الخُطْبَةُ الْأُوْلَى
الحمد لله خالق الزمان، ومقلب الليل والنهار، ومصرف الشهور والأعوام؛ ابتلى عباده فخلقهم وأمرهم، ويوم القيامة يجزيهم بأعمالهم، نحمده على ما هدانا، ونشكره على ما أولانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ نصب له الصالحون أركانهم، وقضوا رمضان في محاريبهم، ركعاً سجداً يبتغون فضلاً منه ورضواناً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ كان يشكر الله تعالى بأركانه كما شكره بلسانه، فيقوم من الليل حتى تَرِمَ قدماه الشريفتان ويقول: “أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟” صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأحسنوا ختام هذا الشهر العظيم؛ فإن الأعمال بالخواتيم (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا)، وخذوا العبرة والعظة من سرعة انتهاء شهركم في استثمار أوقاتكم؛ فإن أعماركم تمضي عليكم، ولا يبقى لكم إلا ما قدمتم فيها.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: إِنَّ مِنْ فَضْلِ الله عَلَى عِبَادِهِ أَنْ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ زَكَاةَ الفِطْرِ، جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ الله ﷺ فَرَضَ زَكَاةَ الفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ مِنَ المُسْلِمِينَ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ أَوْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ. وقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: «فَرَضَ رَسُولُ الله ﷺ زَكَاةَ الفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ»، فَهي واجبة عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ذَكَراً أَوْ أُنْثَى كَبِيراً أَوْ صَغِيراً حتى اليتيم إِنْ كَانَ عِنْدَهُ مَا يَزِيدُ عَلَى قُوتِ يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ.
وتجب عَلَى الرَّجُلِ ومَنْ يَعُولُ مِنْ أَهْلِهِ، لكل نفس منهم صاعٌ مِنْ غَالِبِ قُوتِ أَهْلِ البَلَدِ وتقدر بثلاثة كيلوّات تقريباً، وَأَجْمَعَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ زَكَاةَ الفِطْرِ لَا تَجِبُ عَلَى الجَنِينِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، ولكن يستحب إخراجها عنه لما ثبت عند ابن أبي شيبة أن أبا قِلَابة قَالَ: «إِنْ كَانُوا لَيُعْطُونَ حَتَّى يُعْطُونَ عَنِ الْحَبْلِ».
وَلَا بَأْسَ بِإِخْرَاجِها قَبْلَ العِيدِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، وَتَجِبُ بِغُرُوبِ شَمْسِ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَنْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ أَوْ أَسْلَمَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ الفِطْرِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الغُرُوبِ لَمْ تَلْزَمْهُ، وَيَلْزَمُ إِخْرَاجُهَا قَبْلَ صَلَاةِ العِيدِ، وَلَا يَجُوزُ إِخْرَاجُهَا نَقْدًا؛ لِأَنَّه ﷺ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ مَعَ حَاجَةِ الفُقَرَاءِ لِلدَّرَاهِمِ وَتَشَوُّفِهِمْ لَهَا، قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللهُ فِيمَنْ يُعْطِي دَرَاهِمَ فِي زَكَاةِ الفِطْرِ: (أَخَافُ أَلَّا يُجْزِئَهُ خِلَافُ سُنَّةِ رَسُولِ الله ﷺ)، قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ:(لَمْ يُجِزْ عَامَّةُ الفُقَهَاءِ إِخْرَاجَ القِيمَةِ).
وَلَا تَبْرَأُ الذِّمَّةُ إِلَّا بِوَضْعِهَا عِنْدَ مُسْتَحِقِّهَا أَوْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُمْ وهم الذين ذكرهم الله تعالى في قوله: (إِنَّمَا ٱلصَّدَقَٰتُ لِلۡفُقَرَآءِ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱلۡعَٰمِلِينَ عَلَيۡهَا وَٱلۡمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمۡ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَٱلۡغَٰرِمِينَ وَفِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِۖ فَرِيضَةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ)، وَلَا بَأْسَ أَنْ يُعْطِيَ الفَقِيرَ الوَاحِدَ فِطْرَتَيْنِ فَأَكْثَرَ، وَإِذَا أَخَذَهَا الفَقِيرُ وَزَادَتْ عَنْ نَفَقَةِ يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ فَلْيُخْرِجْهَا عن نفسه ومن يعول، وَلَا يَجُوزُ إِعْطَاؤُهَا لِكَافِرٍ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ رَحِمَهُ اللهُ: (وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ زَكَاةَ المَالِ لَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إِلَى غَيْرِ المُسْلِمِينَ).
