بسم الله الرحمن الرحيم
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. أما بعد:
فإن الولايات متفاوتة ما بين صغير وكبير، ثم الصغير والكبير متفاوتة إلى مراتب كثيرة، وقد كتب في فن الإدارة الغربيون وتبعهم كثير من الشرقيين، وتوغل كثيرون ممن تولى الإدارة ومنهم طلاب علم ومتدينون، ونسى بعضهم أمورًا مهمة في الإدارة قد أفلس منها الغربيون أو أقلوا كالتوكل على الله والاستعانة به؛ فمن لم يتوكل على الله ويستعن به خذل ووكل إلى نفسه قال تعالى: ﴿ومن يتوكّلۡ على ٱللّه فهو حسۡبه ۚ﴾ [الطلاق: 3] وقال: ﴿إيّاك نعۡبد وإيّاك نسۡتعين ٥﴾ [الفاتحة: 5] ثبت في سنن الترمذي عن ابن عباس – رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله – ﷺ -: «إذا استعنت فاستعن بالله»، وكالحذر من آفات الرئاسة ومن حب العلو في الأرض قال تعالى: ﴿تلۡك ٱلدّار ٱلۡأٓخرة نجۡعلها للّذين لا يريدون علوّٗا في ٱلۡأرۡض ولا فسادٗاۚ ﴾ [القصص: 38] .
وكالحذر من طلبها فمن طلبها وكل إلى نفسه، ومن وكل إلى نفسه وكل إلى ضيعة، ثبت في صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -ﷺ-قال: «يا عبدالرحمن لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن اعطيتها من غير مسألة أعنت عليها »، وداخل في الإمارة كل إدارة صغرت أو كبرت، وقد تكلم العلامة ابن رجب في شرح حديث «ما ذئبان جائعان» بكلام نفيس في هذا، حبذا الرجوع إليه لأهميته القصوى وفائدته العظمى،ومما ذكر قوله -رحمه الله-: “طلب الشرف بالولاية والسلطان والمال، وهذا خطر جدًا، وهو الغالب، يمنع خير الأخرة وشرفها وكرامتها وعزها، قال تعالى: ﴿تلۡك ٱلدّار ٱلۡأٓخرة نجۡعلها للّذين لا يريدون علوّٗا في ٱلۡأرۡض ولا فسادٗاۚ ﴾ [القصص: 38] ،وقلّ من حرص على رياسة الدنيا بطلب الولايات فوفق، بل يوكل إلى نفسه -ثم قال- وكان يزيد بن عبدالله بن موهب من قضاة العدل والصالحين، وكان يقول: من أحب المال والشرف وخاف الدوائر لم يعدل فيها. وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي ﷺ قال: «إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة» ، وفيه أيضًا عن أبي موسى الأشعري-رضي الله عنه- أن رجلين قالا للنبي -ﷺ-: يا رسول الله أمرنا، قال: « إنا لا نولي أمرنا هذا من سأله ولا من حرص عليه ».
