🔹 وقال الطِّيْبي رحمه اللَّه : يا طالبَ الثَّواب أقبل هذا أوانُكَ ؛ فإنَّك تُعطى ثوابًا كثيرًا بعمل قليلٍ ، وذلك لشرف الشَّهر ؛ ويا مَن يشرع ويسعى في المعاصي تُب وارجع إلى اللَّه تعالى ، هذا أوانُ قَبول التَّوبة ، وللَّه عُتقاءُ من النَّار ، لعلَّكَ تكون من زُمرتهم .
[ شرح المشكاة (5/1576) ]
ومن عظيم فضل ركن الصِّيام أنَّ اللَّهَ جلَّ وعلا جعل لأهله بابًا يَلِجونَ منه إلى جنَّته .
🔹 قال ﷺ : إنَّ في الجنَّة بابًا يقال له الرَّيانُ يدخلُ منه الصَّائمونَ يوم القيامة ٬ لا يدخلُ منه أحدٌ غيرهم .
[ متفق عليه (1896) (1152) ]
🔹 قال المهلَّبُ رحمه اللَّه : إنَّما أفردَ الصَّائمينَ بهذا الباب ليُسارعوا إلى الرِّيِّ من عطش الصِّيام في الدُّنيا ، إكرامًا لهم واختصاصًا ؛ وليكون دخولُهم في الجنَّة هيِّنًا غير مُتزاحم عليهم عند أبوابها ؛ كما خَصَّ النَّبيُّ أبا بكر الصِّدِّيق ببابٍ في المسجد ، يقرُب منه خروجُه إلى الصَّلاة ، ولا يُزاحمه أحدٌ ، وأغلق سائرها إكرامًا له وتفضيلا .
[ شرح البخاري لابن بطال (4/15) ]
🔹 ولا أدلَّ على عظيم فضل الصَّوم من قول النَّبيِّ ﷺ : كلُّ عمل ابن آدم يضاعفُ الحسنةُ عشر أمثالها إلى سبعمائة ضِعف ؛ قال اللَّه عزَّ وجلَّ : إلَّا الصَّوم ؛ فإنَّه لي ، وأنا أجزي به ؛ يَدَعُ شهوتَهُ وطعامَهُ من أجلي ؛ للصَّائم فرحتان : فرحةٌ عند فِطره ؛ وفرحةٌ عند لقاء ربِّه .
[ صحيح مسلم (1151) ]
🔹 قال الحافظ ابن رجب رحمه اللَّه : فتكون الأعمال كلُّها تُضاعفُ بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلَّا الصِّيام ؛ فإنَّه لا يَنحصرُ تضعيفُهُ في هذا العدد ؛ بل يضاعفه اللَّهُ عزَّ وجلَّ أضعافًا كثيرةً بغير حَصْرِ عدد .
[ لطائف المعارف (150) ]
وكيف لا يكون هذا الفضل العظيم ، وقد سمَّى النَّبيُّ ﷺ رمضانَ بشهر الصَّبر فقال : صومُ شهر الصَّبر وثلاثةِ أيامٍ من كلِّ شهر ؛ صومُ الدَّهر .
[ صحيح الجامع (1447) ]
🔹 وفي رواية : يُذهبنَ وَحَرَ الصَّدر .
[ صحيح الجامع (3804) ]
وربُّنا سبحانه وتعالى يقول : { إنَّما يُوفَّى الصَّابرون أجرهم بغير حساب }
🔹 وفي بيان عظيم فضل الصَّوم أذكر قصَّةَ الرَّجُلين الَّذين قَدِما على النَّبيِّ ﷺ من بلي ؛ فكان إسلامهما جميعًا واحدًا ، وكان أحدُهما أشدَّ اجتهادًا من الآخر فغزا المجتهدُ ؛ فاستُشهدَ وعاش الآخر سنةً حتَّى صام رمضان ، ثمَّ مات ؛ فرأى طلحةُ بن عبيد اللَّه خارجًا خرج من الجنَّة ؛ فأذِنَ للَّذي تُوفِّي آخرهما ، ثمَّ خرج فأذِنَ للَّذي استشهد ، ثمَّ رجع إلى طلحة فقال : ارجع فإنَّه لم يأنِ لك .