عباد الله: اعْلَمُواْ أَنَّ صَلَاةَ العِيدِ حَثَّ عَلَى شُهُودِهَا رَسُولُ ﷺ وَقَدْ أَوْجَبَهَا جَمْعٌ مِنَ العُلَمَاءِ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ قَادِرٍ مُقِيمٍ، وَإِذَا صَادَفَ يَوْمُ عِيدِكِمْ يَوْمَ الجُمُعَةِ فَاحْمَدُواْ اللهَ عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ جُمِعَ لَكُمْ عِيدُ الأُسْبُوعِ وَعِيدُ الفِطْرِ فِي يَوْمَ وَاحِدٍ، فَيَجِبُ أَدَاءُ صَلَاةِ الجُمُعَةِ لِمَنْ لَمْ يَشْهَدْ صَلَاةَ العِيدِ، وَمَنْ شَهِدَ صَلَاةَ العِيدِ فَلَهُ أَنْ يَتَرَخَّصَ فِي عَدَمِ حُضُورِ الجُمُعَةِ ولو حضرها كان أفضلَ له، ويجب على من ترخّص بترك الجمعة أَنْ يُصَلِّيَها ظُّهْراً أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ بعد دخول الوقت وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ، وَيُصَلِّيْهَا دُونَ أَذَانٍ لَهَا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون).
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَنَفَعَنَا بِمَا فِيهِمَا مِنَ الآيَاتِ وَالحِكْمَةِ أَقُولُ مَا سَمِعْتُمْ وَاسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الحَمْدُ للهِ عَلَى نِعَمِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى فَضْلِهِ وَخَيْرِهِ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيراً.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ الله وَأَحْسِنُواْ تَوْدِيعَ شَهْرِكُمْ، فَإِنَّهُ مَاضٍ بِالشَّهَادَةِ لَكُمْ أَوْ عَلَيْكُمْ، وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُوَدِّعُوه بِفِعْلِ السَّيِّئَاتِ أَو تَغْتَالُواْ حَسَنَاتِكُمْ بِارْتِكَابِ المَعَاصَي.
عباد الله: إن شَهْرُكُمْ قَدْ تَصَرَّمَتْ أَيَّامُهُ، وَتَسَارَعَ زَمَانُهُ، وَقَرُبَ رَحِيلُهُ، وَقَدْ بَقِيَ فِيهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ لِمُسْتَعْتِبٍ، وَفُسْحَةٌ لِتَائِبٍ، وَوَقْتٌ لِمُتَسَابِقٍ، فَاجْتَهِدُواْ فِيمَا بَقِيَ، وَأَحْسِنُواْ الظَّنَّ بِرَبِّكُمْ، فَاللهُ كَرِيمٌ رَحِيمٌ يُحِبُّ العَفْوَ، أَدِّبُواْ قُلُوبَكُمْ بِكَثْرَةِ ذِكْرِ الله وَاعْمُرُواْ أَوْقَاتَكُمْ بِتِلَاوَةِ القُرْآنِ وَالإِقْبَالِ عَلَى الرَّحْمَنِ، وَأَلِحُّواْ عَلَى مَوْلَاكُمْ بِالدُّعَاءِ فِي كُلِّ الأَوْقَاتِ، فَمَنْ فَرَّطَ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ وَاللَّيَالِي فَهُوَ فِيمَا سِوَاهَا أَكْثَرُ تَفْرِيطاً، وَمَنْ ضَيَّعَ وَقْتَهُ فِيهَا فَهُوَ فِي غَيْرِهَا أَشَدُّ تَضْيِيعاً.
