الخطبة الأولى: ـــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمدُ للهِ علَّامِ الغُيوبِ، وأشهدُ لَه شهادةَ الحقِّ لا إله إلا اللهُ، وأُصلِّي وأُسلِّمُ على عبدِهِ ونبيِّهِ محمدٍ، وأشهدُ لَه بالعُبوديةِ والرِّسالةِ، وأُثَنِّي بالتَّرضِّي على آلِهِ وأصحابِهِ وأزواجِهِ، فاللهمَّ اجعَلْنا مِن أتباعِهِ وأهلِ اتِّباعِه.
أمَّا بعدُ، أيُّها الناس:
فاتقوا اللهَ ــ جلَّ وعلا ــ بإصلاحِ قلوبِكُم بإبعادِها عن الغِلِّ والحِقدِ والحسَدِ وإرادةِ الشُّرورِ بالخلقِ، وعن العُجْبِ وحُبِّ الظهورِ والشُهرةِ والغُرورِ، وعن المُراءَاةِ والسُّمعةِ في العباداتِ وأعمالِ البِرِّ والإحسان، واتقوهُ بإصلاحِ ألسِنَتِكُم عن الأقوالِ المُحرَّمةِ شِركِيِّةً كانتْ أو بِدعيِّةً أو معاصٍ كبيرةٍ أو صغيرةِ، واتقوهُ بإصلاحِ جوارحِكُم بقيامِها بما فُرِضَ عليها وتجنيبِها ما حُرِّمَ عليها مِن أفعال، { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ }.{ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا }.{ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا }.
أيُّها الناس:
صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَمُنَاصَحَةُ أُولِي الْأَمْرِ، وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ))، وصحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( إِنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا: أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَأَنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللهُ أَمْرَكُمْ ))، وهذانِ الحديثانِ النَّبويَّانِ العظيمانِ معناهُما واحدٌ، والمُرادُ بِهِما مُتوافِقٌ، ويَشهد كُلٌّ مِنهُما لِمعنَى الآخَرِ ويُصَدِّقُهُ، ويزيدُ في تبيينِهِ وتوضيحِه.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (( ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ )) معناهُ: أنَّ هذهِ الخِصالَ الثلاثَ إذا وُجِدَتْ في المؤمِنِ فهيَ دليلٌ مِن أدِلَّةِ سلامةِ قلبِهِ مِن الفسادِ والغِلِّ، وصَفاءِ سَريرَتِهِ معَ المسلمينَ محكومينَ وحُكَّامًا، وصلاحِ باطنِهِ، وأنَّهُ مُحِبٌّ للخيرِ لِنفسِهِ والناسِ وولَاةِ أمْرهِ، وشديدُ البُعدِ عن الإضرارِ بِهِم، وهيَ تدفعُ عنهُ الغِلَّ والغِشَّ وفسادَ الباطِنِ وظُلمَةَ السَّريرَة، وأنَّ هذهِ الخِصالَ الثلاثِ لا يُبغِضُهنَّ قلبُ مُؤمنٍ، بل يُحِبُّهنَّ ويَرضاهُنَّ لِنفسِهِ ولِغيرِهِ مِن الناسِ في الأرض.
وإذا لم تُوجَدْ هذهِ الخِصالُ الثلاثُ، فذهابُها دليلُ فسادِ القلبِ، وعلامةُ قُبْحِ الباطنِ، وأنَّ هذا القلبَ قلبٌ خَرِبٌ قبيحٌ مُمتلِئٌ بالغِلِّ والحِقدِ والدَّغَلِ والشَّرِ، وليسَ بصَافٍ سليمٍ معَ المؤمنينَ، ولا معَ الحاكمِ والمَحكومِين.
أمَّا الخَصْلَةُ والصِّفةُ الأُولى: فقد جاءتْ في قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الحديثِ الأوَّلِ: (( إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ ))، وفي قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الحديثِ الثاني: (( أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ))، وهيَ تَتعلَّقُ باللهِ ــ جلَّ وعلا ــ،وحقِّ اللهِ على عبادِهِ، والواجبِ عليهِم جهَ ربِّهِم سبحانَه.
وإخلاصُ العملِ للهِ ــ عزَّ وجلَّ ــ يكونُ بأمرينِ:
الأمرُ الأوَّلُ: أنْ لا تَصْرِفَ ــ أيُّها العبدُ ــ عبادَتَكَ إلا للهِ وحدَهُ، لأنَّه سبحانَهُ الذي قضَى بذلكَ، فقالَ تعالى: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ }، ولذلكَ خلقَنا، كما قالَ ــ عزَّ وجلَّ ــ: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }، وهذا الأمرُ الأوَّلُ هوَ المُسمَّى عندَ العلماءِ اختصارًا: «بالتوحيد».
ودليلُ هذا المَعنَى للإخلاصِ: قولُ اللهِ ــ عزَّ وجلَّ ــ: { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ }، وقولُ اللهِ سُبحانَهُ: { فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ }، وقولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الحديثِ الثاني: (( أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا )).
وهذا الذي يُشرِكُ معَ اللهِ غيرَهُ: بصَرْفِهِ عبادةَ الدُّعاءِ لِمخلوقِينَ مِثلِهِ، فيقولُ وهوَ يَدعوهُم معَ اللهِ: «فرِّجْ عنَّا يا رسولَ اللهِ، أغِثنا يا جَيلانِي، مَدَد يا بدَوي، شيئًا للهِ يا رِفاعِي، اشفنا يا حُسين، أجِرنا مِن النَّارِ يا عبَّاس» ليسَ لهُ نصيبٌ مِن هذا المَعنى العظيمِ للإخلاصِ، ولا يدخلُ فيهِ، وقلبُهُ معَ اللهِ خَرِبٌ زائغٌ وليسَ بعامرٍ، لانتفاءِ إخلاصِهِ، وذهابِ حقِ اللهِ مِنهُ، وقد صحَّ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قالَ: (( فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى العِبَادِ: أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا )).
الأمرُ والمَعنِى الثاني للإخلاصِ: أنْ تُريدَ ــ أيُّها العبدُ ــ وجْهَ اللهِ ومَرضَاتِهِ بفعلِكَ للعباداتِ الواجبةِ والمُستحبَّةِ، وليسَ الرِّياءَ والسُّمعةَ وثناءَ المخلوقِينَ.
ويدُلُّ لِهذا المَعنَى: قولُ اللهِ تعالى: { فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ }، وقولُ اللهِ سُبحانَهُ: { لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا }، وقولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم الصَّحيحُ: (( قَالَ اللهُ: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ )).
والمُخلِّصُ للهِ بالمَعنيَينِ الأوَّلِ والثاني حَريُّ أنْ يَدفعَ اللهُ عنهُ السُّوءَ والفحشاءَ، حيثُ قالَ اللهُ سُبحانَهُ: { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ }، وحَرِيٌّ أنْ يُعينَهُ اللهُ كثيرًا على الشيطانِ، لِقولِ اللهِ تعالى: { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ }.
وأمَّا الخَصْلَةُ والصِّفةُ الثانيةُ: فقد جاءتْ في قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الحديثِ الأوَّلِ: (( وَمُنَاصَحَةُ أُولِي الْأَمْرِ ))، وقولِهِ صلى الله عليه وسلم في الحديثِ الثاني: (( وَأَنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللهُ أَمْرَكُمْ ))، وفيهِما: التأكيدُ الشديدُ للمُستطيعِ أنْ يَبذُلَ النَّصيحةَ الطَّيِّبةَ النافعةَ الرَّفيقةَ الليِّنَةَ للحاكمِ ونُوَّابِهِ، مِمَّا يَتعلَّقُ بصلاحِ الدِّينِ والدُّنيا والرَّعيَّةِ والبلاد، وسَدادِ الحاكمِ ونُوَّابِهِ، وتحبِيبِهِم للرَّعيِّةِ، لاسيَّما مِمَّن حولَهُم ومَن يُخالطُهُم ومَن يَلتقِي بِهِم، فهيَ في حقِّهِم أشدُّ وآكَدُ، وتكونُ نصيحتُهُم في السِّرِ والخَفاءِ بينهُما، وليسَ في العلَنِ أمامَ الناسِ، ولا عبْرَ الفضائياتِ وبرامجِ التواصلِ والخُطبِ والمُحاضراتِ، لأنَّها تُصبِحُ حِنَها فضيحةً لا نصيحةً، ولا يَرضَاها أحدٌ مِنَّا لِنفسِهِ وأهلِهِ، ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد منعَ مِنها، حيثُ ثبتَ أنَّهُ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصَحَ لِذِي سُلْطَانٍ فَلا يُبْدِهِ عَلانِيَةً، وَلَكِنْ يَأْخُذُ بِيَدِهِ فَيَخْلُوا بِهِ فَإِنْ قَبِلَ مِنْهُ فَذَاكَ، وَإِلا كَانَ قَدْ أَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ ))، ولأنَّ الإسرارَ طريقُ مَن يَبذُلُ النَّصيحةَ للهِ، ويُريدُ الدَّارَ الآخِرةَ، والإعلانُ بِها طريقُ الجاهلِ، ومَن يُريدُ الشُّهرةَ، ومَن يُفسِدُ أكثر، وكانَ بذْلُ النصيحةِ للحاكمِ سِرًّا لِمَن قدِرَ عليها واستطاعَ مُبعِدًا للغِلِّ والغِشِّ عن القائمِ بِها، لأنَّهُ يدُلُ على حُبِّهِ الخيرَ للإسلامِ والحاكمِ وأهلِ بلدِهِ ودولَتِهِ، كما يُحِبُّهُ لِنفسِهِ وولدِهِ وأهلِهِ، ولِذلكَ نصَحَهُم.
