الوصية بالوالدين والأقارب وكبار السن


الخطبة الأولى

إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليمًا. أما بعد:

أيها الناس:

اتقوا الله تعالى، وقوموا بما أوجب الله عليكم من حقه وحقوق عباده. ألا وإنّ أعظمَ الحقوق حقُّ الله تعالى، وهو عبادته وحده لا شريك له، ففي الصحيحين أنّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال لمعاذ بنِ جبلٍ -رضي الله عنه-: (يا معاذ، تدري ما حق الله على العباد؟ وما ‌حق ‌العباد على الله؟) قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: (فإنّ حق الله على العباد أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله عز وجل أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا).

ثم يأتي بعد حقِّ الله حقوقُ عبادِه، وأعظمُ حقوقِ العبادِ حقُّ الوالدين، فقد أوصى الله بِالْإِحْسَانِ إِلَيهما بَعْدَ الْحَثِّ عَلَى التَّمَسُّكِ بِتَوْحِيدِهِ، قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا}، فَإِنَّ الْوَالِدَيْنِ هما سَبَبُ وُجُودِ الْإِنْسَانِ، وَلَهُمَا عَلَيْهِ غَايَةُ الْإِحْسَانِ، فَالْوَالِدُ بِالْإِنْفَاقِ وَالْوَالِدَةُ بِالْإِشْفَاقِ. وكثيرًا ‌مَا ‌يَقْرِنُ الله تعالى بَيْنَ حقه وحق الوالدين كما في قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ ‌شَيْئًا ‌وَبِالْوَالِدَيْنِ ‌إِحْسَانًا} وقولِه تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}، بل قد أوصى الله تعالى بصحبة المعروف للوالدين في الدنيا وإن كانا كافرين بل وإن كانا يأمران ولدَهما المسلمَ أن يكفرَ بالله لكن لا يطيعهما في الكفر، فقال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاك على أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ}. وقد أمر الله تعالى بالبر بالوالدين ونهى عن عقوقهما في أعظم حال يشق على الولد برُّهُما فيها، فقال تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} ففي حال بلوغ الوالدين الكِبَرَ يكون الضعفُ البدنيّ والعقلي منهما وربما وصلا إلى أرذل العمر الذي هو سبب للضجر والملل منهما، وفي حالٍ كهذه نهى اللهُ الولدَ أن يتضجر أقلّ تضجرٍ من والديه، وأمره أن يقول لهما قولًا كريمًا، وأن يخفض لهما جناح الذل من الرحمة، وأن يدعو الله لهما بالرحمة كما رحماه في صغره ووقت حاجته فربياه صغيرًا.

ولعظم حقّ الوالدين فقد جعل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- برّهما مقدمًا على الجهادِ في سبيل الله،  ففي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: سألت النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أيّ العمل أحب إلى الله تعالى؟ قال: (الصلاة على وقتها)، قلت: ثم أيّ؟ قال: (برّ الوالدين)، قلت: ثم أيّ؟ قال: (الجهاد في سبيل الله).

 

 

أيها المسلمون:

إنّ برّ الوالدين يكون ببذل المعروف والإحسان إليهما بالقول والفعل والمال. أما الإحسان بالقول فأن تخاطبهما باللين واللطف مستصحبًا كلَّ لفظٍ طيّبٍ يدل على اللين والتكريم. وأما الإحسان بالفعل فأن تخدمهما ببدنك ما استطعت، من قضاء الحوائج والمساعدة على شؤونهما وتيسير أمورهما وطاعتهما في غير معصية الله. وأما الإحسان بالمال فأن تبذلَ لهما من مالك كلَّ ما يحتاجان إليه طيبةً به نفسُك منشرحًا به صدرُك غير مُتبِعٍ له بمنةٍ ولا أذى، بل تبذله وأنت ترى أنّ المنةَ لهما في ذلك في قبوله والانتفاع به.

وإنّ برّ الوالدين كما يكون في حياتهما يكون أيضًا بعد مماتهما؛ فقد أتى رجلٌ من بني سلمة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ بَقِيَ مِنْ ‌بِرِّ ‌أَبَوَيَّ شَيْءٌ أَبَرُّهُمَا بِهِ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِمَا؟                    قَالَ: (نَعَمُ، الصَّلَاةُ عَلَيْهِمَا وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمَا وَإِنْفَاذُ عُهُودِهِمَا وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّذِي لَا رَحِمَ لَكَ إِلَّا مِنْ قِبَلِهِمَا) رواه الحاكم وصححه.

عباد الله:

ويأتي بعد الوالدين في الحقوق بقيةُ الأقارب؛ فإنّ الله قد عطف على الإحسانِ إلى الوالدين الإحسانَ إلى القراباتِ من الرجال والنساء، فقال تعالى: {‌وَبِالْوَالِدَيْنِ ‌إِحْسَانًا وبذي القربى}.

فأحسنوا إلى أقاربكم ولاسيما من كان منهم أشدّ حاجةً كالكبير والعاجز والمريض؛ فـ {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} و{هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَان}.

بارك الله لي ولكم.

 

 

 

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

عباد الله:

لقد جاء الإسلام بزيادة توقير المشايخ والكبار حتى من غير الوالدين والأقارب، فقد قال رَسُول اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَنْ لَمْ ‌يَرْحَمْ ‌صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ حَقَّ كَبِيرِنَا فَلَيْسَ مِنَّا) رواه الحاكم وصححه.                                    بل عدّ – صلى الله عليه وسلم – إكرامَ ذي الشيبة المسلم من إجلال الله تعالى، فقال: (إنّ من إجلال الله إكرامَ ذي ‌الشيبةِ ‌المسلم) رواه أبو داود وحسنه الألباني.

وإنّ من صور إكرامه السعيَ في خدمته، وأن يُقدّم على غيره في الكلام والسواك والطعام والشراب والمشي ونحو ذلك إذا كانوا متساوين، فقد ثبت في الصحيحين أنّ ثلاثةً أتوا النبي – صلى الله عليه وسلم -؛ ليتكلموا معه في قضية قتل، فأراد أخو القتيل أن يتكلم وكان أصغرهم، فقال له النبي – صلى الله عليه وسلم – (كَبِّر كَبِّر)، وثبت في الصحيحين أيضًا أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أراني في المنام أتسوك بسواك، فجذبني رجلان، أحدهما أكبر من الآخر، فناولت السواك الأصغر منهما، فقيل لي: كَبِّر ، فدفعته إلى الأكبر)، وكان رسولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إِذَا سَقَى يقول: (ابدؤوا بِالْكَبِيرِ) رواه أبو يعلى وقوّى سنده ابن حجر.

فاتقوا الله -عباد الله-، واعرفوا لكبيركم قدرَه، وربّوا أولادَكم على توقيره، وقوموا بذلك امتثالًا لأمر الله وأمرِ رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ تُفلحُوا وتَسعَدُوا.

وصلوا وسلموا… .

 

 

كتبها/ د. بدر بن خضير الشمري

خطبة عن حق الوالدين وكبار السن


شارك المحتوى:
0