الخطبة الأولى:
الحمد لله الغني الحميد ، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، له مقاليد السموات والأرض.. يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر، له الحمد في الضراء كما له الشكر في السراء .. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله؛ اُبتلي فصبر، وأُنعم عليه فشكر، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين وعلى أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:
فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله ، فبها الربح والمغنم، وبسببها يدفع الله البلاء والنقم:(وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً)
عباد الله : نعم ربنا لاتعد ولاتحصى ، ومن ذلكم نزول القطر من السماء؛ لتصبح برحمة ربنا الأرض مخضرة فيحيي الله به بلدةً ميتاً، ويسقيه ممن خلق أنعاماً وأناسي كثيراَ؛
فربنا سبحانه هو أحكمُ الحاكمين، وأرحمُ الراحمين، وأعلمُ العالمين ، تولَّى جلَّ وعلا تدبيرَهم بموجبِ علمِهِ وحكمتِه ورحمتِه، كما قال جلَّ ذكرُه (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ)
نحمدك ربنا حمد الشاكرين، ونستغفرك استغفار المذنبين، ونسألك من فضلك العظيم .
عباد الله : يقول جل وعلا ( وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً ) قيل المراد ليذكر من منع المطر أنما أصابه ذلك بذنب أصابه فيقلع عما هو فيه .
وآثار الذنوب والمعاصي عباد الله : عظيمة على القلوب والأرواح والأبدان وهي كما ذكرها ابن القيم على وجه البيان لا الحصر ، أربعة وسبعون أثرا لا يخطي المذنب أنا وأنت ، وابني وابنك ، وأخي وأخيك ، ولا تنظر ليغيرك قبل اصلاح نفسك ،: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) ، فما يصيبنا عبادَ اللهِ فبما كسبت أيدينا، ويَعْفو عن كثيرٍ، فما نزلَ بلاءٌ إلا بذنبٍ؛ عظةً وتذكرةً ( وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ )
فاحذر عبد الله : أن يكون حبس المطر بسبب عدم شهودك صلاة الفجر ، وتقلبك في فراشك وأنت معافى ، أو تهاونك في أداء الفرائض ، او ايذائك لاخوانك المسلمين قولا أو فعلا ، ألا تخاف أن تكون سببا لإهلاك الله ومنعه المطر .
واياك وقطيعة الأرحام وخصام الأقارب وعقوق الوالدين ، واحذر أن يلج سمعك ما حرم عليك ربك من غناء وغيبة ، أو أن يلفظ لسانك بكذب أو زور أو نميمة ، واحفظ بصرك من أن تطلقه في النظر للحرام .
عباد الله : ليسير الواحد منا ناظر فكره في نسائنا ، كم ذاب ذلكم الحجاب عند ثلة من نسائنا وتقلص فأصبحنا نرى ملكات البيوت وحواضن الرجال جوالات الطرق ولاجات الأسواق ، والصالحات ولله الحمد كثير .
لننظر في قلوبنا كم هم أولئك مرضى القلوب ، حقد
وحسد، وكبر وتعال ، وعجب ورياء .
ثم الحذر عباد الله : من تضييع شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعلم وحلم ورفق ، وليس موقوفا على أناس دون آخرين ، أو بتخويف الشيطان بما سيكون العاقبة لو أنكرت ؟! فإن السكوت من إعانة أهل المنكر ويوافق هوى في النفس ، والرسول يقول ” من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ” فأصبح كثير منا يرى المنكرات وكأنه لم ير شيئا من المعاصي ، فأين تغير القلوب والحمية للدين ؟
كم وكم هي الحقوق التي علينا أضعناها روى ابن ماجه وصححه الألباني أن رسول الله قال:( ولا نقص قوم المكيال إلا ابتلوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان ، وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا ) فقوله “ولم يَنقُصوا المِكيالَ والميزانَ “، بالتطفيف في الوزن والغش فيه عندَ البيعِ والشِّراءِ، وقوله”إلَّا أُخِذوا بالسِّنينَ”، أي: أصابَهم اللهُ بالقَحْطِ، والجَفافِ، وعَدَمِ نُزولِ المَطَرِ، وقِلَّةِ الماء، “وشِدَّةِ المَؤُونَةِ”، أي: الغَلاءِ وقِلَّةِ الزادِ والقوتِ، “وجَورِ السُّلطانِ عليهم”،
أي: ظُلمِ الوُلاةِ لهم.
ثم قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: “ولم يَمنَعوا زَكاةَ أموالِهم إلَّا مُنِعوا القَطْرَ من السَّماءِ”، ولولا وُجودُ البهائِمِ ما نَزَلَ عليهم المَطَرُ من السَّماءِ؛ لأنَّهم لا يستَحِقونَه، وهذا دليلٌ على شِدَّةِ غَضَبِ اللهِ عليهم .
عباد الله : لقد ضعف تعلق القلوب بربها ، حتى أصبحت نظرتها مادية ، فلا تحسب إلا بموازين البشر ، فلا يحبس مطر او يقل إلا من وجود حائط يصد من المنخفضات الجوية للبلاد ، وهذا كما يقول الشيخ ابن عثيمين من الأمور
الجاهلية التي صرفت الإنسان عن تعلقه بربه.