فأصبح طلحة يُحدِّثُ به النَّاسَ ٬ فبلغ ذلك النَّبيَّ ﷺ ؛ فحدثوه الحديث وعجبوا فقالوا : يا رسول اللَّه ٬ كان أشدَّ الرَّجُلين اجتهادًا ؛ واستشهد في سبيل اللَّه ؛ ودخل هذا الجنَّةَ قبلَهُ ؟!
فقال النَّبيُّ ﷺ : أليسَ قد مكث هذا بعدَهُ بسنةٍ ؟ قالوا : [ بلى ]
قال : وأدركَ رمضان فصامَهُ وصلَّى كذا وكذا في المسجد في السَّنة ؟ قالوا : بلى
قال : فلَمَا بينهما أبعد ممَّا بين السَّماء والأرض .
[ التعليقات الحسان (2971) وما بين معقوفتين من مسند أحمد (1403) وسنن البيهقي (6530) ]
🔹 وفي بيان هذا الأمر أشار الحافظ ابن رجب رحمه اللَّه بقوله : إنَّ الصِّيام سرٌّ بين العبد وربِّه لا يطلع عليه غيرُهُ ؛ لأنَّه مركَّبٌ من نيَّةٍ باطنة لا يطلع عليها إلَّا اللَّه ؛ وتركٍ لتناول الشَّهَوات الَّتي يستخفي بتناولها في العادة ؛ ولذلك قيل : لا تكتبه الحَفَظة .
💡 وقيل: إنَّه ليس فيه رِياء .
[ لطائف المعارف (154) ]
وأختم مقالتي بما نقله الحافظ ابن رجب رحمه اللَّه فقال : كم ممَّن أمَّلَ أن يصوم هذا الشَّهر فخانه أمله ؛ فصار قبله إلى ظلمة القبر ٬ كم من مُستقبل يومًا لا يستكمله ، ومؤمِّل غدًا لا يُدركه ؟! إنَّكم لو أبصرتم الأجل ومسيره لأبغضتم الأمل وغروره .
خطبَ عمر بن عبد العزيز آخر خطبة خطبها فقال فيها : إنَّكم لم تُخلقوا عبثًا ، ولن تُتركوا سُدًى ٬ وإنَّ لكم مَعادًا ينزل اللَّهُ فيه للفَصل بين عباده ؛ فقد خابَ وخسرَ مَن خرج من رحمة اللَّهِ الَّتي وَسِعت كلَّ شيء ، وحُرِمَ جنَّةً عرضُها السَّموات والأرض .
ألا ترون أنَّكم في أسلاب الهالكين ؟ وسيرتها بعدكم الباقون ، كذلك حتَّى تُردُّ إلى خير الوارثين ، وفي كلِّ يوم تُشيِّعون غاديًا ورائحًا إلى اللَّه ، قد قضى نَحبه ، وانقضى أجله ؛ فتودِّعونه وتَدَعونه في صدع من الأرض غير موسَّدٍ ولا مُمهَّدٍ ؛ قد خلعَ الأسباب ؛ وفارق الأحباب ؛ وسكن التُّراب ؛ وواجه الحساب ؛ غنيًّا عمَّا خلف ؛ فقيرًا إلى ما أسلف ٬ فاتَّقوا اللَّهَ عباد اللَّهِ قبل نزول الموت ، وانقضاء مواقيته .
وإنِّي لأقول لكم هذه المقالة وما أعلم عند أحد من الذُّنوب أكثر ممَّا أعلمُ عندي ، ولكن أستغفر اللَّهَ وأتوب إليه .
ثمَّ رفع طرف ردائه وبكى حتَّى شهق ، ثمَّ نزل ؛ فما عاد إلى المنبر بعدها حتَّى مات رحمة اللَّه عليه .
🔹 يا ذا الذي ما كفاه الذَّنب في رجب
حتَّى عصى ربَّه في شهر شعبانِ
🔹 لقد أظلكَ شهر الصَّوم بعدهما
فلا تُصيِّرهُ أيضًا شهرَ عصيانِ
🔹 واتل القُرانَ وسبِّح فيه مُجتهدًا
فإنَّه شهر تسبيحٍ وقرآنِ
🔹 فاحمل على جسد ترجو النَّجاة له
فسوف تُضرم أجساد بنيرانِ
[ لطائف المعارف (149) ]
والحمدُ للَّهِ ربِّ العالَمين .
أخوكم فراس الرفاعي .
غرَّة رمضان 1436 هـ .