-ثم قال-: ومن دقيق أفات حب الشرف بطلب الولايات والحرص عليها، وهو باب غامض لا يعرفه إلا العلماء بالله تعالى، العارفون به، المحبون له، ويحبون فيه مع حقارتهم عند الناس وهم خواص عباده، الذين يعادون له من جهالة خلقه المزاحمون لربوبيته وإلهيته مع حقارتهم وسقط منزلتهم عند الله، وعند خواص عباد الله العارفين به -ثم قال- وأعلم أن حب الشرف بالحرص على نفوذ الأمر والنهي، وتدبير أمر الناس، إذا قصد بذلك مجرد علو المنزلة على الخلق والتعاظم عليهم، وإظهار صاحب هذا الشرف حاجة الناس إليه، وافتقارهم إليه، وذلهم له في طلب حوائجهم منه، فهذا نفسه مزاحمة لربوبية الله تعالي وإلهيته، وربما تسبب بعض هؤلاء إلى إيقاع الناس في أمر يحتاجون إليه؛ ليضطرهم بذلك إلى رفع حاجاتهم إليه، وظهور افتقارهم واحتياجهم إليه، ويتعاظم بذلك ويتكبر به، وهذا لا يصلح إلا لله وحده لا شريك له -ثم قال-: “من هذا الباب أيضًا أن يحب ذو الشرف والولاية أن يحمد على أفعاله، ويثنى عليه بها، ويطلب من الناس ذلك، ويتسبب في أذى من لا يجيبه إليه،وربما كان ذلك الفعل إلى الذم أقرب منه إلى المدح، وربما أظهر أمرًا حسنًا في الظاهر، وأحبّ المدح عليه وقصد به في الباطن شرًا، وقصد تمويه ذلك وترويجه على الخلق؛ وهذا يدخل في قول الله عز وجل ﴿لا تحۡسبنّ ٱلّذين يفۡرحون بمآ أتوا وّيحبّون أن يحۡمدوا بما لمۡ يفۡعلوا فلا تحۡسبنّهم بمفازةٖ مّن ٱلۡعذابۖ ولهمۡ عذاب أليمٞ﴾ [آل عمران: 188] فإن هذه الآية إنما نزلت فيمن هذه صفته، وهذا الوصف- أعني: طلب المدح من الخلق، ومحبته، والعقوبة على تركه-، لا يصلح إلا لله وحده لا شريك له، ومن هنا كان أئمة الهدى ينهون عن حمدهم على عدلهم، وما يصدر منهم من الإحسان إلى الخلق، ويأمرون بإضافة الحمد على ذلك إلى الله وحده لا شريك له، فإن النعم كلها منه”. -إلى أن قال-: أراد أن تعرف أن ذا الولاية إنما هو منتصب لتنفيذ أمر الله، وآمر العباد بطاعته تعالى، وناه لهم عن محارم الله، ناصح لعباد الله بدعائهم إلى الله، فهو يقصد بدعائهم أن يكون الدين كله لله وأن تكون العزة لله، وهو مع ذلك خائف من التقصير في حقوق الله أيضًا، فالمحبّون للّه غاية مقاصدهم من الخلق أن يحبوا الله ويطيعوه، ويفردوه بالعبودية والإلهية، فكيف يزاحمونه في شيء من ذلك، فهو لا يريد من الخلق جزاءً ولا شكورًا، وإنما يرجو ثواب عمله من الله “-إلى أن قال-: ” طلب الشّرف والعلوّ على الناس بالأمور الدينية، كالعلم والعمل والزّهد، فهذا أفحش من الأول وأقبح وأشدّ فسادًا وخطرًا، فإنّ العلم والعمل والزهد إنّما يطلب بها ما عند الله من الدرجات العلى والنعيم المقيم، ويطلب بها ما عند الله والقرب منه والزّلفى لديه”، انتهى المقصود من كلام ابن رجب رحمه الله.
احذر يا من تعصي الله في الولاية إما بظلم أو طاعة لمن فوقك في معصية الله؛ وأقبح من ذلك أن تحسّنه نفسك الأمارة بالسوء لمصالح دنيوية، وعلم الله فوق عرشه، وأن حقيقتها اتّباع للهوى لمصالح تافهة وزائلة، وإن خادعت نفسك وموهت على الخلق.
اعلم يا هذا أن الأيام دول، ولا تستقر على حال، فكما توليت ولايتك بعد غيرك، فغيرك يتولى بعدك، ولو بقيت في ولايتك فالموت مصيرك، ولا مفر منه، واليوم عمل بلا حساب، وغدًا حساب ولا عمل.
يالله ما أعظم الظلم! يالله ما أعظم خذلان الحق! يالله ما أعظم معصية الله لطاعة من فوقك!
يا هذا إن المواعظ والتذكير إنما تنفع القلوب الحية لا الميتة، والصالحة لا الطالحة، قال تعالى: ﴿وذكّرۡ فإنّ ٱلذّكۡرىٰ تنفع ٱلۡمؤۡمنين ٥٥﴾ [الذاريات: 55]، فإن انتفعت بالذكرى فهو علامة خير، وإلا فراجع نفسك وتداركها قبل الفوت والموت، اللهم اهدنا،وأصلحنا، وعلى الصراط ثبتنا .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
د. عبدالعزيز بن ريس الريس
9/ 2/ 1446هـ