وصلواتُ اللهِ وسلامُهُ على عبدِهِ ورسولِهِ محمدٍ وآلِهِ وأصحابِهِ وأتباعِه.
الخطبة الثانية: ـــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمدُ للهِ العَلِيِّ الأعلَى، والصلاةُ والسلامُ على النَّبيِّ محمدٍ المُصطفى.
أمَّا بعدُ، أيُّها الناس:
فقد جاءتِ الخَصْلَةُ والصِّفةُ الثالثةُ: في قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الحديثِ الأوَّلِ: (( وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ))، وقولِهِ صلى الله عليه وسلم في الحديثِ الثاني: (( وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ))، وفيهِما أمرانِ:
الأمرُ الأوَّلُ: المنعُ مِن تفرُّقِ أهلِ الإسلامِ في الدِّينِ إلى أحزابِ وجماعاتٍ وطُرقٍ صوفيَّةٍ حتى ولو كانتْ تحتَ مُسمَّياتٍ وشعاراتٍ دِينيَّةِ، والمَنعُ مِن تفرُّقِ أهلِ البلدِ المُسلِم إلى أحزابٍ وطوائِفَ وقومِيَّاتٍ وعِرقيَّاتٍ وعصبيَّات.
الأمرُ الثاني: وجوبُ أنْ نَلزَمَ جميعًا ما جاءَ في كتابِ اللهِ القرآنِ، وفي سُنَّةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم الثابتةِ، وما كانَ عليهِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابُهُ عقيدةً ومَنهجًا وعباداتٍ ومُعاملاتٍ وآدابٍ، وأنْ نُطيعَ حاكِمَنا المُسلِمَ في غيرِ معصيةِ اللهِ، وأنْ لا نَخرُجَ عليهِ، لا بالكلامِ كتحريضِ الناسِ عليهِ، ولا بالأفعالِ مِن ثوراتٍ وقتالٍ لَهُ واقتتالٍ معَه.
لأنَّ هاذَينِ الأمرينِ يُقوِّيانِ الدِّينَ والدُّنيا والبلادَ والدَّولةَ والاقتصادَ، وخلافَهُما يُضعِفُ الدِّينَ والدُّنيا، ويُدمِّرُ البلادَ ببُويتِها ومتاجِرِها ومراكِبِها، ويُذهِبُ ائتلافَ ووحدَةَ أهلِها، ويُهلِكُ الاقتصادَ ويُرجِعُهُ إلى الوارءِ كثيرًا، وقد يُقسِّمُ الدولةَ الواحدةَ إلى دُويلاتٍ مُتعدِّدةٍ، ويَجُرُّ على أهلِها القتلَ والاقتتالَ والتفرَّقَ وتدخُّلَ الأعداء.
هذا، وأسألُ اللهَ ــ تبارَكَ اسمُهُ ــ أنْ يُوفِّقَنا فنكونَ مِن الناصحينَ، ومِن الصَّادِقينَ، ومِن المُتقينَ، ومِن المُحسنينَ، اللهمَّ: اجعلنا مِمَّن أحييتَهم وسَتُميتُهم على التوحيد والسُّنةِ والاتِّباعِ، اللهمَّ: ارفعْ عن المسلمينَ ما نَزلَ بِهِم مِن ضُرٍّ وبلاءٍ وقتلٍ واقتتالٍ وتشريدٍ، ووسِّعْ علينا وعليهِم في الأمْنِ والرِّزقِ والعافيةِ، اللهمَّ: سدِّدِ الحُكامَ ونُوابَهُم وجُندَهُم إلى مراضيكَ والخيرِ للعِبادِ والبلادِ، اللهمَّ: ارْحَم موتانا وموتَى المسلمينَ، وأكرِمْنا وإيَّاهُم برضوانِكَ والجنَّةِ، إنَّك سميعُ الدُّعاءِ، وأقولُ هذا وأستغفِرُ اللهَ لِي ولكُم.