عباد الله: ألا ترون كيف يتجاوز ممطر السحاب بلدنا ومزارعنا ؟ هلا نقمنا على أنفسنا ، ولما حل بنا ما نرى كيف لانعجب ،وبعض المسلمين بل ومن أبنائنا من لا يشهد الجماعة إلا ما ندر ، فدونكم طلبة الثانوي وصلاة العصر والمغرب كم أولئك الذين ينامون عنها ، بل وبعضهم لا يصليها إلا بعد وقتها ، وما ينفعه ذلك ؟! ولا ناصح لهم إلا القليل ، ما حال الآباء مع أبنائهم لقد ضيع الأكثرون وليس الكثيرون الأمانة تجاههم فلا يراهم إلا على طعام أو في فراش ، أما النساء ومن كان يقال عنهن صانعات الأجيال فصرنا مزاحمات للرجال في المراكب والأعمال ، فأصبحنا في حال تسر العدو وتذيب الكبد ، فمن رحمة الله تعالى بخلقه، ولطفه بعباده، أنه لم يعاملهم في الدنيا على وفق أعمالهم وإلا لأهلكهم، ولكنه عاملهم بمقتضى اضطرارهم إليه، وافتقارهم له، فوسعهم برحمته، وشملهم بحلمه، فلولا رحمة ربنا لأهلكنا ولكن ( ويعفوا عن كثير ) .
نسأل ربنا الرحيم الرحمن أن يعاملنا بفضله وعفوه .
أقول ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية :
الحمد لله غوث المستغيثين ، وكاشف كرب المكروبين (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ) ، وأشهد أن محمداً رسولُ الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أولي الفضل والزكاء ومن بهداهم اهتدى .أما بعد ،
عباد الله : روى ابن سعد عن سليمان بن يسار، قال: “خطب عمر بن الخطاب الناس في زمن الرمادة، فقال: “أيها الناس اتقوا الله في أنفسكم، وفيما غاب عن الناس من أمركم، فقد ابتليت بكم وابتليتم بي، فما أدري السخطى عليَّ دونكم، أوعليكم دوني، أوقد عمتني وعمتكم، فهلموا فندع الله يصلح قلوبنا، وأن يرحمنا، وأن يرفع عنا المحل”، قال: فرئي عمر يومئذ رافعًا يديه يدعو الله، ودعا الناس، وبكى وبكى الناس مليًا، ثم نزل،
وكان يقول: “اللهم لا تهلكنا بالسنين (أي بالقحط) وارفع
عنا البلاء”، يردد هذه الكلمة .
عباد الله : هذا ما صنعه فاروق الإسلام والمبشر بالجنة ، فلم يلق اللائمة على الآخرين بل جعلها مشتركة بين الجميع ( فما أدري السخطى عليَّ دونكم، أوعليكم دوني، أوقد عمتني وعمتكم) ، فالواجب أن يراجع كل نفسه ولا يلق باللوم والمعصية على غيره من اشخاص أو جهات ، فوالله لو أصلح كل منا نفسه وأهله لصلح مجتمعه والمسؤولون فيه رغما عنهم ، اذ هم من ذلك المجتمع.
ولو استقبح المسلم ما يراه من منكرات في بيته وأهله ومجتمعه وغضب لله نصحا وارشادا لأصلح الله الحال الى الأحسن ، إلا أنه ضعف تعظيم الرب في القلب ، فحتما سيتساهل بالمعاصي والمخالفات فضلا عن انكارها والله تعالى يقول 🙁 وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم )
فما نراه من شحٍّ في الأمطار في أماكن وقلةٍ في النبات إنما
هو بسبب الذنوب والمعاصي التي تمنع الرزق وتمحق البركة، وإن شؤم المعصية ليعم الصالح والطالح ، حتى البهائم والحشرات، فقد قال عكرمة -رحمه الله تعالى-: “دواب الأرض وهوامها -حتى الخنافس والعقارب- يقولون: مُنعنا القطر بذنوب بني آدم” فاحذروا عباد الله غضبَه، وشديدَ عقابِهِ، فهو القائلُ: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ﴾
والله سبحانه يُعطي لحكمةٍ، ويمنع لحكمةٍ، فيبتلي عباده بالسَّراءِ لعلَّهم يشكُرُون، ويبتليهم بالضراءِ لعلَّهم يتوبون ويستغفرون، ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾
اللهم إنا نحمدك ونشكرك على خيرك العميم ، ولطفك بنا ، نحمدك على ما أنزلت علينا من الغيث، اللهم تابع علينا خيراتك، واجعل ما أنزلته صيبا نافعاً ، وعطاء مشفوعاً برضى ، اللهم أسل لنا الأودية ، واغمر به المزارع ، واجعله بلاغًا للحاضر والباد ، ،اللهم لا تحرمنا خير ما عندك بشرِّ ما عندنا، اللهم إنا خلقٌ من خلقِك ، فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، واجعل ما أنزلت علينا قوةً لنا وبلاغًا إلى حين ، اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا هنيئًا مريئًا غدقًا مجلّلا سحًّا طبقًا نافعًا غير ضار عاجلًا غير آجل ، اللهم لتُحُيي به البلاد وتَسْقِي به العباد ولِتَجْعَله بلاغا للحاضر والباد.
اللهم آمنا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ،