الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله ( ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا )
روى أحمد وصححه الألباني أنه لما كان عام الفتح سنة ثمان من الهجرة وقد أقبل جيش النبي نحو مكة وقف رسول الله ﷺ بذي طوى ، قام أبو قحافة والد ابي بكر وكان قد نيف على التسعين كفيفا ولم يكن اسلم يومئذ فقال : لابنة له من أصغر ولده ، أي بنية : اظهري بي على أبي قبيس ليستعلم خبر قدوم النبي ، فقال : يا بنية ماذا ترين قالت : أرى سوادا مجتمعا قال : تلك الخيل فإذا دفعت الخيل فأسرعي بي إلى بيتي ، فانحطت به وتلقاه الخيل ، فلما دخل رسول الله ﷺ مكة ودخل المسجد أتاه أبو بكر بأبيه يعوده ، فلما رآه رسول الله ﷺ قال : هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه ؟ فأجلسه بين يديه ، ثم مسح صدره ثم قال له : أسلم فأسلم ، وكان رأسه كأنه ثغامة ، فقال رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – : غيروا هذا من شعره .
هكذا كان صنيع العظماء مع كبار السن ، مع كفرهم فكيف بمن شابت لحاهم في الاسلام ، فمقامه ومكانته التي هي من تعظيم الله واجلاله يجب أن يربى عليها الصغار ، روى أبو داود وحسنه الألباني قَالَ ﷺ: “إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ”.
كما أمَرَ كذلك باحتِرامِ الكبير وتوقِيرِه، وحُسن رِعايتِه وإجلالِه ، روى الترمذي وصححه الألباني عن أنسِ بن مالكٍ – رضي الله عنه – قال: جاءَ شَيخٌ يُريدُ النبيَّ ﷺ ، فأبطَأَ القَومُ عنه أن يُوسِّعُوا له، فقال النبيُّ ﷺ: «ليس مِنَّا مَن لم يرحَم صغيرَنا، ويُوقِّر كبيرَنا»؛
فمن تلكم الحقوق :
ابتداؤه بالسلام: لقوله ﷺ: (يسلم الصغير على الكبير، والمار على القاعد، والقليل على الكثير) قال الشيخ ابن عثيمين : إذا دخلت مجلسا فابدأ بالأكبر كما جاء في الحديث عن النبي ﷺ ، ثم بمن عن يمينك ) وتقديمه في المناولات، وسائر الأمور: لما رواه الشيخان عن ابن عمر عن النبي ﷺ قال ” أراني في المنام أتسوك بسواك، فجذبني رجلان، أحدهما أكبر من الآخر، فناولت السواك الأصغر منهما، فقيل لي: كَبِّر ، فدفعته إلى الأكبر ” قال الشيخ ابن عثيمين : عند الدخول وإعطاء القهوة أو الشاهي أو
البخور ابدأ بالأكبر، ثم بمن عن يمينك حتى تنتهي)
من إجلال الكبير أن يوسع له في المجلس إذا دخل عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : جاء شيخ يريد النبي ﷺ فأبطأ القوم عنه أن يوسعوا له فقال النبي ﷺ (ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا).
ومن إجلال الكبير أن يقدم عند الكلام فقد ثبت في الصحيحين أن ثلاثة أتوا النبي ﷺ ليتكلموا معه في قضية قتل فأراد أخو القتيل أن يتكلم وكان أصغرهم فقال له ﷺ (كَبِّر كَبِّر) يريد دع الحديث لمن هو أكبر منك سناً.
ومن اجلاله التلطف معه ومراعاة أخلاقه وسرعة غضبه فإن كِبَرَ السنِّ مظِنَّةُ السآمَة والتعبِ، والوَهَنِ وضعفِ الجسَدِ، وما يكونُ نتيجةً لذلك مِن قِلَّة الصبرِ وحِدَّة اللِّسان، ومع هذا كلِّه فدونكم سيرة أعظم الناس خلقا ﷺ لما أتاه ذلكم الشيخ الكبير يقال له مخرمة وَكَانَ فِي خُلُقِهِ شِدَّةٌ فإنه جاء مع ابنه المسور إلى رسول الله ﷺ يريد أن يطلبه قَباء فلما وقف على باب النبي ﷺ قال لابنه ادعه لي “فَسَمِعَ النَّبِيُّ ﷺ صَوْتَهُ، فَأَخَذَ قَبَاءً، فَتَلَقَّاهُ بِهِ، وَاسْتَقْبَلَهُ بِأَزْرَارِهِ، فَقَالَ: «يَا أَبَا المِسْوَرِ خَبَأْتُ هَذَا لَكَ، يَا أَبَا المِسْوَرِ خَبَأْتُ هَذَا لَكَ»،. متفق عليه ، فانظر كيف بادر النبي ﷺ اليه بالخروج وكيف يخاطبه بالكنية يا أبا المسور، وكيف تلطف معه فابتدأه بإعطائه القَبَاء قبل أن يسأله، وانظر إلى إظهاره الاهتمام به في قوله (خبأت لك هذا) أي لأخصّك به ، فصلوات الله وسلامه عليه ما أعظم خلقه وما أحسن هديه.