عِبَادَ الله: هأَنْتُمْ تَعِيشُونَ فِي أَوْقَاتٍ فَاضِلَةٍ وَلَيَالٍ شَرِيفَةٍ، تَتَحَرَّوْنَ فِيهَا لَيْلَةً مُبَارَكَةً عَظِيمَةً، ليلةٌ خَالِيَةٌ مِنَ الشَّرِّ وَالأَذَى وهِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، قَالَ عنها النَّبِي ﷺ: «فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ» وقال ﷺ: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»، وكان ﷺ: «إذَا دَخَلَت العَشْرُ الأَوَاخِرُ أَحْيَا اللَّيْلَ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ وَشَدَّ المِئْزَرَ» وكان ﷺ: «يَجْتَهِدُ فِي طَلَبِهَا فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ»، فَأَكْثِرُواْ يَا عِبَادَ الله مِنَ الطَّاعَاتِ وَاشْغَلُواْ لَيَالِيَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ وَقِرَاءَةِ القُرْآنِ، جاء عن عَائِشَةَ أنها قَالَتْ للنبي ﷺ: أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيَّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ القَدْرِ، مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: «قُولِي اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي».
أيها الناس: قال ﷺ: «الْتَمِسُواْ لَيْلَةَ القَدْرِ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى»، فليلة القدر تتنّقل في العشر كلها، لكنها أرجى في الليالي الوترية، وفي ليلة السابع والعشرين أرجى إلا أن الليالي الوترية إنما تعرف بالنظر إلى نهاية الشهر وليس بالنظر في ابتدائه لذا قال ﷺ: «فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى»، ولذا كان النبي ﷺ يجتهد فيها ويعتكف، وهذا هو قول الإمام أحمد رحمه الله في رواية واختارها ابن تيمية رحمه الله تعالى.
فالتمام التمام عباد الله فما هِيَ إلا لَيَالٍ مَعْدُودَةٌ يَذْهَبُ نَصَبُهَا وَيَبْقَى أَجْرُهَا لِمَنْ وَفَّقَهُ اللهُ، وَاعَلَمُواْ أَنَّ المُعَوَّلَ عَلَى القَبُولِ ما وقر بِالقُلُوبِ، فَكَمْ مِنْ قَائِمٍ مَحْرُومٍ، وَكَمْ مِنْ نَائِمٍ مَرْحُومٍ، فَاسْعَوا عباد الله فِي اكْتِسَابِ الخَيْرَاتِ وَالاجْتِهَادِ فِي الطَّاعَاتِ وَلَا تُفَرِّطْوا فَتَنْدَمَوا، جاء عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «مَنْ هَذَا المَقْبُولُ مِنَّا فَنُهَنِّيهِ، وَمَنْ هَذَا المَحْرُومُ مِنَّا فَنُعَزِّيهِ، أَيُّهَا المَقْبُولُ هَنِيئاً لَكَ، أَيُّهَا المَرْدُودُ جَبَرَ اللهُ مُصِيبَتَكَ»، وكان بَعْضُ السَّلَفِ: (يَدْعُونَ اللهَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ أَنْ يُبَلِّغَهُمْ شَهْرَ رَمَضَانَ ثُمَّ يَدْعُونَ اللهَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ أَنْ يَتَقَبَّلَهُ مِنْهُمْ).
اللَّهُمَّ وقفنا لقيام ليلة القدر إيماناً واحتساباً، واجعلنا من المقبولين الفائزين، السعداء الناجين، ولا تجعلنا من الأشقياء المحرومين.
اللهم صل وسلم على محمد، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين وانصر عبادك الموحدين.
اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم أجمعين، اللهم أجزهم عنا خير الجزاء يا كريم اللهم اجمعنا بهم وبأحبابنا في الفردوس الأعلى يا رب العالمين.
اللهم إنا نعوذ بك من الغلاء والوباء والربا والزنا والزلال والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين. (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.