ومما يرعى من حقوقهم تخفيف الإمام الصلاة وفق السنة لا بالإخلال بها مراعاةً لهم، قال ﷺ: (إذا صلى أحدكم للناس فليخفف؛ فإن منهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء)
روى ابن حبان وصححه الألباني عن ابن عباس رضي الله
عنهما، أنه ﷺ قال:( البركة [وفي رواية:(الخير)] مع أكابركم) فمن بركة شيبتهم وطول خبرتهم وفور العقل لديهم تقدم مشورتُهم ويحترمُ رأيهم .
روى أبو يعلى وصححه الألباني عن أنس قال : (ألا أُنبئُكم بخِيَارِكم ؟ خيارُكُم أطولُكم أعمارًا إذا سُدِّدُوا ) وعند ابن حبان (خيارُكم أطولُكم أعمارًا وأحسَنُكم أعمالًا )
فيا مَن تبحَثُون عن الخير والبركةِ في حياتِكم! تلمَّسُوها مع كِبار السنِّ فيكم، إنها بركةُ البِرِّ والإحسانِ، والرأيِ والمشُورةِ، والمُجالَسَةِ والمُؤانَسَةِ.
عباد الله : ألا وإن أحق وأولى من تقدم له تلك الحقوق في الكبر هما الوالدان كما قال جل وعلا : (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) والخسار لمن ضيع ذلك ففي صحيح مسلم «رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف»، قيل: من؟ يا رسول الله قال: «من أدرك أبويه عند
الكبر، أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنة»
وكما تدين تدان روى الترمذي باسناد فيه ضعف عن أنس مرفوعًا بلفظ: (ما أكرم شاب شيخًا لسنِّه، إلا قيَّض اللهُ له مَن يكرمه عند سنِّه) قال الشيخ ابن باز : لكن شواهده معروفة من أدلةٍ أخرى .
إن رِعايةَ كِبار السنِّ – يا عباد الله -، والقِيامَ على مصالِحِهم وشُؤونِهم مِن أعظم القُرَب، وأجَلِّ الوسائل لتفرِيجِ الكُرَب، وتيسيرِ كل أمرٍ عسِيرٍ، وخاصَّةً إذا كان كبِيرُ السنِّ أبًا أو أُمًّا.
كما في “الصحيحين”: في قصَّة النَّفَر الثلاثة الذين آواهم المبِيتُ إلى غارٍ، فدخَلُوا فيه فانحَدَرَت عليهم صخرة، فسدَّت عليهم الغارَ، فتوسَّلَ كلُّ واحدٍ مِنهم بصالِحِ أعمالِه، فكانت وسِيلةُ أحدِهم: قِيامَه بهذا الحقِّ العظيم، حقِّ رِعايةِ أبوَيه الشيخَين الكبيرَين، فكان سببًا في نَيلِ مطلَبِه، وتفريجِ كُربَتِه.
بل إن السعيَ على الشَّيخَين الأبوَين الكبيرَين ميدانٌ مِن ميادِينِ الجِهادِ في سبيلِ الله.
ففي “مُعجم الطبراني”: عن كعبِ بن عُجْرة – رضي الله عنه – قال: مرَّ على النبيِّ ﷺ رجُلٌ، فرأَى أصحابُ النبيِّ ﷺ مِن جلَدِه ونشاطِه ما أعجَبَهم، فقالُوا: يا رسولَ الله! لو كان هذا في سبيلِ الله! – أي: لو كان هذا الجلَدُ والنشاطُ في سبيلِ الله لكان أحسَنَ -، فقال رسولُ الله ﷺ: «إن كان خرَجَ يسعَى على ولَدِه صِغارًا، فهو في سبيلِ الله، وإن كان خرَجَ يسعَى على أبوَين شيخَين كبيرَين، فهو في سبيلِ الله، وإن كان يسعَى على نفسِه يُعِفُّها، فهو سبيلِ الله، وإن كان
خرَجَ رِياءً وتفاخُرًا، فهو في سبيلِ الشيطانِ».
جعلنا الله بررة أتقياء ، وبأدب الإسلام سعداء .
أقول ما سمعتم …
الخطبة الثانية :
الحمد لله
طول العمر نعمة إذا استغل المعمّر عمره في طاعة الله كما قال ﷺ وقد سئل مَن خيرُ الناس فقال “من طال عمره وحسن عمله” رواه الترمذي
ومما يحفظُ الصحةَ والقوة مع كبر السن: طاعة الله تعالى، وعدم استخدام الجوارح في معصيته، وهذا معنى قوله ﷺ: “احفظ الله يحفظك”، فمن حفظ الله في صباه وقوته حفظه الله في حال كبره وضعف قوته، ومتَّعه بسمعه وبصره وحوله وقوته وعقله..
كان ﷺ قلّما يقوم من مجلس حتى يدعو الله “اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهوّن به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا” (رواه الترمذي)، والمراد إبقاء قوته إلى وقت الكبر..
وتعوّذ ﷺ: ” من العجز والكسل، والجبن والهرم” (رواه البخاري)
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، .. واحمِ حَوزةَ الدين، واجعَل هذا البلدَ آمنًا مُطمئنًّا، وسائرَ بلادِ المُسلمين.
اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكانٍ، اللهم فرِّج همَّهم، ونفِّس كربَهم، اللهم احقِن دماءَهم، واحفَظ أعراضَهم، واشفِ مرضاهم، وتقبَّل شُهداءَهم.
اللهم مَن أرادَنا وبلادَنا ..